هذه المشاهد عبارة عن حكايات عابرة على الرصيف ، وقد اقتنصتها عين الرائي ، وهربتها إلى هذا البياض ، كي تكون شاهدة على ما يزخر به الواقع من مفاجآت ومفارقات . هذه المشاهد لم أضرب لها موعدا . الصدفة وحدها قادتني إليها ، وأنا على رصيف هذا المقهى أو ذاك أقرأ جريدة ، أو أنتظر قدوم صديق ، وبين الحين والآخر أرفع بصري ، كي ألمح ما يحدث حولي ، ثم أعود إلى ما كنت فيه . أحيانا يستوقف العين مشهد ما لجمال فيه ، أو لغرابة تشغل العقل بأكثر من سؤال . دائما ثمة ما يثير شغف العين ، هذه الحاسة الساهرة على التقاط مئات ، إن لم نقل آلاف الصور، التي تبعث بها إلى جهات الفهم في الذات ، كي تبث في أمرها سلبا ، أو إيجابا . المشهد الأول بطله لم يكن من العابرين ، بل جالس مع شخص آخر على الطاولة المجاورة . كان يتحدث بصوت عالٍ كما لو أنه يريد من الجالسين سماع قصته . خاطب جليسه ، وهو متوتر يدخن السيجارة تلو الأخرى : « بالأمس ألمَّت بزوجتي نوبة قلبية حادة ، ولولا ألطاف الله لكان الأجل المحتوم . أخذتها على وجه السرعة إلى مستعجلات المصحة التي تتردد عليها بشكل دوري من أجل الفحوصات . في الاستقبال طلبوا مني مبلغا ماليا لا أتوفر عليه ساعتها . قلت لهم بأن يدخلوها إلى غرفة الإنعاش أولا ، والمال سأحضره لاحقا . كان اليوم يوم أحد ، والمبلغ المطلوب كضمانة لا أتوفر عليه ، وبالتالي علي أن أنتظر يوم الاثنين كي أستلف بعض المال من الزملاء في العمل . رفضوا رفضا قاطعا . صرخت منددا بأعلى صوتي : أهذه هي إنسانيتكم ؟ إن حدث مكروه لزوجتي لن تروا مني إلا ما يسوؤكم . بهذا الصخب والتهديد قبلوا أن يأخذوا مني الشيك على أساس أن يكون التسديد يوم الاثنين وإلا دفعوه إلى الجهات المعنية بإصدار شيك بدون رصيد . كدت أقبل رأس الطبيب الرئيس، الذي حضر بعد سماعه صخب احتجاجي . المهم هو أن الزوجة اجتازت الأزمة،وتعافت بعض الشيء.» سكت عن الكلام ، وهو يهم بقدح الولاعة التي استعصت . قذف بها بعيدا معلقا « الله يستر كُلْشي مْعَكَّسْ فْ هادْ لَبْلادْ» . أشعل سيجارته بولاعة جليسه ، وأخذ نفسا عميقا كاد أن يلهب السيجارة ، ثم واصل الحديث بذات النبرة العالية ، بحيث استطاع أن يثير فضول الآذان المجاورة له . شجعه على ذلك أيضا اهتمام جليسه المتتبع بشغف إلى حكايته مع أصحاب المصحة .»استلفت من الزملاء الذين تعاطفوا معي، واستلمت الشيك من المصحة ، لأنه بلا رصيد . أعرف أنني جازفت . في اليوم الموالي،أي الثلاثاء طلبت قرضا من شركة القروض ، وهو القرض الثالث في ظرف سنة . قمت بتسديد دَيْن الزملاء ، وتركت جانبا مبلغا للطوارئ . معي الآن ما يكفي لنجوب أنا وأنت كل حانات المدينة نكاية بهذا العالم الضاج بالمشاكل . هيَّا معي الآن ، وكفى من هذه الجلسة البئيسة الباردة على رصيف المقهى . كفى من هذا البُنِّ المغشوش .هيَّا نعربد بعض الوقت»، ثم أردف ضاحكا : « تَبْكي عْلى امْها «. المشهد الثاني : شاب أنيق . بِذلة وربطة عنق ، وحداء ملمَّع. كان يسير، حين وقف من أجل إشعال سيجارة من النوع الرفيع . استدار جهة اليمين لأن ريحا كانت تهب من الشِّمال. اكتشف أنها آخر سيجارة في العلبة . نفث الدخان ، أما العلبة فقد طرحها أرضا ، وواصل السير . في ذات الوقت كان ثمة شخص آخر يمشي في نفس الاتجاه . انحنى وأخذ العلبة ، ووضعها في سلة المهملات المتواجدة في نفس المكان.الشاب فطن للأمر . توقف عن السير ، ثم عاد أدراجه .اتجه إلى سلة المهملات ، مد يده ، وأخرج علبة السجائر الفارغة ، وطرحها مجددا على الرصيف . الرجل الثاني اكتفى بالاستغراب من هذا السلوك الأرعن ، وبقول لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ، ثم واصل السير . المشهد الثالث : كان الرجل الخمسيني المُكرَّش يهمُّ بالصعود إلى سيارته الرباعية الدفع ، وفي يده كيس مليء بمشروبات روحية اشتراها من دكان لبيع الخمور قريب من المكان الذي ركن فيه سيارته الفارهة . حدث هذا في مركز المدينة . بمجرد أن وضع الرجل الذي يبدو عليه أكثر من نعيم القدم اليمني من أجل الصعود إلى كرسي القيادة ، تَمَّ خطف الكيس في لمح البصر من طرف مراهق طويل القامة ، وبحذاء رياضي . تعقبه الرجل ركضا لبضع أمتار ، ثم توقف يلهث ، أما اللص فقد كان كالسهم ، وهو يركض ، قبل أن يختفي عن الأنظار ، كما لو أنه شبح . المشهد الرابع : بدا له شاب في عقده الثالث . كان يتلمس الطريق بعكازه لأنه كما يبدو أعمى . توقف ، كأنه ينتظر أحدا لمساعدته على عبور الشارع الصاخب بمختلف وسائل النقل . فكر في مد يد العون له. تقدم منه وسأله إن كان يريد المساعدة . أجابه بالإيجاب ، و شكره على فعله النبيل . أمسك به ، وهما يعبران الشارع ، ولاشك أن كل الذين رأوا صنيعه استحسنوه . بعد العبور ، وقبل أن يغادر المكان طلب منه أن ينادي على سيارة الأجرة لأنه يود الذهاب إلى وجهة ما . لبَّى له هذا الطلب . انطلقت سيارة الأجرة بالضرير إلى وجهته ، أما صاحبنا فاعل الخير ، فهو عندما تفقد حافظة نقوده لم يجد لها أثرا . أدرك مقلب الشاب الذي ادعى أنه أعمى . لم يتمالك الوقوف ، لأن المبلغ المسروق منه هو راتبه الشهري بالكامل ، وأنه ساعة تقديمه يد المساعدة كان خارجا للتو من المؤسسة البنكية . دار العالم من حوله ، وفكر قبل الذهاب إلى مخفر الشرطة لوضع شكاية في الكيفية التي سيتدبر بها مصاريف شهر بكامله . صاحب المقلب ، بعد أن قطعت به سيارة الأجرة مسافة قصيرة ، أدى ما عليه ، ثم نزل من غير العكاز والنظارات السوداء ، وغطاء الرأس . عبر الشارع باتجاه الحانة التي يتواجد فيها أصدقاؤه ، ويده في جيبه تتلمس المبلغ الهام الذي ظفِر به ؟