ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية كردية : الحب في زمن الألم


[frame="12 100"]
[right][b]
الحب في زمن الألم
رواية كردية تأليف :محسن عبدالرحمن
ترجمة :سامي الحاج
1
ألقی تحیة الختام ورفع کفیه الی السماء یتضرع. أکمل ابتهالاته وتسبیحاته، وبخروجه أقفل خادم المسجد باب المصلی بالمفتاح. في حدیقة المسجد کان الشیوخ یعقدون جلستهم الیومیة المعتادة، هذا هو عملهم کل یوم. اصحاب الاشغال یؤدون صلاتهم علی عجل ویغادرون، لكن هؤلاء لا یصدقون متی تنتهي صلاة العصر حتی یجلسوا مع بعضهم علی بساط الثیل الاخضر بین الورود وانواع الزهور وفي ظل شجرة التوت یتجاذبون أطراف الحدیث، ومن ذكریات ایام الشباب وتحلیل السیاسات الدولیة والاقتصاد مروراً بقضایا الحي والجیران.. حتی مشاكل الحموات والكنّات، ناهیك عن مواضیع الفوضی والتسیب والانحلال الذي وقع فیه ابناء الجیل الجدید.
- ما الذي دهاك یوم أمس صوفي عنتر؟ کنت مستاءاً جداً!... قال جانكیر.
- ذهبت الی احدی الدکاکین، وجدت ان صاحبه هو عزیز ابن دَحو العریان، ونظراً للصداقة التي کانت تربطني بوالده في عهد (زاهر آغا البَرازي) فقد رحت أکلمه معاتباً وأنا مطمئن، في الحقیقة کانت صداقتنا اکثر من مجرد علاقة اخوّة، قلت له " لو قال لي والدك یومها لنذهب یا عنتر ونقتل احدهم، لألتقطت بندقیتي وتبعته دون أن أسأله أو انتظر الجواب، لم أکن لأسأله من هو أو لماذا؟ الصداقة في زماننا کانت بهذا الشكل، لكن لو طلبت منك الآن، وانت نجار، ان تدق لي مسمارین في هذا اللوح لأستثقلتَ الامر" وما ان اکملت کلامي حتی استلمني صاحب الدکان الذي بعمر حفیدي.
- یا مسلم، کنت ستقتل انساناً لو قال لك والده دون ان تعرف حتی اسمه، أو لماذا؟ منذ ساعتین وانت تلقي علی مسامعنا النصح والموعظة، الرحمة، المروءة، الضمیر، العدالة والاخوة والسلام.. وفي النهایة کنت ستقتل انسانا لو طلب منك والده ذلك؟!
- عرفت کیف دخلت الدکان، لكني لم أعرف کیف‌ خرجت منه!
- خرجت أم هربت؟
- ولكن هل علمتم ان بعض الحطابین قد عثروا یوم امس علی جثة امرأة في الجبل؟
وقبل ان یكمل ما بدأه، قطع مجاوره حدیثه...
- تستحق ذلك. فال..... التي تُقتل، ماذا سیكون السبب وراء ذلك سوی العهر؟
استلم صاحبه الحدیث منه:
- سلمت یداه ذلك الذي اطلق الرصاص
قال اکثرهم فهماً وعلماً، وهو یعتمر کوفیة الحج الصفراء اللون ویطقطق احجار مسبحته:
- هیه.. هیه.. لقد خُلقن من ضلع أعوج، لا بد ان تكون عصا الرجل مسلطة دوماً علی رقابهن، فما أن یرین الفرصة سانحة امامهن حتی یفعلن ذلك، لقد جاء في القرآن (إن کیدهن عظیم).
قال صاحب المسبحة ذات المائة حبة وحبة:
- الامور کلها اصبحت في ید النساء فكیف سنوفق في حیاتنا؟ المدارس والمستشفیات وایة دائرة او مكان تذهب الیه تجده ملآی بالنساء. ما نتعرض له هو خسف من السماء، فالله لا یرشق السهام! إنما إذا أراد أن یعاقب قوماً أکثرَ فیهم المفسدین، عندئذ یستحقون عذابه وعقابه فیسلط علیهم احد الظالمین.
قال درباز محو المعروف کمرتزق، ولاعته في یده علی اهبة الاستعداد لحرق ‌أي مكان یصل الیه، إن لم یكن قریة فبستان کروم أو ربما مخزن علف أو أي شئ آخر:
- نعم ستجد علی الدوام اشخاصاً غيورین ویرفضون الظلم في هذه الامة.
هكذا، وبقدر ما کانت الحادثة فانهم زادوها عشرة امثالها وتحولت من حبة الی قبة کما یقال، واصبح البعض منهم شهوداً بان المرأة کانت عاهرة لا یُشق لها غبار.....
- ان سیطرة دول الكفر، والمجاعة والبلوی التي یتعرض لها هذا الشعب المؤمن هو عقاب الهي.
الصوفي (عَمو) الذي امضی حیاته کلها هارباً متخفیاً بین الجبال والبراري، خادماً للآغا وتابعاً له، جال في کل المنطقة من (زیبار) و (جولميرك) حتی (وان) و (حلب). خلال عشرین سنة لم یهنأ فیها لعشرین لیلة بالنوم في فراش نظیف او یتناول رغیف خبز ساخن کبقیة البشر، کل عمله کان لصوصیة وقطعَ طرقٍ لصالح الآغا والنتیجة: القلیل مما یُشبع البطن فقط.. فعل کل ذلك، فقط کي لا یخدم ثمانیة عشر شهراً في الجیش. طوال حیاته لم یؤد عملاً ینضح فیه جبینه الناصع عرقاً، قال الصوفي عمو بثقة راسخة:
- صدقت والله.. سیطرة الكفار علینا هذه، عقاب الهي.
وعندما یأتي احدهم الی المسجد بعد انقضاء صلاة الجماعة، طبعاً سیجد باب المصلی مغلقاً فیضطر الی اداء الصلاة في الباحة، وهكذا کان الشاب الذي اصطبغت ملابسه بمختلف الوان طلاء الدور یؤدي صلاته قرب مجلس الصوفیة والمریدین وقد استمع عرضاً الی جانب من نقاشهم، انهی صلاته وبدأ یلبس حذاءه. التفت الیهم وتنهد بعمق وهو یهز رأسه. الجلسة الدائریة ذکرته بالطاولة المستدیرة للمجلس الحربي الانكلیزي في عهد (ریتشارد قلب الاسد)، قال مبتسماً:
- یا معشر المتصوفة والحجاج، أ‌ي حاکم أفضل، الكافر العادل أو المؤمن الظالم؟
- ماذااااا؟ رد الجمیع بذهول
- ایمان في ظل القمع والانفال، او کفر في ظل حمایة أربع من طائرات التحالف؟!
الانفال... عندما تُذکر هذه الكلمة، تخرس الالسن، تنكسر رؤوس الاقلام وتقفز الی الذهن صور القتل والتدمیر، الحرق والنهب، انه یومٌ تم فیه تنویم ضمیر الانسانیة تحت ضغط المصالح... یوم، لم یبق لله والدین والانسانیة والاخلاق وکلِ الاشیاء الجمیلة مكانٌ فيه، ونُسي کل الاولیاء والصالحین، ذلك الیوم الذي توقف الزمن فیه، وللمرة الاولی مذ خلقت الشمس أُغلقت کل ابواب الخیر وبالمقابل أُشرعت ابواب الجحیم السبعة علی مصاریعها امام بشر لا یملكون بین ایدیهم شیئاً یمكنهم المقاومة والدفاع به‌ عن انفسهم، فأما أسری ومن ثم زرعهم أحیاء في رمال الصحراء أو محظوظین تمكنوا من الزحف علی بطونهم والعبور علی خطوط فاصلة وهمیة.. لكي یقعوا تحت تهدید ووعید الجندرمة والعسكر.
کان یشد رباط حذائه باصابعه، شعر بتیبس ساقیه، مثل ذلك الیوم.. استحالت ساقاه من تحت رکبتیه حدیداً.. في کل خطوة یخطوها تغوص قدماه کالمهباش نصف شبر في الطین، استجمعت الارض کل قوتها المغناطیسیة في الالف شبرٍ ما قبل الحدود، غاصت حبالُ شدِّ الحِمل في لحم کتفیه، ذکّره الحمل الاضافي فوق کتفیه برحلة الاسكندر الاکبر الاسطوریة عندما حمل جده في سلة محصول القطن، غربت الشمس واشرقت ثم غربت مرة اخری. سخّر قوته کلها في خدمة قدمیه وفي فجر لفه الضباب ترك حِمله بلا تلقین بین شاخصتین تفصلان بین الحدود.
اکمل شد رباط حذائه، انسابت دمعة وسقطت علی الحذاء، لوعة علی الاب العجوز الذي ترکه علی الحدود بلا غُسلٍ وکفن وصلاةِ میت، تذکّره وهو یقول له آخر کلماته في‌ سكرات الموت الاخیرة:
- اترکني هنا، واعبر بزوجتك واختَیْك الحدود، فالذین یلاحقوننا قد رموا عِمامة الاسلام تحت أقدامهم، لو لم ننس مذابح وعار جلولاء ونهاوند وآمد وهمدان لما أصابنا الذي یصیبنا الیوم.
كان اختیاراً في غایة الصعوبة، ان تختار بین حَفرِ شبرین في التراب او الاختین اللتین في ربیع عمریهما والزوجة التي لم تجف حناء العرس في کفیها بعد.. وفیما کانت العائلة تنهي صعود التلة أکمل هو رصف کومة حجارة علی جثمان ابیه.
عند الخروج التفت الی الجماعة وقال (أموالهم حلال ونساؤهم جواري) واتجه صوب الباب.. احتدم النقاش في المجلس کحساء یغلي في قِدرٍ أوقدت تحته نار حامیة.
انحدرت الشمس فوق ارض الله صوب الغروب وبدأ الصراع الازلي بین الظلام والنور، اخذ الفیئ یزحف رویداً رویداً فوق المدینة لترجح في النهایة کفة الغسق، شأنَ کل یوم.
اتخذ الحاج شاهین طریقه الی البیت بمساعدة عكازه المصنوع من خشب السدر فیما کان ابنه (آزاد) یتجه صوب مرکز المدینة.
في صفرة الاصیل.. کان یتمشی في شارع حدیقة الشهداء، توقف عند رابیة تشرف علی البساتین والریاض التي کانت تتمایل اغصان الاشجار فیها في رقصة إلهیة مع هبات النسیم المنحدرة من الوادي، عند افق البریة شكّل لون قرص الشمس والغیوم معاً لوحة سریالیة.
جال ببصره في حدیقة اتحاد الادباء الذین کانوا یعدون لأمسیة شعریة، جلس علی عقبیه وراح یحدث نفسه ( هیه.. دنیا... مدینة دهوك وفیها من الشاعرات ما یكفي لأقامة امسیة شعریة خاصة بهن!! آه، لیت شیوخ وملالي ما قبل ثلاثین عاماً ینظرون الیكم الیوم..!!)
نظر جهة مستشفی (آزادي) وحي (سي كرکا). دقق النظر في شرق التلة الصغری وکأنه یبحث عن دار بعینها.. انثالت ذکریات الحبیبة کجریان ماء زلال علی قلبه الضامئ. استعاد شعوره، وضع نقطة في نهایة السطر علی الورقة، وراح یقرأ الكلمات التي سطرها قلمه : حبیبتي.. غداً ستسافرین الی بلد غریب وبعید، وحوالیك سیتحلق الشباب والشيوخ.. حفلات واعراس، رقص ودبك، سیختلط اللیل بالنهار، ستفقدین الاحساس بالوقت، وعندما لا یعود للوقت معنی لدیك وتتوقف افكارك، ستمر الایام والسنون بسرعة وذات لیلة بعد ان تتعبین من صخب حفلات المدینة الكبیرة ویسدل النوم غشاوته علی عینیك الخضراوین..ستطیرین في‌ احلامك، تقطعین البحار وتحطین ضیفة في العش الذي بنیته انا لك وتشمین منه عبیر الحیاة، عندها لا تعودي ثانیة، لا تندمي.. عندما تبتسمین یهدأ قلبي، ارجو ان تذکریني في منامك واکتبي لي رسالة وابعثیها، قولي فیها انك بخیر لكي اتذکر عینیك عندما انظر الی خضرة الربیع هنا، واتذکر شلال شعرك الذهبي عندما اری اشعة شمس الصباح والاصیل.. قلت لك حبیبتي، لا ارید حباً بالاکراه، انت لي کنرجسة جبلیة لو قطعوا عنك الماء سأرویك بدموعي، وان اقتلعوك من الارض زرعتك في قلبي.
جلس وحیداً في ذلك الطرف القصي، وکانت اسماء المشارکات في‌ الامسیة تتلى وهن یلقین قصائدهن تباعاً. فجأة تناهی الی سمعه اسم یعرفه، رفع رأسه، لیری من این ستنبثق قامة صاحبة ذلك الاسم، وعندما وقفت خلف المیكرفون قبالة الحضور شهق بدهشة وهو یمد عنقه کالنعامة : شيرین، صدیقة نسرین؟!
وبشفتین ذاویتین کوردة ضامئة خاصمتها الحمرة کانت تلقي القصیدة وهي تبعدهما عن المیكرفون مرة وتقربهما تارة اخری وکأنها تنوي قضمه. نظرات بریئة خجلی تطغی علی ملامح وجهها وعیونها تشع بأحزانِ امنیةٍ کبری وأمل مشرق.
کانت الكلمات تخرج من فمها بایقاع متسق، کعقد انفرط وراحت حبات الدر تتساقط بهدوء، وکان المستمعون من مختلف الشرائح، الذین حضروا دعماً وتشجیعاً للمدنیّة قد ملأوا الحدیقة، وهم ینظرون الیها بعیون جائعة. وفي الوقت الذي‌ کانت اذنا آزاد تتلقی الكلمات، کانت عیناه قد جعلتا ادیم وجهها کفنجانِ قارئة الحظ وانصهر فیه.
کان الحضور کالمتصوفة الذین یجلسون في الجامع یستمعون الی خطبة یوم الجمعة وهم یهزون روؤسهم ولا یفهمون منها شیئاً. والمجتمع الذي شرب من نبع الذكورة النرجسیة حتی الثمالة نطق لسانه بما في عقله الباطن، قال الرجل الذي صبغ شعر رأسه وشاربیه بالاسود وبكرشه الذي افترش حضنه کحامل في أواخر ایام حملها، وهو یحدث مجاوره:
- حقاً ان الادب الانثوي.. أدب!!
بدت علامات الاستیاء علی آزاد، لكن المكان غیر مناسب.
انفصم تفكیره‌ من مرکزه‌ واتجه‌ صوب اللاوجود اللامتناهي عندما ادرك ان لا أحد منهم یشعر بالكلمات، ماذا تعني وعن ایة آلام وآمال وتطلعات تعبّر. الرجل یری في المرأة انوثتها فقط.. غاب في ارخبیل الذاکرة.. في ارشیف سنوات المجاعة والبلوی، أحياناً تستحیل اعماقه زمهریراً وتارة یحرقها سعیر الجحیم، یود لو ان غضب السماء ورحمتها تجتمع مرة واحدة في عاصفة تقتلع الباروکات وتطیّرها لیكون لعمال البلدیة یوماً للنظافة العامة.
کان ینظر الی شرین والقلم یتحرك بین اصابعه...
مجتمع مراهقین، یتجملون بماکیاج المدنیّة ویقفون علی ارصفة الشوارع، یمتّعون ابصارهم بالنظر الی النساء، وعند الغروب یصطفون للصلاة، هنالك الكثیر من الاحداث المؤلمة نُقشت في سجل یومیات هذه المدینة، لكن هؤلاء فقدوا الذاکرة، تراجعوا عن الحنث العظیم والعهد المقدس الذي قطعوه علی انفسهم، من الشتاء الی الربیع تغیّرت الحیاة وغیرتنا معها.. نفس الوجوه وربطات العنق و.. تناهی الی اذنیه صوت خیالي (في مدینتا کل من وجد حوالیه اربعة شقاوات فهو بطل، واذا قابل احد اصحاب الشأن انحنی ویده علی صدره، اما اذا صادف امرأة فهو دون جوان) ایة مدینة عجیبة، اهمیة الانسان ومعیاره في قیمة ملابسه وان کانت مستعارة!!
داوم القلم کتابته...
الانحراف في عصر مغترب ووجهة خیالیة، یولّون وجوههم صوب المدینة الفاضلة. ادیبة وسیدة مجتمع، في عجلة دائمة من اجل لقمة العیش، ابنة مدینتها، ولهذا فان سوء التغذیة باد علی محیاها. لاول مرة منذ ان تفتّح الربیع انتشر داء الملوك وماکیاج المدنیّة.
وضع القلم نقطة وابتدأ سطراً جدیداً...
یقدسون حیاة المدن، یعیشون لیأکلوا. قذف لهم (الخابور) قندیل علاء الدین السحري والسماء منحتهم علم وحكمة زرادشت في لیلة شتائیة.
حرکة الشفاه، تماوجُ الشعر مع نسمات الهواء الناعمة، کلها غدت منظرَ بحرٍ غادره الهدوء. مضی الوقت سریعاً، وبكلمة شكرٍ وموجة تصفیق عادت تخطو کالظبیة، کل خطوة تمردٌ علی الفوضی وقشور المدنیة.
غربت شمس ذلك الیوم، کما تغرب الحقیقة في هذه المدینة قبل شروقها.. وقبل ان تستعید توازنها النفسي وهدوءها وتنتظم دقات قلبها انهالت علیها التهاني البنفسجیة المخادعة وعبارات التشجیع، لم ینطل الامر علیها. ارتسمت علی شفتیها ابتسامة باردة برودة النسمات المنسابة من الوادي. قشورُ الثقافة، أکوامُ نحلٍ التمت علی افرودیت، وهم یضعون ایدیهم الرقیقة في کفها الكادحة الخشنة.
عجیبة هي المدنیّة! قلبت أحوال الجنس البشري، فجعلت ایادي من خدم الشعب بنعومة قطن سهل (سلوبي). کانت شرین بینهم مثل ملكة النحل، الابتسامة وکلمات الشكر لا تغادر شفتیها، لكنها کانت تردد مع نفسها وبهدوء ( ایها المساکین المهملین، اعناقكم الغلیظة وکعب حذائي الرفیع، اتوسل الی عدالة السماء ان تبلوکم بسوء التغذیة قبل ان تجف قطرات ندی الصباح علی اوراق الورد وقبل ان یجتاح الصقیع اعماق ربیعِ مدنیّةِ مدینتي وتُجهض بخریف عشائري عقیم).
کان قد جذب اهتمامها، هو الجالس في الطرف القصي وهي بین الكومة، لاحظت عقدة ما بین حاجبیه سحابةً مثقلة تُمطر بنعومة وأسی. دفعته هموم الحیاة الی الانزواء بعیداً عن الكومة. وقفت قبالته، للمرة الاولی تشعر ان الانوثة المنسیة في جسدها وحش ثائر، ولفترة طویلة لم تعد قادرة علی رؤیة الاحلام بمفردها. اقتربت، نهض لما رآها تهش ناحیته واستقبلها، وضع یده الخشنة في یدها، ادرکت لتوها انها لیست الوحیدة في هذه المدینة التی تمتلك کفین مخشوشنتین، أُسقط في یدها ولم تعد تملك خیار التفكیر او العودة، وابتلّتِ الروح قبل الجسد.. مرت لحظات قبل ان تُقال او تسمع أیة کلمة، والرسالة التي یعجز اللسان عن التعبیر عنها بالكلمات، توصلها العیون بسهولة.
وفي تلك اللیلة ستكتب شرین في دفتر مذکراتها:
محظوظون اولئك الذین یجتازون هذا الاختبار بنجاح، شعور مقدس في هُنیهة ذهبیة، ان ینقطع الانسان عن کل شهوات الحیاة ویعود بریئاً طاهراً کیوم ولدته امه، بلا حقد ولا حسد ولا کراهیة، نبع ماء زلال بارد ینبع من بین صخور وادي (كلي علي بیك) یجري مختلطاً بالثلج في نوروز یتحول الی شلال ماء یسقط هادراً، وتحت وهج اشعة الشمس تستحیل قطرات الماء حبات الماس کنجیمات مشرقة في سدیم سماءِ لیلةٍ صافیة.
کانا قد إنقطعا کلیة عن الحاضرین وهما جالسان تحت شجرة التوت الاحمر.
- عاشت یداك شيرین، لقد کانت قصیدة رائعة.
کانت تنظر الیه بعیني انثی قبج وتغرق في عینیه اللتین خبت فیهما حرارة واشراقة الحب واطمئنان النفس، حلقت افكارها عالیاً صوب قمم الجبال العالیة والبحار الواسعة، کانت تسبح کالبجعة فوق السحاب، وفي غمرة التحلیق نسیت ان تحط في مكان ما.
ردت عینا آزاد علی الرسالة.. قبل ان نبلغ شاطئ الانسانیة ینبغي ان نتطهر بملوحة میاه البحر من المحسوبیة والرشوة والحقد والریاء، ان یكون معیار الانسان عمله وقدراته الشخصیة فقط ولیس اصله وعشیرته، فالحیاة الاکثر استقامة واحتراماً وسعادة هي تلك التي نحیاها في ظل العدالة.
- حزنتُ لمّا اخبرتني نسرین عن قصتك مع........... أعرف ان ذلك أمر یصعب نسیانه، وربما لا یمكن نسیانه قط. في الحقیقة کنت اسألها لماذا کتاباتك حزینة قاسیة هكذا؟! ملآی بكلمات الهجران واللهفة، الشجن والشوق، انها تعبر عن حب کبیر وعمیق. هكذا قرأت کتاباتك وفهمتها واستطیع القول انني فهمت جانباً من شخصیتك...
قطع آزاد حدیثها:
- مهلاً، مهلاً.. هل انت شاعرة ام محللة نفسیة؟!
کانا یتمشیان قبالة الغالیري في ضوء مصابیح الشارع والسیارات...
- لقد حدثت ثورة ثقافیة في كوردستان بعد الانتفاضة.
- هو کذلك یا شیرین، حقاً انها ثورة.. وبالرغم من انها لیست منظمة کما یجب، لكنها حالة تؤکد عطش الانسان الكوردي للحریة واستعداده النفسي للتغییر.
- المعنی..؟
- الحس القومي لدی الانسان الكوردي قوي، اما الوعي.. فلا
توقفت نسرین والتفتت الیه:
- كيف ذلك؟
اطرق آزاد یفكر وکأنه یبحث عن نموذج حي، قال:
- الاول من آیار، في اوروبا وبالرغم من التقدم الذي احرزته في مختلف مناحي الحیاة فان العمال ینظمون التظاهرات، وفي الشرق یقیمون الاحتفالات، وفي مدینتنا دهوك یرقصون علی انغام الطبل والزورنا امام مدخل البلدیة، ألا یبعث کل ذلك علی التساؤل؟!
- عفوا، ولكن لم افهم!
- الشعوب المتقدمة تستفید من افكار ومقترحات مفكریها ومثقفیها، والشعوب المتخلفة مشغولة بالاسماء والمناصب والشعارات، ولو صرفوا تلك الاموال التي یبددونها علی الصور والنصب والضیافات والدعایة لتجمیل صورهم القبیحة، لو صرفوها بشكل صحیح من اجل تثقیف الجماهیر ورفع مستوی المعیشة وتنظیم الدوائر والمؤسسات الاداریة، لتقدموا، والعراق خیر مثال علی ذلك. فالاموال التي یتم صرفها علی الصور والنصب التي نراها في مداخل کل المدن والقری وعند رأس کل زقاق وشارع، لا یمكن حصرها. الكثیر من کتّابنا وأدبائنا ما زالوا یقولون ویكتبون ما یخدم مصلحة شخص او فئة ما، ولم یتحرروا بعد من ذلك الادب الذي یمتدح مقابل دینار ویهجو مقابل درهم.. القلیل منا یرون في الكوردایَتي(1) التزاماً لهم، انها فرصة لنستفيد منها، ولكن الاکثریة یرون اننا نمر بمرحلة مخاض.
- النخالة تذروها الریاح والناعمُ من الحبوب ینزل من فتحات الغربال وتبقی الحنطة الحقیقیة فقط، یجب علینا ان نتصدی لكل محاولة للاجهاض حتی یأتي الولید معافی وبأي ثمن. ففي کل مرحلة مخاض مر بها الكورد تعرضوا لمحاولات دائمة ومستمرة حتی أُجهضت، او في احسن الاحوال کان ولید المرحلة تلك میتاً. هذه المرة.. لا.
- وهذا هو أملنا یا شيرین، لا میت ولا مشلول، ولكن ولیداً معافی، نتاج وثمرة هذه المرحلة من المخاض.
عند بوابة البنك ودعا بعضیهما، توجهت شيرین صوب بیتها وانحدر آزاد نحو جسر البلدیة. کان یفكر في حبیبته دلبَر، تلك الفتاة التي أحبها من اعماق قلبه وبكل جوارحه، وکان یحلم بمستقبل مشرق وسعید معها. کانا في نفس المستوی الاجتماعي والاقتصادي، حتی سنّیهما کانا متقاربین، کل ذلك الحب والاخلاص، کل تلك الامال والامنیات باعتها لشخص التقته مرة واحدة، کل عِلمه وأدبه، أصله وفصله، دینه وأخلاقه، جوازُ السفر الاجنبي الذي کان یحمله في جیبه.. قال في نفسه "اللعنة‌ علی الفقر"
وقف عند الجسر وراح ینظر الی کازینو (جناروك) الذي کان یعج برواده، تذکر مقولة احد الكتّاب ( الطبقة الوسطی حلقة الربط في المجتمع وعندما تنصهر ینفرط العقد کله) ویبدأ الصراع بین الاغنیاء والفقراء، الاول یشتري أي شئ یشیر الیه باصبعه، حتی البشر، والثاني یبیع مضطراً. (الغنی الفاحش والفقر المدقع اسوأ صفتین في المجتمع).
کان الكازینو ممتلئ عن آخره، واکثر زبائنه کانوا من الموظفین، الشریحة الاکثر تضرراً من الحصار الاقتصادي وإنهیار قیمة العملة المحلیة، یقضون امسیتهم بلعب الدومینة او البوکر، وخلالها ینتقدون کل شئ ویمطرون حظهم السیئ باللعنات.
عندما وصل الی الطاولة کان الاستاذ عبدالجلیل یوزع اوراق االلعب:
- بالله علیكم کیف یمكن بعد عشرین سنة من الدراسة وعشرة اعوام من الخدمة ان تكون کفالتي بنصف کفالة شرطيٍّ لم یحصل علی شهادة الابتدائیة ولیس لدیه خدمة عشرة اشهر؟! أيٌّ تقدیر بقي للمعلم؟!
- حالنا کحال المرأة المسكینة التي لها نصف حظ الرجل في نصیبها من میراث والدها والشهادة في المحاکم، ولها من عذاب القبر والجحیم مائة ضعف. لذلك لیس غریباً ان تكون مشقتنا عشرة اضعاف مشقة شرطي وراتبه ضعفي راتبنا وکذلك کفالته... قال الاستاذ صالح.
- اللیلة البارحة اجتمع وزراء خارجیة اخوتنا الاعداء وذلك للتباحث حول اوضاع كوردستان... قال سلیمان وهو یحاول تغییر مجری الحدیث.
- نعم، نعم.. قل ذلك یا کریفي(2)
- في اعتقادي، لو کنا علی قدر المسؤولیة فان کل مؤامراتهم ستذهب مع میاه دجلة... رد الاستاذ صالح.
- حقاً ما تقول والله، ولكن لو کنا نمتلك تلك العقلیة لما ألبسوا سهلَ (سنجار) عباءةً عربیة!
وضع آزاد مرفقه علی الطاولة، حك جبینه وقال:
- صحیح.. مشكلتنا تتلخص في مفهوم (انا، وانت) هم کیف ینظرون الینا وکیف نراهم نحن، حتی الان کلمة (نحن) لا تعطي لدینا معنی (كورد) ومتی ما قلنا (نحن) وکان القصد منها نحن کأمة بكل قبائلها وادیانها عندها فقط ستذهب اقوالهم عنا مع میاه دجلة، وإلا.....
کان الشد والجذب في‌ احادیثهم کما هو في کل یوم لكنهم، وهذا هو المهم، کانوا متفقین علی مبدأ واحد ( الدین لله وكوردستان للجمیع) وهذا المفهوم بحد ذاته تغییر جذري في تفكیر الانسان الكوردى.
- آخ لأشباه الدول. امریكا والصین دولتان والیمن وموریتانیا والصومال دولٌ ایضاً!!! إليَّ بورقة یا عبدالجلیل.
- في جزء من هذا العالم یصبح احدهم رئیساً لیخدم شعبه، وفي جزء آخر لیزین الشوارع وصفحات الجرائد بصوره، عقدة الشعور بالنقص!
- لیت الامر کان مجرد تزیین... ردَّ سلیمان علی دنخا.
- اعتقد ان قضیة الشعب، فیما یتعلق بالرئیس تبدأ من الصورة، وهذه الحقیقة رأیتها بعیني. یومها لم تكن حرب وهزیمة، بل عار وفضیحة، کل اولئك الجنود البائسین تكوموا في البصرة، جیاع ضامئین، ومع اول اطلاقة مدفع علی جداریة للسید الرئیس اندلعت شرارة الانتفاضة..
کان دنخا یهز رأسه اثناء ذلك.
- اعتقد، بدلاً عن صب اللعنات علیهم، من الافضل ان نصلح نحن احوالنا... قال سلیمان.
- الحقد لیس نتاج الیوم او سنة، ثم ما ذنب المسیحیین والایزدیین في هذه المعمعة؟
- صالح، لقد فقدنا أحترامنا لهم منذ زمن.
- صحیح، لیس لدیهم فضیلة واحدة تشفع لهم، او امراً جیداً کي نقلدهم... قال آزاد.
- سلامٌ علیكم..
- سلام.. أووووه، هذا الاصفر ما کان ینقص السجادة(3)، تفضل علی صحن الطحینیة، هل علمتَ أستاذ.. بعد ثلاثة اشهر منذ أن غاص (قادو) في نهر الخابور، قد خرج في (الراین)؟
- قادو!.. من هو؟.. تساءل الاستاذ هوشیار.
- قادو... ابن مستخدمنا، الذي طُرد من المدرسة ثم طَرده والده من البیت، ذهب الی بیت صهرهم، وهناك سرق حلي اخته واختفی. سألوا عنه هنا وهناك، واخیراً هاتف صهره من الخارج وقال له " سأعید الیك مالك وفوقه هدیة علی جزمة عتیقة کما یقول المصریون"
- ولماذا انت مستاء عبدالجلیل افندي؟
- ابو قادو.. عفواً أبو قادر بیك الآغا، هو مستخدم لدینا، ولیس مستبعداً ان یأتي ذات يومٍ الی المدرسة بسیارة مارسیدس تنسلّ کافعی سوداء، عندها یتعین علي ان اقدم له الشاي بنفسي.
قال الاستاذ سلیمان وهو یمسح نظارته الطبیة بطرف ربطة عنقه:
- استاذ عبدالجلیل، هل هذا وقتك انت وقادو؟ استاذ آزاد ماذا تمخض عن الاجتماع الاخیر؟
التفت الیه آزاد:
- اجتماع مَن؟
- مَن؟.. اجتماع من غیر مثلث اللعنة، بین قوسین اجتماع الاخوة الاعداء الثلاثة!
- عندما لا تجد النار ما تلتهمه فانها تأکل نفسها
2
انسحب للخلف وبدأ یقرأ في الكتاب الموضوع علی الدوشك وهو یقول "اللهم زد وبارك في هذه النعمة" کانت والدته ترفع أواني العشاء، طحینیة في صحن من الخزف وزبدة علی هیئة قالب من صابون غسیل الملابس، فیما کانت زوجة اخیه مشغولة بطفلها وهي تمد یدها بین الفینة والاخری لتهز المهد.
مد آزاد قدمه الی المهد وبدأ یهزه وقال لزوجة اخیه:
- اترکي المهد واجلبي العشاء لسیبان.
اکمل الحاج شاهین صلاة العشاء واسند ظهره للوسادة. کان الجمیع یشاهدون المسلسل التلفزیوني (الماء والدم) وقبل ان تنتصف الحلقة انقطع التیار الكهربائي. کانت اللمبة تضیئ بنور خابي.
- لعنة الله علیه، لا یدعنا نكمل مشاهدة حلقة واحدة حتی النهایة.
قالت الام ونهض آزاد لیزید ضوء اللمبة:
- لا تغضبي یا امي، لقد ترکوا هذا الشعب سنوات في الظلام ولم یكتفوا بقطع الوقود والغذاء عنه ولكنهم حاولوا وبشتی الطرق اخضاعه، لم تبق صفیحة زبالة إلا وانفجرت فیها عبوة (تي ان تي) ولم تطل یدهم شیئا ولن تطال، لكنهم لو کانوا سمعوا بقصة ممي قبلان(4) لنفضوا ایدیهم منا وفقدوا الامل، تلك الترجیدیا التي حولها هذا الشعب الاکثر صلابة من الصخر والفولاذ الی اغنیة یرقص علی انغامها في الاعراس. في وقتٍ ما کانت کل الابواب موصدة بوجوهنا عدا بابهم، الیوم کل الابواب مشرعة امامنا إلاّ بابهم.
وقبل ان یجلس، توالی طرق عنیف علی الباب.
- خیراً ان شاء الله، من تراه مستعجلاً هكذا؟ قال شاهین.
ذهب آزاد لیفتح الباب، وعاد بسرعة للداخل ووراءه ئیسف، وقف عند الباب وهو یجول ببصره في الغرفة.
- خیراً، ما بالك تبدو مضطرباً هكذا کالذي یطارده ذئب؟ .. تساءل شاهین.
- ألم تاتي نسرین الی هنا؟
- کلا بني لم تات.. اجابته حماته.
- إن لم تاتي الی هنا، این یمكن ان تذهب؟
- این تذهب کل یوم؟
- لم تعد للبیت لیلة امس؟!
- ربما لم تكن موجوداً في بیتكم لیلة امس، الله اعلم في أیة حانة کنتَ تسهر، وذهبتْ هي الی عملها في الصباح الباكر، فهي مضطرة لتوفیر لقمة الخبز لك، لو کنت رجلاً بحق لمكثت هي ایضاً في البیت.. قال شاهین بلا اکتراث.
انقلب ئیسف عائداً علی عقبیه واخذ شاهین یضرب کفیه ببعضیهما وهو یقول:
- واأسفاه، طوال حیاتي لم أسرق أو انافق أو أرتكب ما یشین، لكني عندما أری عدیم الناموس هذا اتساءل: تری کیف ساقف یوماً بین یدي ربي وبأي وجه أقابله؟ لو طردني من رحمته التي وسعت السموات والارض فسیكون ذلك جزائي الوحید علی ما اقترفته من ذنب بحق ابنتي، أي انسان عاقل حتی لو کانت لدیه کلبة هل کان سیعطیها لرجل کهذا..؟
- اثابك الله یا رجل، نسرین لم تعد لبیتها لیلة امس وانت تصب جام غضبك علیه، ماذا یهم ئیسف اذا قلت او لم تقل!... قالت زوجته.
حمل آزاد کتابه ودلف الی الغرفة الاخری دون ان یتكلم.
3
انعطفت شيرين من الشارع ودخلت الزقاق، کان بعض الصبیة یلعبون عند احد الجدران، رأت بعض النسوة وقد عقدن جلستهن الیومیة امام باب احدی الدور، قشور بذور دوار الشمس غیرت لون الارض الاسمنتیة. في منتصف الزقاق یبدو الاطفال کخرفان فقدت راعیها، بعضهم یلعبون ویعبثون، قسم آخر یتشاجرون والشتائم زخاتُ مطرٍ یمطرونها علی بساتین امهات بعضهم البعض، الملابس الداخلیة المعلقة علی اسلاك الكهرباء تبدو کأعلام الاولمبیاد.
- حباً لله، هل هؤلاء نسوة ام مطاحن؟ قالت شیرین بنرفزة.
رکل احدهم الكرة بقوة، مرقت قرب رأسها.
- المعزات افضل من امهاتكن، هذه تربیتهن السیئة.. قالت سعاد بعصبیة وقد اقتربت من مجلسهن. هزت یدها وقالت:
- الاباء في المقاهي او یذرعون الشوارع والامهات یجرشن بذور عباد الشمس ویغتبن الناس وفي النهایة یقلن " ما لنا ولهم، امرهم الی الله" وفي آخر السنة یلدن! لو کانت خطایاها عناقید ما ابقیتن منها شئ، علی الاقل کانت جارتكم.
- لا... والله المرأ‌ة لم تفعل شیئا سوی انها ترکت زوجها و.. و.. ردت علیها عَیشو.
وقطعت خَمي حدیثها:
- والهم لقد هربت مع رجل آخر، یقال، في‌ ذلك الیوم شوهدت امرأ‌ة تحمل طفلاً علی کتفها بصحبة رجل وهما یتجهان صوب الحدود.
قالت الثالثة ضاحكة:
- الان هي مع مثیلاتها
- کفاکن.. اتقین الله، انتن لكن بنات، من تقل هذه الشهادة یجب ان تكون قد رأت الامر بعينيها... وعبرت مجلس النساء.
- والله یا حبیبتي، لم یشاهد احدٌ أمه وأبوه وهما... معاً! قالت عَیشو
التفتت شيرين وقالت:
- البقرات افضل منكن، الرجل یترك بیته اربعة اعوام وعندما یعود یجب ان تكون تكّة زوجته واطراف سروالها ممهورة بختمه المقدس، اما اذا خرجت الزوجة المسكینة اربعة ساعات من منزلها فانها تستحق الجلد، عقاباً من السماء.
جاءت اسماء وهي تحمل طفلاً علی کتفها وتسحب آخر الی جانبها وقالت:
- آخر زمن، أصبح أيّ شئ تفعله المرأة صحیح، تخرج وتعود عندما تشاء. یقولون اذا ذهبت البنت الی المدرسة فانها لن تعود مُلكاً لا لأهلها ولا لزوجها.
- وفي الحقیقة انتن مُلُك! آه منكن ایتها الارانب، الحماة والكنّة یفرخن معاً...
اشارت بیدها الی الزقاق.. "تكاثروا، تناسلوا" علی حد قول علمائنا ذوي الجلابيب الطویلة والاربع زوجات الذین یقتاتون علی فضلات موائد الآغوات، وفي فجر ممطر مضبب قمطریري تلقفونا باذرع اخطبوطیة ومن سموم التزمُّت والبَلادةِ ارضعونا وعلیها فطمونا، أبتهلُ الی الله ان تتحول شرارة برق ربیعیة الی سوط یلهب ظهورهم.
فتحت شرین الباب ودخلت الی حوش دارهم، کانت والدتها تنقي الحنطة، وطاسة نصف مملوءة بالزیوان وسطها، واطفال اختها الثلاثة یلعبون، احتضنتهم بحنو وقبلتهم، جاءت اختها جنار وبعد تبادل القبل وعبارات الترحیب، قالت شیرین:
- هل علمت لقد جاءوا یخطبوك؟
- ماذا؟ حقٌ علی واحدة مثل كولي أن تترك اطفالها وتتزوج. تخلی عنها إخوانها، وأشقاء زوجها یسومونها سوء العذاب فیما زوجاتهم یختلقن لها کل مرة عشیقاً. حرام علی واحدة مثلي التفكیر بذلك، أشقاء زوجي المرحوم یقدمون الخبز لأطفالي قبل اطفالهم.
احتضنت الجدة الحفید الذي ولد بعد فَقدِ والده:
- فلیخسف الله الارض ببیوت الاشرار، ترکوا نساءَ شعب، جمیلات شابات، معلقاتٍ بشُرفات السموات، لا هن متزوجات ولا هن أرامل، وجیلاً من الاطفال یتامی.
جلست جنار الی جوارها واخذت تعاونها في تنقیة الحنطة، قالت:
- اماه، هذه لیست الانفال الاولی، لقد فعلوا الاسوأ من ذلك کلما سنحت لهم الفرصة.
قالت الام بأسی:
- بنیتي، لا شئ یضیع عند الله.
قالت جنار وهي تستذکر احداث معسكرات (قلعة نزارکي) و (السلامیة):
- ماذا ینفع اذا لم ینتقم الانسان بنفسه ویرفع الظلم عنه؟ سیدخلهم الله نار جهنم، الیس کذلك؟ وماذا سنستفید نحن؟
رفعت یدها الیسری وضمت قبضة کفها ثم اردفت:
- یجب ان یثأ‌ر هؤلاء الیتامی لابائهم وامهاتهم وشعبِهم من المستشارین الكورد والمؤنفِلِین العرب في هذه الدنیا ولیس في اي مكان آخر.
کانت جنار وشیرین تعدان طعام الغداء وتتحدثان اثناء ذلك ووالدتهما تسمع اصوات ضحكاتهما، فقالت وهي منشغلة بتنقیة الحنطة المسلوقة التي أُعدت لعمل البرغل "هاتان ستمضیان الوقت بالحدیث وتترکانا بلا غداء" نادت علیهما:
- جنار.. شیرین.. اسرعا فوالدکما علی وشك الوصول.
تناهی صوت جنار ممزوجا بضحكتها:
- اماه، الغداء جاهز.
والدُ شرین، جولي، تعدی السبعین من عمره لكنه لا یزال نشطاً موفور الصحة، ورغم انه اصلاً من قریة حدودیة الا انه کان قد التحق بصفوف جیش لیوي البريطاني في مقتبل سني شبابه وعمل عدة سنوات في کرکوك وتعلم القراءة والكتابة واتقن اللغة الانكلیزیة، وهو في هذا العمر لایزال یقرأ، باستخدام النظارات الطبیة، الكتب الكوردية، بلهجتیها الرئیسیتین، اضافة الی العربیة والانكلیزیة.
کان الجمیع جالسین الی سفرة الغداء، وهَدار شقیقة شیرین الصغری، محبوبة قلب والدها، تلعب مع اطفال اختها جنار، نادی علیها والدها:
- استمري هكذا في اللعب لكي نقول عنك دوماً صغیرة، تعالي اقول لك شیئاً.
جلست علی رکبتیها الی جانب والدها وقالت:
- نعم یا ابي
- اتذکرین سلمان؟
- أيُّ سلمان؟
- سلمان ابو حكیم.
فكرت هدار للحظات وقالت:
- ابو هَلِز؟
- نعم.. نعم.. هو بعینه، ابو هلز، بنیتي.. ابنه حكیم...
- حكیم!!.. قل (حَكو) كي اعرفه، ذلك الصعلوك المتشرد... الذي کان والده یطرده دوماً..
- هدار بنیتي، هل انت طالبة کلیة او شاعرة عربیة، اذا هجوت شخصاً، ما ترکت فیه شیئاً، لكنك لا تعلمین ان والده قد طلب یدك مني!
- ماذا!؟ قالت هَدار بذهول وهي تشیر باصبعها الی صدرها.. انا وحكو.. لا .. لا!
- بنیتي، حكو کان في الماضي، الان اصبح حكیم..لا بل عبدالحكیم، لدیه هنا بیت ذو طابقین وسیارة حدیثة ویعیش الان في اوروبا.
- ابي، انت قلت " رجل بلا مال افضل من مال بلا رجل" وانا لا اتصور مرة ان هذا الشخص یمتلك ایة صفات رجولیة، ام یبدو انك مثل بعضهم تتوق الی الدولار.. هَلِز التي کنت اتحدث الیها استعطافاً رأیتها ذات مرة في عرس، کانت تبدو في مكیاجها وحلیها الذهبیة کبقرة عليها سرج جواد، ردت علی تحیتي بتكبر وبطرف لسانها.
قالت جنار وهي تأکل:
- ستصبح معلمة، ولكن الاصح ان تصبح محامیة!
اکملت شیرین:
- وهل تظنین ان المحاماة لن تلیق بها!!
وانخرط الجمیع في الضحك.
- لقد انسیتموني، ابي ارید ان انتقل من قسم اللغة الانكلیزیة الی القسم الكوردى.
- لماذا بنیتي الم یكن ذلك اختیارك؟
- ألیس خطأً کبیراً ان یتقن المرء لغة اجنبیة ولا یتقن لغته؟
- لیس فقط خطأ، بل عار وخطیئة کبیرة.
قالت هَدار وهي تصفق جذلی:
- لقد قررنا، کنير ومحسن وانا ان نذهب الی قسم اللغة الكوردية، ولكني کنت انتظر حتی اقول لك.
قال والدها وهو یبتسم:
- لقد ذکرتیني بحادثة، في عقد الثمانینات من القرن الماضي کان هناك کاتب عربي ینشر موضوعاً في صحیفة علی شكل اجزاء، وکان هناك کاتب كوردي یكتب نقداً علی الموضوع بعد کل جزء. اخیراً اضطر الكاتب العربي الی نشر رد علی صفحات تلك الجریدة قال فیه "کاکا.. العرب لدیهم الاف الكتاب وهناك من غیر العرب ایضاً ممن کتب ویكتب بالعربیة، مثل جنابك. لذلك فالعرب لا یحتاجون قلمك ولو کان یرتجی منك والافٌ مثل سلیم برکات خیراً لأمتهم لكتبتم لأمتكم وبلغتكم شیئاً، لانها بحاجة اکثر. لذلك یا بنیتي فان الكوردى مهما خدم اللغة والادب الاجنبي فانه لا حاجة لهم بخدماته. ولكن الذي یكتب عشرة اسطر بالكوردية فانه یكون بذلك قد اضاف شیئاً الی المكتبة الكوردية الفقیرة. تعلمتُ حب لغتي من الانكليز عندما کنت مع عسكر لیوي في کرکوك.
- کان الملاّ یقول في خطبة یوم الجمعة "العربیة لغة القرآن ولغة اهل الجنة"... قالت الام. اجابتها شیرین ضاحكة:
- اماه، أتصدقین انك انت هذه الام الكوردية المسلمة الملتزمة برسالة الاسلام لن تدخلي الجنة لانك لا تعرفین العربیة وان امرأة عربیة ترقص عاریة سوف تنعم بالجنة لانها تتكلم العربیة؟!
- إيْ والله یا ابي، لم یكفِهم انهم جعلوها لغة اهل الجنة، بل جعلوا القراءة والادب وحتی اسماء البشر بالعربیة، حتی في براري وجبال كوردستان یرتدون اللباس العربي. حتی في قلب عصر الكومبیوتر والعولمة یریدون منا ان نصبح دراویش لهم، نعلق المنخل والغربال في اکتافنا کالقرج، نهیل فیها الرمال المقدسة في بحث دؤوب یائس عن ذلك المفتاح الذي اقفلوا به عقولنا لقرون متوالیة کي یظل قبلة انظارنا ولا یخرج تفكیرنا عن مداه وإلا.... فصفحات الانفال في‌ انتظارنا.
اسم الانفال نشر الصمت المطبق علی الجمیع.. نظرت جنار الی الصورة المعلقة في الجدار، لم یكن زوجاً فقط، بل الحیاة کلها.. في معسكر السلامیة، الذي کان بمثابة فندق خمسة نجوم اذا ما قورن مع معتقلات النازیة، هناك افترقت یداهما لآخر مرة، ما زالت في الحداد بانتظاره، انتظار الشیعة لمحمد المهدي، شعر والدها بمرارة الدمع الذي لم ینهمر علی خدها لذلك قال لها:
- بنیتي، ذکریاتنا مع اخوتنا الاعداء کانت کالبرکان الذي یغلي تحت الارض، وفي فصلِ ربیعٍ اسود انصهرت کل تلك الاحزان والمآسي، الكرب والاحقاد في بعضها، وللمرة الاولی وصلت بیننا مرحلة کسر العظم. البكاء نعمة کبیرة خص الله بها البشر، لكننا ما نزال نجهل قیمتها، یجب ان نبكي، الطفل الذي لا یبكي لا یأکل...
ولكي یخرجوا من الاجواء المشحونة بالحزن ویكملوا غداءهم، قالت هدار:
- فهمت من حدیثك اذن، انك لست موافق فحسب بل ومشجع لهذا الامر..
قطع والدها حدیثها قائلا:
- وابارك فیه، مقدسة تلك اللغة التي یفهمها المرء ویتكلم بها. الصینیون یقولون ان لغتهم اصیلة وراقیة. الارمن یقولون: لغتهم هي الاصل والبقیة تفرعات. الیهود یقولون ان الله علم آدم اللغة العبریة، والارامیون یقولون ان لغتهم هي لغة المسیح والاسفار المقدسة، والاغریق یقولون ان لغتهم لغة الحكمة والفكر، و..و..والعرب لم یكتفوا بتنسیب کل هذا لأنفسهم بل وربطوا مصیر الانسان باللغة العربیة وجعلوها لغة حور العین وبطاقة التأهل للدخول الی الجنة!!
- ابي، کلمة حور تجذب الاهتمام، من این جاءت باعتقادك؟!.. سألت هدار
صمت جولي للحظات وکأنه یبحث في‌ ارشیف ذاکرته عن جواب، قال وهو یكرر:
- حور، حور.. لا اذکر من کلمة حور سوی انها کانت اسم شعب یعیش في منطقة میزوبوتامیا ولا شك ان فتیاته کانت جمیلات جداً مثل فتیات الدول الاسكندنافیة الیوم، في نظر العرب علی الاقل، فاستُخدمت کلمة حور لذلك الشعب، للذکر حوري وللفتاة حوریة، لا اعرف ولكن من حسن الحظ أنه لیس هناك ملاّ یسمعنا
4
سحب نفساً من السیجارة واستنشق عمیقاً دخانها، لم یملأ فقط صدره بالدخان بل دفعه حتی رؤوس اظافره ومن فتحتي انفه‌ نفث الدخان کمدخنة في یوم شتائي. نشوة الانتصار شئ جمیل وخاصة لأنسان فاشل یری احدهم یهوي امام عینیه فیستغلها فرصة لتوجیه سهامه المسمومة الیه. المجتمع غارق في کآبة دینیة، سیاسیة، وجنسیة ولكن همّ ئیسف شئ مختلف تماماً، فقد وجد نفسه محتقراً علی الدوام والیوم سنحت له فرصة ذهبیة، کان متأکداً في قرارة نفسه من طهارة نسرین العاقلة وانها لن تُقدم علی ما یشین ولكنه مع ذلك ظل یلح بالسؤال" این ذهبت؟ کانت تغضب دوماً لكنها کانت تعود الی البیت وقت النوم.. هكذا هي تربیتها.. جهاد المرأة في فراش زوجها".
سكون القبور یخیم علی المجلس، کان شاهین یذوي کشمعة تحترق وقد غاص في التفكیر.. دلف آزاد الی الحوش، الأم الحزنی جففت دموعها بطرف شالها الابیض ووقفت امامه، لكن الجواب بان علی قسمات وجه آزاد (کلا). القی التحیة وقبل ان یردوا السلام بادره شاهین بلهفة ارض یباب لبكاءِ السماء وهو یسأله:
- قل یا بني.. هل علمت عنها شیئاً؟
هز آزاد رأسه وقال:
- لم یبق احد في زاخو نعرفه ولم أسأله، لم یرها أحد منهم.
انكمش شاهین علی نفسه کالقنفذ، بان التعب والیأس علی قسمات وجهه الذي حفرت علیه سنوات العمر اخادیدها، الصق رأسه برکبتیه وصمت لبرهة هكذا، رفع رأسه وبدأ یجوب ببصره بین الحاضرین واحداً واحداً في نظرات ملؤها أسیً وتساؤل، وعندما رأی ئیسف دقق النظر فیه، طأطأ الاخیر رأسه وکأنه یتفادی موجة غضب واتهام عارمة.. قال له بصوت ذلیل:
- ئیسف، لو حدث مكروه لابنتي لن ینجدك عزرائیل وجبرائیل من یدي هاتین.
نهض واتكأ علی عكازه وخرج الی الزقاق بخطوات سلحفاتیة.. کان کالذي یبحث عن ابرة في کومة قش، وبعد بحث متواصل یائس من الصباح حتی عصریة متأخرة، شعر بالتعب. وعلی الارض الصخریة المطلة علی الوادي والمدینة جلس لیرتاح، شعر بشئ من الارتیاح.
تبدو المدینة کمرآة امام ناظریه. لف سیجارة، وبعیني صقرٍ عجوز حط في مكان مرتفع یبحث عن طریدة، بدأ ینقل بصره في المدینة.. حیاً، حیاً.. وزقاقاً، زقاقاً وهو یقول مع نفسه " أيُّ بیت بقي لم أدق بابه؟"
ظهر صبي یحمل طاسة ماء في یده وقال "اشرب الماء یا عم" ورغم انه لم یكن عطشاً إلا انه أخذ الطاسة من یده وتناول جرعة ماء، وقال له " رحمة الله علیك وعلی والدیك".
علی مقربة کان هناك رجل یكسر صخرة، صاح علی الطفل " دشتان، تعال". التفت رأی غرفة مبنیة علی بقعة صخریة وسقفها من عوارض خشبیة، وهناك بقربها قطعة من قماشِ خیمةٍ لفت حول اربعة عصي مغروزة في الارض، یبدو انها بیت الخلاء، وفي الجوار اطفال یلعبون في‌ التراب.
اقترب شاهین من الرجل وقال له:
- قواك الله یا ابن اخي،. هل هذا بیتك؟
رفع الرجل رأسه واستوی في وقفته، ثم مسح جبینه من العرق بكمّ قمیصه واجابه:
- نعم انه بیتي.
- الانسان الكوردى له خصلة نفسیة غریبة، یعیش الكفاف ویحب السكن في الاماکن المرتفعة، حقاً انه مكان یشرح القلب، ولكن کیف تعیشون علی هذه الصخور، لا طرق.. لا میاه؟!
- مهما یكن فانه افضل من منّیة مؤجرِ دارٍ عدیم الضمیر، یسأل قبل ‌أي شئ آخر، کم طفلاً لدیك؟ ویطلب إیجار ستة اشهر سلفاً، ویرفع قیمة الایجار متی ما شاء..
مسد شاهین علی ر‌أس الطفل..
- دشتان، اسمك دشتان؟
- ولد في قریة دشتان(5) الی جانب صخرة في تلك اللیلة التي انشقت فیها بطن السماء، في الهجرة الملیونیة. هناك دفنت ولداً وبنتاً، ماتا من الجوع والبرد.. هربت بطفلین، کان احدهما یرکض امامي، ورجعت من هناك بهذا، لذلك اسمیته دشتان. انا من ناحیتي لن أنسی قط ما حدث ولكن لكي لا ینسی هو عندما یكبر.
- الامر یتطلب إرادة وعزیمة، إرادة قویة.. قال ذلك ومضی.
وصل خلف البیوت في طرف المدینة، استند الی احد الجدران. لم یر نفسه في موقف صعب کهذا طوال حیاته، الفقر والعوز وعشر سنوات في صفوف البیشمرکة، والاصابة عندما کان مع قوة هلكورد. یتحرك في ظلام حالك وحیثما توجه ارتطم رأسه بشئ أقسی من سابقه، وکل عثرة أسوأ من سابقتها، أربعة أیام مرت وقد ضاعت أمامه السبل واللوم الذي لا یسمعه، یراه مجسداً في نظرات الناس. قال مع نفسه "هذه حضیرة خنازیر اکثر منها مجتمعُ بشرْ.. فقدان هذه البنت سیجلب لنا العار، من بقي في هذه المدینة، من الاقربین والابعدین، لم یعرف بالامر؟ لا استطیع قول شئ، لا مجال للتبرير، انا استحق کل هذا، انا احصد ما زرعته بیدي، وهل شاخ الاولاد والبنات في بیتي؟ وحتی لو شابوا لكان افضل من الحیاة التي یعیشونها الان أو هذا العار. لم یكن من حقي ان أزوجها لذلك القمیئ، وبدلاً من ان یختار کل شخص شریك حیاته نعطي لأنفسنا ذلك الحق، جهلٌ وانانیة، نرید ان نعیش عمرنا وعمر غیرنا"
بدا کشخص افاق من نوم عمیق.. اشعة آخر النهار بدأت تخبو وقرص الشمس یبدو کقطعة صاج حمراء تغوص رویداً رویداً في افق البریة. وصل الی البیت وقبل ان تسأله زوجته وکنّته، هز رأسه وقال والكلمات تخرج من فمه کأنها حلقات سلسلة تسحب عنوة من بلعومه:
- ألم یعد آزاد بعد؟
ردت کنته بنبرة ملؤها العطف:
- کلا یا عمي لم یعد..
- سننتظر یا عماه، عسی ان یكون لدیه ما یعرفه عنها.
أمام خزان الماء في الحمام کان یغسل ساعدیه وهو یتوضأ استعداداً للصلاة عندما وقفت کنته في مدخل الباب وقالت له:
- عمي، هناك رجل یسأل عنك!
- حسنا عماه، انا آت.
کان رجل یقف عند باب الدار.. قال له:
- تفضل یا عم خیراً!!
- انت الحاج شاهین؟
- نعم انا.
- بعثني الاغا لكي ابلغك بالحضور في دیوانه اللیلة.
- حسناً یا عم.
عاد شاهین للداخل وهو یقول "ما الذي ذکّره بنا، أنا.. والاغا!؟ أردت ان أقول له ربما أخطأت العنوان، لكنه ناداني بالاسم، الاغا یذکر أقرباءه عندما تتطلب مصلحته ذلك فقط، آخر مرة رأیته فیها کان في شتاء عام 1983، جاء الی بیتنا وقال، الحكومة سلمتني أمر تشكیل فوج من المقاتلين، انتم اقربائي... وأخذ یلقي معسول الكلام.."
* * * * *
کان جالساً في صدر الدیوان ببزته البَركیز(6) وهو یعتمر زوجاً من الكوفیات وقد افترشت اطرافهُا کتفیه، وجهه خمري اللون مورد الخدین یبدو کطفل الاعلانات علی علب حلیب الكيكوز، یتربع بجانبه صاحب اللحیة نصف الشبر المضمخة بحمرة الحناء وصدیرته ملآی بالآیات الكریمة والاحادیث الشریفة والفتاوی الشرعیة لزوم الحاجة وفي خدمة الاغا علی حد قول ذلك الاعرابي الذي قال ( الاکل مع معاویة أدسم والصلاة وراء عليٍّ أتم والجلوس علی التلة أسلم) . أنصاف ألهة ولدوا في جرة خمرة وفُطموا علیها، مئات السنین الامة تكدح وهم یأکلون، وقد جمعوا حولهم جیشاً من هؤلاء الامّعات أشباه الرجال العاجزین عن اعالة انفسهم، یرون انفسهم اهلاً فقط لخدمة الاغا. اثنان منهما مزروعان امام الباب وقد لفا قامتیهما بأحزمة الرصاص، تتوسط وجهیهما حزمة شوارب إنكشاریة تنفع فقط في تخویف الاطفال، وقد حفظا عبارة واحدة، نعم سیدي.
کان کلا جانبي الدیوان مزدحمین بالرجال، وأيّ واحد یدخل یمد یده الیمنی لمصافحة الاغا فیما الیسری تستقر علی صدره امتناناً لهذا الفضل الكبیر من جانب الاغا، وکان البعض یقبّل کتف الاغا وهو بدوره لا یمانع ولا یكسر بخاطرهم، وبعد التقبیل یقول مبتسماً "أستغفر الله".
کان آزاد ینظر باندهاش الی قرود السیرك تلك، لانها کانت المرة الاولی التي یدخل فیها دیوان آغا، لم یصدق انه ما زال هناك أناس کهؤلاء، في زمن المحتل "نعم سیدي" وفي عصر الكوردایَتي "نعم سیدي ومائة نعم سیدي!.."
دلف خادم للداخل وقال:
- سیدي، یطلبون رؤیتكم في الداخل
- سأعود في الحال.
ومع نهوض جناب عظمته، نهض کل من کان في الدیوان الذي کان له باب خاص الی داخل الدار، واختفت قامته الشبیهة بالمحدلة بمشیته البطریقیة خلف الباب .
جلس الجمیع، ذکّرته طرقعات حبات المسبحات وأدخنة السجائر بتلك اللیلة في نهایة شهر آذار وبدایة ماراثون الهجرة الملیونیة صوب جَلێ(7)، تلك اللیلة التي غرقت فیها المدینة في صمت القبور عدا صوت سمفونیة واحدة کان یتناهی الی الاسماع، وهو نقیق الضفادع في نهر (هشكرو) في دهوك...
مع انفتاح الباب هبّ الجمیع وقوفاً کرة اخری ، وکأنّ محمد المهدي قد خرج من قبوه، ألقی الاغا التحیة وجلس في مكانه، تناوب الجمیع، واحداً واحداً، علی الترحیب به.
"ایها المساکین، وکأن جنابه قد عاد لتوه من طواف بیت الله" قال آزاد یحدث نفسه.
تنحنح الاغا، وساد المجلس الذي کان یشبه حمام نسوان، سكون صلاة المآتم.. عندها قال الاغا:
- شاهین.. مصاهروکم یقولون إن ابنتك قد ترکت بیت زوجها منذ عدة ایام، وعملاً بصلة القربی فقد أوصلوا شكواهم الینا، لذلك یجب ان تعودَ الی بیتها بأسرع وقت ولنحلّ هذه المسألة بیننا ولا ندع یداً غریبة تتدخل فیها ویُحال الامر الی دفاتر الحكومة والسین والجیم...
- صحیح ما تقولون سیدي، لكن...
رفع الاغا یده وقطع حدیثه وقال:
- بدون ولكن... أرجِع الیهم المرأة وأنتم متصاهرون.
حاول آزاد أن یضبط نفسه إزاء لهجة الاغا الاستعلائیة وصیغة الامر التي کان یحدث بها والده، لكنه لم یصمد:
- اختي کانت في بیتهم ولیس في بیتنا والاصح أن یقال أین أختي؟ وبدلاً من نُسأل، فلیجیبوا عن سؤالنا، ولكن ما لم أفهمه إذا کانت کل مشكلة ستحل هكذا في الدواوین، فما نفع وجود الحكومة إذن؟!
عبس الاغا وتغضن جبینه وکأن عقرباً لدغه، وقبل ان یتكلم قال أحدهم "کیف تتحدث هكذا مع علیة القوم..؟" وآخر "هذا لا یصلح للجلوس في الدواوین" وهكذا سنحت الفرصة کي یلقي کل واحد منهم خطبته الدینیة والقومیة والاخلاقیة في بازار الآغا ویعبر بفصاحة بلیغة عن مدی إخلاصه له. أدرك شاهین ان الامور ستسوء، فسحب ذراع ابنه وغادرا دون استئذانٍ أوتحیة خروج... وفي الزقاق:
- بني، أتعتقد ان جمیع الناس مثلك؟ هؤلاء في صباحات الاعیاد وقبل ان یبارکوا لابنائهم وامهاتهم وابائهم یقفون کقطیع غنم في طوابیر أمام باب الاغا.
- ابي، لم یبق سوی ان یتناول عصاه، ماذا ینتظر مني، ان أتخلی عن آدمیتي ورجولتي واقول له: مولانا؟ ذلك أمر بعید عن شاربیه. خادم الاغا سید، وابن أخت الملا استاذ ویعمل التعاویذ، وراعي البقر الذي یعمل لدی الشیخ، مباركٌ ویتعین علینا تقبیل یده...
- بني.. کي لا تتعرض للمتاعب قل ما یرغب الناس فیه وافعل ما تریده انت.. لم یقولوا عبثاً "طالما کان هنالك حمیر.. فسیظل هنالك آغوات"
رد آزاد بعصبیة:
- الحیاة تتجه نحو التغییر، فقط نحن.. تخلفنا هكذا.. متی سیكون معیار الانسان عمله، ولیس عشیرته واصله ونسبه. الرجولة باتت حزمة شوارب ومسبحة وسیجارة، وبقي من الدیانة صلاةٌ فقط، تشقلَبْ علی الارض مرتین وارتكبْ ما یحلو لك من المعاصي؟! عجیب امر هؤلاء الناس الجهلة، ولدوا احراراً من امهاتهم وبأیدیهم یصنعون عبودیتهم، یحنون الرؤوس والهامات المستقیمة لأغوات وأثریاء لم ینضح جبینهم یوما قطرة عرق واحدة وهم یعلمون جیداً أن درهماً واحداً لن یفلت من بین ایدیهم المغلولة البخیلة.
ضحك، ثم أردف "حضیرة خنازیر"
اتجه الحاج شاهین صوب البیت فیما انعطف آزاد نحو التقاطع المؤدي الی مستشفی آزادي... ارتقی التلة الكبیرة وعند القمة وقف کقبج غرید، نظر من علٍ الی المدینة التي تغفو بین احضان الجبل الاسود والجبل الابیض وقال مع نفسه:
- بالامس الجو العفن ورائحته الكریهة واللیالي والنهارات الصدئة تحت حوافر وبساطیل العسكر والرفاق الناهبین والسیّاح الحفاة المتربةُ اجسامُهم برمال الصحراء، تفوح منهم رائحة البعران، والعاهراتُ الرخیصات اللواتي هبطن في لیلة جمعة بمظلات العنایة الالهیة کي یوجّهن التفكیر في الرؤوس صوب مغارة ما بین الفخذین.
الرغبة في رحلة بعیدة، بعیدة، عالیاً فوق الجبال والبحار وسِعة السماء الزرقاء الصافیة دعته الی اطلاق صرخة، ملأ دویها زوایا الدنیا الاربع والكهوف الرطبة:
- جنةُ عدنٍ غدت مرتعاً ومرعیً للخنازیر وکلابِ الصید السلوقیة.. الی الجحیم فلتذهب کل المقدسات والممنوعات
5
قبیل انتصاف النهار، إجتاز أضویة المرور في تقاطع شوارع أسواق السجائر والبورصة والسلاح. خلف زجاج الدکاکین التي تشبه أقنان دجاج، عُلقت أنواع مختلفة من صور العملات النقدیة، دولار.. مارك.. فرنك.. فیما کانت العملة العراقیة بطبعتیها السویسریة والمحلیة ترقد طبقات فوق بعضها، نظر الیها ومد یده بحسرة الی جیب قمیصه وأخرج أربعة دنانیر ورقیة مفردة وکأنه یقارن بین الدینار والدولار اللذین یتشابهان الی حد کبیر في الشكل والحجم... قرّب الدنانیر من شفتیه وبصق علیها بخفة. امام احدی الحیطان کان صبي یبیع السجائر، اقترب منه ووضع دینارین علی العلب وسحب سیجارتین نوع (إل إم) من علبتها، أشعل إحداها فیما انزل الاخری في جیب قمیصه. دار علی عقبیه وراح یتطلع الی الجانب الاخر من الشارع قبل ان یعبره. شبان وشیاب واقفون علی الرصیف وبعضهم جالسون علی أرائك المقهی الخشبیة. ‌هناك من یعلق بندقیة في کتفه، وآخر یحمل مسدساً في زناره، فیما تدلی منظارٌ علی صدرِ آخر.. سوق السلاح حامیة، فقد بدأت جولة اخری من الحرب الانتحاریة وتعید نفسها في کَبكي جالدیران(8) والنمورُ التي أعجزتْ كلابَ الصید تُصطاد الیوم بسهولة، البعض یصبحون ضحایا والبعض یصبحون اثریاء... فرصة لتجّار الدین والدنیا ولكل رأسمالي وانتهازي لكي یوجهوا سهام حقدهم المسمومة. طبعاً هذا هو الظاهر من السوق، اما المخفي فهو بین طیات ملابسهم وخلف أنطقتهم القماشیة وصدیریاتهم أو في الدکاکین والبیوت القریبة، هنالك تجد کل انواع الاسلحة والذخیرة، أجهزة الاتصالات، الدروع الواقیة من الرصاص، رشاشات (بي کي سي) وقاذفات (آر بي جي سفن) وللمرة الاولی ولیس في فلم أمریكي مسدس (عقرب) وکواتم الصوت والرمانات الیدویة معروضة في الزقاق علی بطانیة قدیمة لمن یدفع ویشتریها.
في منتصف الشارع جفل، إذ لم تبق سوی خطوة وتصدمه سیارة، صرخ بصوت ممزوج بالغضب والخوف:
- هل انت أعمی؟!
- إرکب .. قال السائق ضاحكاً.
دار ئیسف حول السیارة، فتح بابها وجلس قرب السائق دون ان یفتح فمه بكلمة، لانه لم یكن یشعر لحظتها سوی بلهاثه ودقات قلبه التي کانت في اقصی سرعاتها.
- ئیسو.. کنتَ ستُحسب علي رجلاً. انت کما کنت في السابق، ید فارغة والاخری لا شئ فیها، طاولة القمار یلزمها جیب ملیئ.. بالمال.
- ماذا أفعل للحظ العاثر!؟
- ئیسف.. انت جوهرة مطمورة في الطین، ولكن أین الذي یقدّرك حق قدرك؟
دَشْتي.. رجل في الخمسین من عمره او أکثر بقلیل، شعر رأسه وشارباه اللذان یشبهان ذیل فأرة، مصبوغان بالاسود علی الدوام. له قامة متوسطة من جلد وعظم فقط، لكنه یبالغ في الاهتمام بنفسه وهندامه، ولولا ذلك الاهتمام لبدا تماماً کسجین سیاسي أُطلق سراحه للتو من احدی المعتقلات العراقیة، المشهورة علی مستوی العالم، بعد عفو عام من الرئیس القائد الذي یُخلي السجون من نزلائها من الابواب الامامیة وتُحسب علی الشعب مَكرمةً، وفي ذات الوقت ومن الابواب الخلفیة تُملأ السجون مرة اخری استعداداً لعفو آخر، في مناسبة أخری.
کان ئیسف الجالس الی جانبه یبدو، بالمقارنة معه، کأحد أبطال جیش شیرکو الایوبي.
إنفتح السیر.
نتیجة لقرن من الانتفاضات والثورات الكوردية غیر الناجحة، بفضل المصالح الشخصیة طبعاً، وبالذات بعد تسعین سنة حبلی بالاحداث فان كوردستان تمر بمرحلة مخاض. المخاطر كثيرة، حلقة الشرق المفرغة والدیمقراطیة المفروضة أو سوط العبودیة الذي یئنون تحته منذ مئات السنین.. ذراعا الأمّ ممدودتان نحو السماء وهي غاصة في الوحل حتی تحت إبطیها والآم المخاض سیاط ناریة تلسع عظام ظهرها والذئاب حوالیها ترقبها بعیون جاحظة، لا تنام ولا تغمض وهي ممتلئة بالخشیة، اذا وُلد الدجّال فانه سیدمر السلطة ومقدساتِ الشرق!!
- لماذا هم غیر ملتزمین ویحبون الفوضی؟ سأل ئیسف
- إذا کانت رخصة القیادة تصل الی البیت مقابل خمسة دولارات فان النتیجة ستكون هذه الفوضی.
کان ئیسف مشغولاً بما في داخل السیارة ولم ینتبه بالمرة لما قاله دَشْتي.. قال دون ان یرفع رأسه:
- قبل أقل من عامین عندما کنا نسكن في ذلك الكوخ، لم تكن أنت لتتمكن من دفع ایجار غرفتین، کانت زوجتك عن طریق خیاطة الملابس تعینك في أمور البیت، لا أدري هل ما زال الراتب کما هو ومخصصات الزوجة والطفل دینارین واثنا عشر درهماً؟ هذه السیارة وقصرُ دمدم(9) بجدرانه المبنیة بالمرمر الایطالي! هل ما زلتَ موظفاً أم تُراك اصبحت وکیل جمارك او آمر فوج!؟ ومد یده الی علبة سجائر نوع برلمان الفاخرة علی مقدمة السیارة، سحب سیجارة واشعلها، ثم نفث دخانها وأردف.. کیف، ومن أین!؟
وبضحكة ممزوجة بالافتخار:
- مرت علي ظلال طائر الحظ. من هنا، وأشار الی صدغه، ثم أکمل مبتسماً:
- هل ترید أن تغدو من أصحاب الاموال ویقال لك استاذ وسیدي، مالٌ کثیر.. وعمل یسیر؟!
بسماع هذه الكلمات انتصبت أذنا ئیسف کأذني أرنب وزاغت عیناه.
- ماذا.. کیف؟
- ستتجول فقط.
- ماذا.. أتسول؟!
- هاهاها.. أيّ تسول ئیسو، ایها المسكین، هل تعتقد ان الذین یمدون أیدیهم یتسولون دیناراً یعتاشون من ورائه؟ إنه تمویه لیس إلا. هنا في مدینتنا، الرخیصات وبائعات الهوی علی السریع یتعثرن بأقدام بعضهن!
- إذن، ماذا سأفعل؟
- الترحال.. السفر، الی الموصل وبغداد.. سأزودك بأسماء وعناوین بعض الاشخاص الذین یقیمون في المناطق الخاضعة لسیطرة الحكومة، کل ماعلیك هو ان تبحث عن أصحاب هذه الاسماء، اذا وجدت واحداً منهم یجب ان تقنعه وتجلبه معك وهكذا فان لك حصة من المال مقابل أيّ شخص تأتي به الی هنا.
- ومن هم هؤلاء؟
- کانوا من رجال النظام، العرب الساکنین في‌ دهوك قبل الانتفاضة، وقد منح النظام في حینه أغلبهم أفضل قطع الاراضي السكنیة والدور، مع الانتفاضة هربوا کأي محتل و.. و.. ونتیجة للحصار الاقتصادي فان العراق یعیش المجاعة والبلوی، ومعیشتهم في أدنی درجاتها، لذلك هم في حاجة ماسة للمال، اذا جلبت أحدهم ووقّع عقد البیع ستستلم حصتك فوراً.
- وهل المشتري جاهز هكذا؟ سأل ئیسف کمن سمع شیئاً لكنه لا یصدق.
قال دَشْتي بثقة لاعب متمرس:
- طبعاً، هذه لعبتي.. مكتبي الخاص بتجارة بیع وشراء العقارات في الخدمة.
- وکم ستكون عمولتي؟
- لیس أقل من عشرة الی خمسین الف دینار وحسب النسبة، أي عشرة بالمائة.
فغر ئیسف فاه..
- خمسون ألف دینار.. خمسون ألفاً؟
أطلق صفیراً ثم أردف:
- لكن! ماذا کان العرب في كوردستان سوی أمن ومخابرات وشرطة وواحدهم لیس أقل من مرتبة رفیق مناضل! فكیف سیثقون بي للمجیئ الی هنا؟ وهل کان الذي یفعلونه بالناس هنا أقل مما کان یفعله الفرعون ببني اسرائیل، یذبّح أبناءهم ویستحیي نساءهم..!
- قلت لك، هذه لعبتي. سأکون في انتظارکم عند نقطة التفتیش، أقل من ساعة، نصل الی الدائرة ثم أعیده الی نقطة التفتیش مع حمل مطیة عربیة من العملة المطبوعة.
- حسنا، دشتي.. متی ابدأ العمل؟
- الیوم، الان لو أحببت.. قال بفرح وهو یبدو کثعلب عجوز حظي بطریدة.
- حسناً سأذهب الان.. قال ئیسف وهو یشیر برأسه.
مد دشتي یده الی جیبه ومن المحفظة الملیئة بالدولارات أخرج ورقة وقال:
- هذان عنوانان لشخصین، أحدهما کان مفوضاً في الامن، ترك بیتاً وقطعة أرض تجاریة، لو إشتریتُهما منه فانك ستشتري بحصتك سیارة برازیلي.
"هنیئاً لك یا ئیسف یا لك من محظوظ، کنت تنتظر نسرین متی تعود للبیت والاربعین أو الخمسین دیناراً التي کانت تأتي بها، کنتَ تحتار ماذا تفعل بها، أتشرب أم تلعب القمار؟ والان.. الان الآف الدنانیر من الطبعة السویسریة ستحولها الی الطبعة المحلیة وتنحدر في شوارع وأزقة بغداد و......"
کان یحدث نفسه والشیاطین عقدت حفلتها في رأسه وهي تسعّر نار الرغبة والشهوة في صدره، کان یفكر في القصور والابراج وموائد القمار العامرة بما لذ وطاب من کل أنواع المشروبات والنساء الجمیلات اللواتي یعرفن کیف یثرن غرائز الرجل. بغداد ولیالي الرشید وأبو نؤاس الحمراء الفاضحة، أساتذة في فن الشهوة والجنس، یآآآه ما أحلی الثراء!
التفت الی دَشْتي وقال:
- أستاذ ، سأذهب الان.
- هل لدیك نقود؟
هز ئیسف ر‌أسه علامة النفي وسحب من جیبه دینارین فقط. مد دشتي یده الی خزنة السیارة أمامه:
- خذ هذه لك خمسمائة دينار... وأدار مقود السیارة:
- سأوصلك الی مرآب سیارات الموصل وسأکون في انتظار عودتك.
نظر الی سیارات الكوستر التي تنقل المسافرين الی (فایدة) کان هناك احد الشباب یجلس الی طاولة وعلیها حزم من الدنانیر بطبعتیها السویسریة والمحلیة، اقترب منه وسأله:
- کم تساوي خمسمائة دینار؟
أخرج حاسبة صغیرة وبدأ یحسب.
- 500 ضرب 48 تصبح 24000 اربعة وعشرون الف دینار.
استبدل فلوسه وهو یقول "دولار واحد یساوي 1728 دیناراً وراتب الموظف خمسة الاف دینار، لذلك کان السید جورج یقول "العراق غارق حتی أذنیه في الدعارة"
کان ینظر من خلال نافذة باص الكوستر الی المدینة والدور الكبیرة والسیارات من کافة المارکات والمودیلات، قال في نفسه "اذا جری الماء في ساقیتي، تكفيني‌ سنة واحدة"
في مفرق منطقة (آلوکا) الذي تحول الی مرکز لتحمیل النفط، حولته شاحنات النفط الترکیة الی مایشبه بیت النمل. ذکّرته البنایة الواقعة علی قمة التلة وطابور السیارات في آلوکا بتلك المرة الوحیدة التي جاء فیها مع أمه یزوران خالته وأطفالها بعد أن ألقوا القبض علیهم وأودعوهم سجن النساء في تلك القلعة لأن ابنها هرب من جحیم القادسیة، وذکّرته أیضا بطوابیر النساء والرجال وهم یتدافعون من اجل الحصول علی قطعة لحم روست أو أية حاجة أخری من مستلزمات البیت علی أیام (الاوروزدي) المقبور. راح یفكر.. العفالقة کانوا یدفعون الناس دفعاً للانحراف، في هذه البقعة المبارکة من کرة الارض هناك مبدأ یقول "جوّع کلبك، یتبعك دوماً" قریة علی بحر من البترول، الشرق والغرب أُتخِموا منه، الخمرة تملأ الاسواق والوقود شحیح! وأحیانا تنفد المواد الغذائیة من الاسواق، لان التفكیر بغيرها أمر خطیر... أساتذة، خبراء في سایكولوجیا البشر. کل من استلم زمام الامور بدأ یوزع الهبات والعطایا، إملأ فم المُلاّ والآغا والباقي یتولاه السوط والرصاصة و.. و.. وفي الاعیاد والمناسبات الوطنیة والقومیة والدینیة وحفلات الزواج وأعیاد المیلاد، تفتح أبواب الخزائن علی مصاریعها. جاءت أجیال وذهبت أخری ونظام المكرمات لم ینتهي، البعض یموت بالتخمة من المال والبعض یموت من أجله... المال مال الله، وکلمة سیدي ومولاي هي المفتاح. ومن إستعصم فلیتضرع الی الله.. من المهد الی اللحد لُقنوا جملة واحدة "بالروح بالدم نفدیك یا..." لا غرابة فجمیعُ (حفظه الله) ات خرجوا من تحت رداء معاویة والمنصور (رضي الله عنهما) الی أن یظهر (أدام الله ظله).
قبل نقطة التفتیش لمح صدیقه حجّي فأشرق وجهه، کانت سیارتاهما متقابلتین، نادی ئیسف:
- حجي، کیف الحال، لم أرك منذ مدة طویلة؟
التفت حجي جهة صوت ئیسف:
- ئیسف.. تنورت عیني برؤیتك! وهل هناك شئ، عدا نبات الخبّاز، متوفر أکثر مني في دهوك؟ ولكن کیف ترکت الطاولة دون راع؟
- هل ستذهب في رحلة صید وانت متأهب هكذا؟ .. قال بعد ان ترجلا.
- مثل لاعبي القمار.. نحن المهربین ایضاً کالخفافیش نخرج من بیوتنا بعد أن ینام الناس!
- المهرب.. إذا أُلقي القبض علیه ذات لیلة یذهب جهدَ سنةٍ کاملة أدراج الریاح، تعال إشتغل معي، عمل بسیط وربح وفیر، فیفتي.. فیفتي، وبأخوّة.
قال حجي ضاحکا:
- أخوّة المهرب والمقامر ستكون کأخوة الثعلب واللقلق(10) وفي أحسن الاحوال ستكون مثل ... وأشار باصبعه جهة نقطة التفتیش... کم جرّت علی رؤوسنا هذه الفیفتي فیفتي.
إقترب منه ئیسف، شاوره في أذنه... قال حجي بغضب:
- ما تقوله أسوأ من النهب والرشوة التي أصبحت الیوم أمراً اعتیادیاً، انها خیانة، مهما کان وتحت ایة ذریعة.
قطع احد رفاق حجي حدیثهما "هیا أسرعوا فلنذهب"
صعد حجي الی سیارة اللاندکروزر وترك ئیسف، وانطلقت السیارة منعطفة نحو سفح الجبل علی الطریق الترابي. الوقت أصیل متأخر وقرص الشمس یبدو کبرتقالة فضائیة معلقة وهي تتدلی في أفق سهل (هَسنا ومیرا) کانت اطارات سیارة اللاندکروزر، کقطار یعمل بالفحم الحجري، تخلف وراءها عموداً من الغبار. کان یجلس بجانب السائق ومن خلال نافذة السیارة کان یری من بعید سیطرة (فایدة)... طوابیر السیارات وزحمة البشر عند السیطرة تبدو کمشهد أیام زیارات السجناء... الاخوة المؤمنون الذین کان الفرات ذات یوم حدودهم، شردونا الیوم. في الشدائد والمحن یلبسون عمامة الاسلام وفي أیام الفرج عقال العروبة، وبأسم الله یدفعون الاخرین من ضیق الدنیا الی سعة الجنة...
ورغم انه کان یری ذلك المشهد کل یوم تقریباً، لكنها کانت المرة الاولی التي تذکّره بمرارة التجربة، التي لم ینسها قط، وبتلك القوة ودقة تفاصیلِ أحداثها... قال مع نفسه "لا أدري ما هو السر في هذا الامر الذي یدفع الناس لسلوك مثل هذا الطریق؟"
وتردد صدی صوت جده في أذنیه عندما کان یتهیأ للذهاب الی الحج والقرویون یدعون له بسلامة العودة وهو یقول " أَدعو الله ان یتوفاني هناك"... مالت اللاندکروزر الی جانب وهي تجتاز حفرة في جانب الطریق الترابي.
غاص في ذکریات الامس.........
إجتازت الاطارات المطبّ المعمول بالاسفلت علی الشارع ووقفت سیارة الاجرة البرازیلي التي کان یستقلها في نقطة تفتیش (سوارَتوکا).
یوم الخامس عشر من آیار 1982 کان ذلك الیوم الذي اُرسل فیه مع مجموعة من الشباب من معسكر (آمیدي) الی مرکز التدریب العسكري في الموصل، ونتیجة لتواصل المعارك الطاحنة بین العراق وایران وال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.