استنفرت ذاكرتي دون أن تسعفني في استرجاع متى تعرفت على الفنان والصديق سعيد المفتاحي للمرة الأولى، ولا كيف تخلقت صداقتنا لتستمر، بعد ذلك لسنوات طويلة، مخضبة بلوينات القرب والبعد، وانعطافات الحضور والغياب. أذكر فقط أن محبة الفنون والتراث والمدينة التي كنا نلهج باسمها، وحدها قد هيأت لنا بمصادفاتها الماكرة مناسبات اللقاء وفضاءاته. كنا بعد أغرارا نحمل مشاريعنا الشخصية في الصحافة والكتابة والبحث والمسرح والتشكيل والشعر...وكأنها ستتحقق غدا أو بعد غد. حينئذ كان سعيد «علامة فنية صاعدة» داخل أسوار مكناس وخارجها، و»كَرَّاحا» مبرزا قد وضع فعلا قدمه على سلم «النجومية» طي»ميكرو-كوزم» الملحون المغلق، بعد أن خرج من جلابيب الشيوخ، وأجازه كبار الحفظة والمنشدين، واقترن اسمه وصورته منذ البداية، بأسماء وصور الرموز، في التلفزيون والصحافة والأشرطة والمجالس، وفي مقدمتهم الحاج الحسين التولالي رحمه الله. ولعي بالملحون، الذي كنا نعلن من خلاله على طريقة «اهل مكناس»عن انتمائنا إلى المكان، هو اللحمة التي جمعتني وغيري من الأصدقاء في جمعية البحث في التراث، وجمعية الباحثين الشباب، واتحاد كتاب المغرب، بالفنان سعيد المفتاحي في البداية.ولكن سرعان ما نجح سعيد بظرفه وألمعيته وحسه الإنساني الدافق في تعميق شغفنا بالملحون، إذ أصبح بسجيته وقاموسه المقطر وحرصنا على حضوره بيننا، الجسر الذي نعبر من خلاله إلى هذا الفن كما هو متلبس بذاكرة المدينة العتيقة، ورجالاتها، وصنائعها، وأزقتها، وحوانيتها، وحصير مقاهيها. فما إن يلتحق سعيد بالشلة حيث كنا نلتقي، في «مقصف» المعهد الفرنسي أو في أحد «مزارات حمرية» العامرة، حتى يستميلَ الجميع، ويغدو هومركز الجلسة والحديث والحكي. نسأله عن القصيدة ونسبها، ونستفسره عن الشيخ ومريده، ونستنجد بحافظته في ضروب «الحرامي» و»الحراز» و»الحجام» و»الساقي» و»الحسبي»، وغيرها.لم يكن ليضن بما يشفي الجليس، مستعينا في ذلك بما تشربه من أدبيات العلامة محمد الفاسي والبحر أحمد سهوم، والدكتور عباس الجراري، وما تلقاه سمعا من روايات ومتون ومأثورات على أفواه الرواد مباشرة. وبترافعه اللاإرادي عن الملحون وعوالمه، كان سعيد يؤسس، دون أن يتقصد ذلك ربما، لوضع اعتباري جديد ومختلف لرجل الملحون في أوساط النخب المثقفة، و»أعيان» المعرفة والفن والإبداع بالمدينة. واصل سعيد تألقه في حواضر الملحون: مكناس وتافيلالت وفاس وسلا ومراكش وتارودانت، وحمل نجاحاته إلى روتيردام وباريس وروما، وغيرها من العواصم العالمية التي ارتحل إليها، أو حيث استقر به المقام. واليوم، عندما نستحضر هذا المنجز الثر والوازن الذي راكمه سعيد المفتاحي طيلة ثلاثة عقود، نستيقن أننا لم نخطئ عندما كنا نتطلع إليه حينها، وخلال لقاءاتنا ومسامراتنا، باعتباره وريثا شرعيا لوديعة بنعيسى الدراز والتولالي والخياطي وأكوميوبَّاعزيزي والوالي ولعناية والمربوح والسويسي، وشيوخ آخرين في النظم والإنشاد والعزف. إلا أن سعيد لم يكتف بأن يكون فحسب مأتمنا على رصيد الأسلاف، أو حلقة أخرى في سلسلة تواتر فن الملحون من جيل إلى آخر، ولكنه أبدع كذلك في تجديد هذا الفن من خلال تخصيبه بروافده التراثية الأخرى ( العيساوي/ الحمدوشي/ هل التوات...)، واستكشافه لمسارات وتجارب غير مطروقة في التأليف والإنشاد والعرض، من شأنها أن تفرد للملحون مكانة في المشهد الغنائي والموسيقي الراهن، لا بوصفه نمطا تراثيا أو شكلا فولكلوريا، وإنما بما هو إبداع يمتلك مقومات التجدد، والتطور، واختراق الحدود، والانتماء إلى اللحظة الفنية. ورغم انشغالاته ومشاريعه الفنية وسفرياته المهنية التي تقوده إلى مختلف عواصم العالم، فإن سعيد لا يتوانى في السؤال عن أصدقائه. ويكفي أن نلتقي ولو بكيفية عابرة، في الرباط أو مكناس، حتى تستشحذَ صداقتُنا صفاءها، ونحاول معا استعادة بعض ما أضعناه منا في دوامة اليومي وأتون الحشود، رغم أن الزمن ليس الزمن. نتنادر بالذكريات الجميلة والممتلئة، ونعرّج على المفاوز التي اجتزناها، معا أو كل من جهته، بأقل الأضرار، ونسخر أحيانا من أنفسنا لأننا نتسلق بالكاد السور القصير الذي يحيط بالمراعي الخضراء التي وصلنا إليها أخيرا. (*)- شهادة ضمن كتاب جماعي سيصدر قريبا بباريس، حول تجربة منشد الملحون والفنان سعيد المفتاحي.