يوم 7 يونيو 1965، أعلن الحسن الثاني عن قراره باستعمال السلطات التي يخولها له الفصل 35 من الدستور لحل الأزمة السياسية التي أصبحت ثقيلة جدا منذ مظاهرات الدارالبيضاء الدامية .والدستور لم يكن ينص صراحة على استمرار عمل البرلمان, والملك ومن خلال تفسير واسع لمقتضيات الدستور، قرر حل المجالس إلى أجل غير مسمى وحرمان البرلمانيين من تعويضاتهم، كما تم وضع حصار أمني على مقر البرلمان لمنع دخول البرلمانيين. في أوساط الرأي العام استقبلت قرارات الملك بدون أية ادانة, بل ظهر نوع من التأييد لما وقع للمنتخبين (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد المغربي للشغل اعتبرا أن القرار الملكي ينطوي على بعض الجوانب الايجابية, حزب الاستقلال عارض بقوة القرار, لكنه اقتصر فقط على الاحتجاج, ومجموعات الأغلبية انقسمت حول القرار لكنها لا تستطيع التعبير صراحة عن رأيها, والثابت فقط أن أحمد رضا اكديرة والدكتور الخطيب عبرا للملك عن موافقتهما على حل البرلمان)، وهكذا ولدت مناهضة النظام البرلماني ومرة أخرى أظهر النظام السياسي المغربي قدرته الخارقة على استهلاك المؤسسات والرجال الذين كان بإمكانهم أن يمنحوه فرصة للتجديد. خلفية القرار وقرار حل البرلمان ليس نتيجة لمجرد حركة غضب، ولكنه نتيجة لتطور سياسي لم يكتمل، كان متوقعا منذ إقرار الدستور. فالملك كان يفضل أن يجد في المؤسسة آلية طيعة للحكم, وبحكم معرفته بالانقسامات التي يشهدها الجسم السياسي المغربي, قرر إجراء الانتخابات النيابية أولا ,على أمل كسب الأغلبية بسرعة. وأحزاب المعارضة التي أبهرتها النتائج الغامضة للاستفتاء، ارتكبت نفس الخطأ في التقدير الذي ارتكبه الملك، اعتبروا أنهم هزموا مسبقا ونشروا خلال الحملة الانتخابية شعارات لتهييء قواعدها للهزيمة وللمعركة الطويلة خارج البرلمان. وأمام مفاجأة انتصاراتها، ظلت هذه الأحزاب أسيرة دعايتها ولم يكن باستطاعتها بين عشية وضحاها التعاون مع من كانوا ينددون بهم لفترة طويلة ,ووجدوا أنفسهم أسرى مواقف متصلبة وبعضهم كان يشك في قوة سلطة وجدت نفسها مهددة من ذاتها، لكن هذه المعارضة ستكتشف خطأها بسرعة عندما رأت أن النظام لايتردد في استعمال العنف ضد خصومه دون أدنى مراعاة لكرامتهم , وما اعتقال منتخبي حزب الاستقلال المعتدلين بتهمة الإساءة لمصداقية المغرب بالتدخل لدى سفارة الولاياتالمتحدة ضد استعمال القمع في الحملة الانتخابية، أعطى مثالا أولا على إصرار الحكومة. كما أن الاعتقالات وأعمال العنف التي تلت مؤامرة يوليوز 1963 ، أظهرت أن السلطة مصممة على المواجهة بقوة . ومنذ البداية كانت اللعبة خاطئة، فالسلطة والمعارضة متفقان لتحديد مجال المواجهة بينهما أو اتفاقاتهما الأساسية خارج البرلمان، هذا الموقف المستخف تجاه المجالس تقوى من خلال الصراعات الداخلية التي تخترق كل اتجاه. القيادات الشابة ضد الزعامات القديمة داخل حزب الاستقلال، الاتحاد المغربي للشغل ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الدوائر السياسية لأحمد رضا اكديرة ضد أنصار الحركة الشعبية وحتى داخل هذه الحركة، الصراع بين أنصار الدكتور الخطيب وأنصار المحجوبي أحرضان. هذه الانقسامات الداخلية كانت تمنع البحث عن توافق، لكن المواجهات كانت تقتصر في الغالب على الحروب الكلامية أو عبرالصحافة, والانتخابات لم تؤثر على هيمنة الطبقة السياسية التي وصلت إلى السلطة إبان الاستقلال، فلم يكن مطروحا بأي حال من الأحوال بالنسبة لها قلب النظام، بل فقط المنافسة من أجل ممارسة الحكم تحت سلطة الملك, والبرلمان في مثل هذه الظروف لن يكون سوى وسيلة لإثارة الانتباه, وفي أحسن الأحوال التأثير على الملك,ولن يكون, مادام الملك لم يتخل عن ممارسة سلطته، سوى وسيلة للحكم. ولذلك عندما قرر الملك في يونيو 1965 اللجوء إلى ممارسة السلطة بشكل مباشر ودون تقاسم, بدا قراره فعلا مخالفا لروح الدستور, ولكنه لم يكن مخالفا للتقليد السياسي المغربي، فعندما قرر الملك محمد الخامس يوم 20 ماي 1960 تحمل المسؤوليات لوحده، لم يكن أي إطار مؤسساتي موجودا آنذاك, وبحكم القانون والواقع كان الملك مصدر كل السلط. ووراء مظاهر استبدادية كان محمد الخامس غالبا ما يلجأ إلى استعمال التشاور والتوازن بين مختلف الاتجاهات، محققا بذلك حياة برلمانية بدون برلمان. لكن أسطورة الحكومة المحدودة كانت قوية, حتى يكون هذا الملك أب الاستقلال مجبراعلى تبرير قراره بوعد إصدار دستور خلال أجل سنتين. وقد عرف الحسن الثاني كيف يحقق هذا الوعد لصالحه، لكنه كان لايزال يرفض ممارسة الحكم بشكل فردي أو التخلي عن حقيقة السلطة لفائدة ممثلي الأحزاب. وهذا الأمر دفعه إلى حل برلمان كانت فعاليته قد تبدو محدودة، لكنه كان وسيلة لإعطاء بعد وطني لمشاكل كان يفضل الملك تأخير حلها. وكان الأمر سيكون مغايرا لو أن الناخبين اختاروا في ماي 1963 أغلبية واسعة من الملكيين المتحمسين على شاكلة نظام الجمهورية الخامسة الفرنسية, وكان بإمكان البرلمان أن يعطي للمغرب سمعة البلد الديمقراطي, وكان بإمكانه أن يستخدم كقاعدة تجربة ووساطة بالنسبة لسياسة الملك دون أن يصبح مع ذلك مركزا لقرارات مستقلة. الملك وبعدما خدعه نجاح الاستفتاء الدستوري لدجنبر 1962, لم يعتبر أنه من الضروري أن ينخرط شخصيا من أجل تجميع أنصاره, وظهر أن فوزهم في انتخابات 17 ماي 1963 كان هشا. والأغلبية من الفديك( جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) داخل البرلمان كانت مضمونة، لكنها كانت معرضة للمزايدات ولعمليات الاستقطاب, وسرعان ما اتجهت إلى التميز عن حكومة كانت تهمشها وتحتقرها وتهابها. ومنذ انتخابه، ظهر أن البرلمان غير قادر على لعب دور الداعم السياسي للحكومة, وكل الوزراء هزموا باستثناء أحمد رضا اكديرة، ولم يكن للأغلبية زعيم برلماني قوي, وحده الدكتور الخطيب كان بإمكانه أن يضطلع بهذا الدور، لكنه معزول بحكم انتخابه رئيسا للبرلمان. هذا الدور اضطلع به حرمة ولد بابانا، ويبدو أن ماضيه كنائب في الجمعية الوطنية الفرنسية والرغبة في عدم ترك المبادرة لحزب الاستقلال فيما يخص المطالبة بضم موريتانيا، أهلاه لهذه الوظيفة. وإذا كانت نوعية منتخبي الأغلبية تبدو ضعيفة في بعض الأحيان، فإن المعارضة كانت تضم في صفوفها شخصيات تحظى بتجربة سياسية قوية، لكن حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية أبديا تحفظات على تواجدهم في البرلمان، كانت تبدو في مظهرها شكلية, هدفها حجب مشاركتهم الفعلية في تسيير مؤسسات ندد بها البعض منذ الاستفتاء والبعض الآخر منذ مقاطعة الانتخابات البلدية. فالاتحاد المغربي للشغل يعلن معارضته للمؤسسة بتعابير تستهدف النظام وفي نفس الوقت المعارضة اليسارية. وفي الواقع فرضت حرب الحدود مع الجزائر على المعارضة اتخاذ موقف الحذر. البرلمان الأول المغربي المنتخب في مرحلة توتر وعنف, والمجتمع في ظل تهديد خارجي كانت مهمته تغيير التسيير الفعلي للمؤسسات. وحسب مقتضيات الدستور, لم يكن الأمر يتعلق بهيئة بدون سلطات. فمراقبة الحكومة بالاشتراك مع الملك، والتصويت على القوانين وعلى قانون المالية كانت توفر له أسلحة مهمة. لكن منذ البداية ظهرت الخلافات وسوء الفهم، فأحزاب المعارضة كانت تتدخل وفقا لتاكتيك شبيه بتاكتيكات الماركسيين في ظل ديمقراطية بورجوازية. كانوا ينكرون قيمة وتمثيلية المؤسسة ولا يفكرون إلا في استعمالها ضد الجهاز التنفيذي. وأمام هذا الموقف كان الجواب هو الحذر من جانب الحكومة، حذر لم يستتن حتى نواب الأغلبية. وهكذا وصل الوضع إلى حرب استنزاف, مسؤولياتها مشتركة، فالحكومة التي تتوفر على سلطات تسمح لها بتوجيه عمل البرلمان، كانت تميل دائما إلى تحويل انتباه البرلمان نحو قضايا ومشاكل بسيطة، ولم تكن تريد لا عرض نواياها ولا إشراك البرلمان في قراراتها، بالمقابل كانت المعارضة تبحث فقط عن المساحات التي تمكنها من خلق تناقض بين الحكومة والأغلبية باستعمال الأطروحات الوطنية والمحافظة. وبالرغم من كون هذا الموقف كان هو السمة البارزة للعلاقات بين الحكومة والبرلمان، فإننا نستطيع أن نجد في بعض اللحظات تصرفات مختلفة. ا - بداية بلورة سياسة توافقية في البداية, أبدت الأغلبية والمعارضة روحا من التوافق من أجل تنشيط المؤسسة البرلمانية، هذا الموقف من جانب المعارضة حمل من جهة تاكتيكا ذكيا من أجل إبعاد بعض فصائل الأغلبية عن الحكومة، وبالتالي اقتربت المعارضة من تيار قوي جدا في السياسة المغربية, الذي كان يريد أن يتم اتخاذ القرارات الجماعية المهمة بالإجماع ,والقانون الذي يتصور أن بإمكان الأغلبية أن تفرض وجهة نظرها على الأقلية كان مرفوضا ولا يعتبر ديمقراطيا. وكان يستدل بظروف انتخاب هذه المجالس لتبرير هذا الموقف، ولكن في الواقع كان الانطباع الغالب هو أن البرلمانيين يميلون إلى أسطورة الإجماع الوطني الذي تعود جذوره إلى فترة مقاومة الحماية, وتجد مصدرها في موقف أعمق للأمة الإسلامية, وفي مراحل أخرى كان هذا الحلم يتجسد في الحزب الواحد. بعد ذلك وأمام الصعوبات, وفي النهاية, فشل التجربة البرلمانية سيؤدي إلى بروز اللجوء إلى التحكيم الملكي وسيبرر استعادة الملك زمام التحكم في الأمور. في الأصل, تأثرت روح التعاون التي أبداها البرلمان بالظروف الخارجية، فحرب الحدود مع الجزائر خلقت إحساسا بالوحدة الوطنية حول الملك، وكانت أحزاب المعارضة تبدو مرتاحة لاستغلال مناسبة الخروج المشرف من وضعية بدون مخرج التي وجدت نفسها فيها بعد مقاطعة الانتخابات البلدية. وقد سهلت جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك) هذا الدخول من خلال توسيع مبدأ التمثيلية النسبية المنصوص عليها في الدستور لانتخاب مكتب المجلس، ليشمل رئاسة اللجان. وهكذا حصل حزب الاستقلال على رئاسة الشؤون الخارجية في شخص عبد الخالق الطريس ولجنة الانعاش الوطني في شخص أحمد بن منصور النجاعي وكذلك لجان الشؤون الاسلامية والمواصلات. وحصل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على رئاسة لجنة العدل في شخص الأستاذ التبر وكذلك لجنة الوظيفة العمومية وتكوين الأطر. والرئيس الذي اختارته الأغلبية الدكتور الخطيب جسد هذه السياسة, ومنذ الجلسات الأولى المتعلقة بإعداد القانون الداخلي للمجلس، اتخذ موقفا مستقلا تجاه حكومة اعتبر أن لأصدقاء اكديرة فيها النصيب الأكبر. كما أن أعضاء الحكومة أهملوا أشغال المجالس واستطاع الحقوقيون المنتمون إلى المعارضة التأثير في إعداد النظام الداخلي. وانضم الرئيس الخطيب إلى مقترحاتهم الرامية إلى تجاوز الاختصاصات الممنوحة لمجلس النواب في الدستور، وهكذا تحول تقديم الحكومة إلى البرلمان إلى مسطرة تنصيب, كما تم إقرار لجان تحقيق بسلطات واسعة, واستعاد البرلمان سلطة تحديد جدول الأعمال. وبخصوص مختلف هذه النقط، كانت الأغلبية والمعارضة تميل إلى اتخاذ موقف مشترك, وكان الدكتور الخطيب يساند وجهة النظر البرلمانية التي طعنت فيها الحكومة والغرفة الدستورية بالمحكمة العليا. صحيح أنه كان بذلك يستعيد مواقف دافع عنها بقوة في الماضي داخل اللجنة الحكومية المكلفة بدراسة مشروع الدستور. وأتيحت للرئيس فرصة الدفاع بقوة عن البرلمان عندما رفع إلى الملك احتجاجا صادق عليه البرلمان بالإجماع، وكان هذا الاحتجاج جوابا عن تعليق لاذع لأحد المعلقين بالاذاعة اتهم فيه البرلمان بالبطء وعدم الفعالية. الأشهر الأولى سمحت بملاحظة الانسجام الداخلي للبرلمان إزاء الحكومة، بعد إقرار النظام الداخلي وتقديم الوزير الأول أمام البرلمان، بل لوحظ فيما بعد انفراج في العلاقات بين الجهازين وإقرار الميزانية كان مناسبة لمناقشات طويلة في اللجان, حيث كان نواب المعارضة يؤدون عملهم بشكل جيد وبروح نقدية بناءة لعمل الحكومة لم يصل الأمر إلى حد المصادقة على مختلف فصول الميزانية، ولكن بدل التصويت ضد , كانوا يمتنعون عن التصويت باستثناء التصويت على ميزانية الدفاع الوطني التي حظيت بالإجماع يوم 5 مارس 1964. وفي افتتاحية صدرت في جريدة LES PHARES 22 فبراير 1964 ) والتي يستشف أن وراءها "مهندس الدستور" أحمد رضا اكديرة،عبرت عن الارتياح للسير الجيد للمؤسسات البرلمانية .وفي نهاية الدورة الأولى كان الانطباع يوحي بأن المؤسسة تعمل بشكل جيد. وأظهرت العلاقات مع الحكومة بأن روحا برلمانية حقيقية موجودة بغض النظر عن الانتماءات (لوحظ أن واحدا من القرارات الأولى المتخذة بالإجماع من طرف البرلمان داخل لجنة سرية هو قرار اعتبار البرلمانيين كالموظفين بمؤشر 800 (المؤشر الخاص بالوزراء)، مما يضمن لهم أجرا شهريا بقيمة 3500 درهم وامتيازات أخرى متعددة). ولم تصل انتقادات المعارضة الى درجة من العنف الممنهج. وتصريح الوزير الأول وكذلك التصويت على الميزانية شكلا مناسبة لبعض المناوشات، لكن كانت هناك تصريحات معتدلة يمكن أن توحي بوجود انفتاح. وهكذا كان التدخل البناء والمرحب به الذي ألقاه أحمد بن منصور النجاعي عقب تصريح الوزير الأول مناقضاً لهذا الاتجاه، ليدخل كل من علال الفاسي وعبد الخالق الطريس, اللذان عبرا عن الرغبة في المراقبة القبلية للبرلمان لكل القرارات المهمة للحكومة. وهكذا ظلت هناك اختلافات في العمق، لكن المؤسسة كانت تشتغل رغم دهشة البعض. و بدأت قيمة رجال السياسة تظهر وفقاً لوزنهم البرلماني وليس فقط وفقا لماضيهم الوطني أو تحالفاتهم العائلية أو حسب عطف الملك. وهكذا ظهر لمن لم يكونوا داخل البرلمان أن نفوذهم بدأ يضعف، وبدأت القضايا التي تشتغل عليها الحكومة، حتى تلك التي ترفض اختصاص المجلس فيها، تبنى وفقاً لردود فعل البرلمانيين. ب فشل الملكية البرلمانية لكن هذا النفوذ الواضح للبرلمان ليس كافياً لقيام نظام برلماني. فالسلطة الحقيقية مازالت بيد الملك الذي لا يبدو أنه ينظر بعين الرضى لميلاد فكر برلماني مستقل. في الواقع، أسلوب الحكم ظل رئاسياً. فالملك لم يكن يعتبر البرلمان القناة الملائمة للموافقة على سياسته، كان يعرض الخيارات الكبرى لسياسته في مجال الفلاحة والتعليم على جمعيات خاصة تهيمن عليها الفئات المهنية والاجتماعية، لكنه وجد في هذه الاجتماعات الخاصة معارضة أكثر حدة من البرلمان. فالعناصر المسيسة المتواجدة بهذه الجمعيات سرعان ما همشت باقي المشاركين. والمهنيون الذين فهموا جيداً تضامنهم واكتشفوا قوتهم، أظهروا في بعض الأحيان جرأة تجاه النظام أكثر من السياسيين. وهكذا وجد الملك نفسه أمام مقترحات حلول غالباً ما تتضمن الدفاع عن مصالح خاصة. وفي غياب العلاج الذي كان يبحث عنه، ازداد حذر الملك تجاه النظام، والذي ظهر منذ النتائج غير المؤيدة لانتخابات 17 ماي 1963، وهكذا ساد الانطباع بأنه يراهن على فشل التجربة ويريد أن يصبح هذا الفشل واضحاً قبل أن يضع نهاية لهذه التجربة. من جانبها، كانت المعارضة بدورها تتجه نحو تاكتيك خطير وغامض، فالدورة الأولى للبرلمان جعلتها تكتشف حجم قوتها والتأثير الذي يمكن أن تمارسه على الأغلبية من خلال اختيار مواضيع تحركها. وبدأ يتبلور تقارب تاكتيكي بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية فيما يخص إعداد المشاريع التي ستعرض على البرلمان خلال الدورة الثانية. وعلى المدى البعيد، لم تكن هذه الأحزاب تفكر في تعويض الفريق الحكومي، كما يفترض في النظام البرلماني، بقدر ما كانت تفكر في الضغط على الملك، على أمل أن تظهر له الخطر القائم في عدم إشراكها في الحكم. وبدأت الصعوبات مع بداية الدورة الثانية للبرلمان، حيث كانت الانقسامات داخل الأغلبية أوضح وأعمق. فقد تم تأسيس PSD يوم 12 أبريل بالدارالبيضاء من طرف أحمد رضا اكديرة وبعض مؤسسي الجبهة من أجل الدفاع عن المؤسسات الدستورية (FDIC) وبدأت الحركة الشعبية تفكر في استعادة حريتها وتعتبر أنها غير ممثلة كما يجب داخل الحكومة. وكان الفريق الحاكم مشلولا. ولم يجرؤ أحد على تحمل مسؤولية تنظيم النقاشات البرلمانية. والوزراء كانوا ينتظرون توجيهات الملك بهذا الخصوص، والتي هي في الحقيقة من اختصاصات الحكومة. وأمام تردد الحكومة، اختار رئيس البرلمان مرة أخرى حل البرلمان ووضع في جدول أعمال المجلس مشاريع المعارضة حول توحيد القضاء ومنع صحافة "»ماص"« والإصلاح الزراعي وبعض النصوص الأخرى أقل أهمية قاسمها المشترك هو وضع الأغلبية في وضع حرج والحكومة المكلفة »بتنفيذ« القوانين في وضعية بدون مخرج. وفي النهاية، حصل رد فعل الحكومة مؤخراً، وزعم باستعمال الاختصاصات التي يضمنها لها الفصل 49 من الدستور في تحديد جدول الأعمال. لكن كان عليها أن تفاوض وتقبل جزءاً من مقترحات المجلس، وفي المقام الأول، مشروع توحيد القضاء. في المقابل، كان يتعين على البرلمان أن يناقش المشاريع المالية المحددة في إطار سياسة التقشف التي أعلنها الوزير الأول يوم 22 ماي، والتي تتضمن على الخصوص الزيادة في ثمن السكر بنسبة 46%. كان رد فعل البرلمانيين رافضاً لهذا الإعلان، وكانوا غير مستعدين لإقرار اجراءات ضريبية ستجعلهم يقبلون مخططاً مالياً لا شعبياً قررته الحكومة وحدها (رفع ثمن السكر، تقليص الدعم التقني ب 20%، اللجوء لصندوق النقد الدولي...). وكما كان مقرراً، تم التصويت بالإجماع على قانون توحيد المحاكم دون أن تكون للحكومة الشجاعة لمعارضته وجر الأغلبية الى صراع سياسي صعب ولا شعبي. ويبدو أن الحكومة في مثل هذه المواضيع، تنأى بنفسها عن الآثار المترتبة عن تصويت الأغلبية على أنصارها. وقد فهمت الدرس، بحيث أن كل وسائل التماطل والتمويه جائزة لتفادي عرض مثل هذه المشاريع للمناقشة مستقبلا. إنهاء الدورة البرلمانية الثانية المعلن عنها يوم 18 يونيه، تأخرت آثاره من خلال وضع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ملتمس رقابة حول السياسة النقدية للحكومة. وقدمت المناقشات حول ملتمس الرقابة الدليل الفعلي بأن وجود برلمان تسيطر عليه مبدئياً أغلبية موالية للحكومة يمكن أن يكون وسيلة خطيرة في أيدي المعارضة. وقد استغل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لاشعبية اجراءات التقويم المالي، ولم يكن للحكومة من وسائل للدفاع عن نفسها سوى تشبيه خصومها بالخونة. وحذر الوزراء نواب الاتحاد الوطني من الاستمرار في التضامن مع المهدي بن بركة ورفاقهم المتورطين في المؤامرة وحرب الحدود. وهددت الحركة الشعبية حتى النهاية بعدم احترام التصويت مع الأغلبية. ومرة أخرى، ظهر أن حل الأزمة يوجد خارج البرلمان، وحرص الملك على إظهار أنه ليس متضامناً كلياً مع الحكومة من خلال السماح بنقل المناقشات على أمواج الإذاعة والتلفزة. وبشكل غير مباشر، فإن المتابعة الشعبية الكبيرة لهذه المناقشات كانت تساهم في الحقيقة في ضرب مصداقية المؤسسة البرلمانية والأحزاب. ومن جهة أخرى، تدخل الملك لدى الحركة الشعبية ملوحاً بوعود إجراء تعديل حكومي يكون في صالحها والتهديد بالحل متبوعا باللجوء إلى الفصل 35، إذا ما ظهر أنه لا يمكن التحكم في البرلمان. انخراط الملك كان كافياً لتجاوز الأزمة، وبالتالي خرج موقفه الشخصي قوياً لكون الاتحاد الوطني للقوات الشعبية دعا إلى وحدة وطنية تحت قيادته. لكن كان من الواضح منذ نهاية الدورة الثانية أن البرلمان لا يستطيع لعب الدور الذي حدده له الدستور، ولا الدور الذي يريده له الملك. ولكن إذا كان تأثيره المباشر على الحكومة شبه منعدم، فإن التأثير الذي يمارسه على المواقف السياسية كان مؤكداً. والفاعلون في الساحة يعون ذلك، وفي الأشهر الموالية سيحددون تاكتيكاتهم وفقاً لهذه المعطيات. فالمعارضة ستحاول استغلال تفتت الأغلبية مجدداً من أجل التأثير على الملك، وهذا الأخير سيتحاشى الانخراط أكثر وبشكل مباشر في دعم الأغلبية، لكن غيابه، كما تدخلاته المباشرة ستساهم في إفراغ اللعبة البرلمانية من أي معنى, وموقعه السياسي لن يكون مهدداً في النهاية، بغرق البرلمان الذي كان يتوقعه وكان يشجعه في غياب إمكانية السيطرة عليه. ج انحسار المؤسسات البرلمانية النقاش حول ملتمس الرقابة سجل نهاية مرحلة كان بإمكان المعارضة والأغلبية التحاور في إطار مؤسسات برلمانية. وتفتت الأغلبية ترك المجال مفتوحاً أمام المعارضة التي ستحاول أن تجعل من البرلمان منبراً لمهاجمة النظام. بعد فترة قصيرة على المناقشات حول ملتمس الرقابة، طالب حزب الاستقلال الذي شعر بالغبن من عدم مناقشة المشاريع التي تقدم بها في بداية الدورة الثانية، طالب بمساندة من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعقد دورة استثنائية. كان بإمكان الحكومة استعمال الفصل 40 من الدستور لرفض هذا الطلب، وبالرغم من أن الدستور الفرنسي صيغ بمقتضيات ملزمة وصارمة أكثر، فإن رئيس الجمهورية الفرنسية رفض في أبريل 1960 عقد دورة استثنائية. ولم تكن الحكومة المغربية تحمل مسؤولية صراع حول نقطة مسطرية وتركت المسألة تتأرجح. على العكس، كان الدكتور الخطيب موافقاً على الاستجابة لطلب دعوة دورة استثنائية. وفي غياب مقتضيات خاصة في الدستور أو في القانون الداخلي لمجلس النواب اعتبر نفسه مخولا، إذا توفرت الشروط المطلوبة لدعوة البرلمان. والحكومة كانت منقسمة، ولم تعرف الموقف الذي تتخذه، لم تجرؤ على معارضة التفسير الواسع للرئيس، لكنها اختارت من ذلك المواجهة حول جدول الأعمال لإزاحة مشاريع المعارضة وتعويضها بنص حول مكافحة الفساد. هذه المناورة أثارت سخطاً عاماً وتعبيراً عن دكتاتورية الأغلبية والحكومة. حزب الاستقلال، بالرجوع الى المواضيع المثارة سابقاً، اعتبر رفض المناقشة على أساس جدول الأعمال الذي أعده الموقعون على طلب الدعوة إلى دورة استثنائية، أسلوب غير ديمقراطي، و في نهاية المطاف، اقترح علال الفاسي الرجوع إلى التحكيم الملكي ضامن الدستور, انضمت الفرق الأخرى ومكتب المجلس لهذا الاقتراح، لكن يبدو أن الملك لم يكن متحمسا لتحمل هذه المسؤولية. وبعد انتظار طويل وتفكير واستشارة. أصدر في النهاية تحكيما في صالح المعارضة , لكن أثره الفوري بقي محدودا، لكونه جاء أياما قليلة فقط قبل الدورة الاستثنائية للبرلمان. على المدى القصير، اقتصرت الآثار السياسية لهذا القرار على بعض التحركات الغاضبة داخل الأغلبية، وعلى المدى البعيد، فإن التحكيم الملكي يميل إلى تغيير اشتغال الدستور جدريا، كان البحث جاريا عن نوع من التوازن من خلال الحد من سلطات البرلمان، وخاصة فيما يتعلق بتحديد جدول أعماله، لكون الحكومة، وفق مقتضيات الفصل 59، لها الأسبقية بالنسبة للمشاريع التي تقدمها، ووفقا للتحكيم الملكي، فإن هذا النظام لا يعني سوى الدورات العادية المحددة في أربعة أشهر في السنة، والحكومة التي لا تستطيع أن تعول على آنضباط تصويت الأغلبية ستكون مدفوعة إلى تمديد الدورة العادية إلى ما لا نهاية، وإلهائها بمشاريع غير مهمة، حتى تبقى متحكمة في جدول الأعمال. ومن جهة أخرى بإمكان البرلمان، الذي تهيمن داخله المعارضة، أن ينهي باستعجال أشغال الدورة العادية حتى يتمكن من الاجتماع في دورة استثنائية في أقرب وقت من أجل مناقشة المشاريع التي يفضلها، ومثل هذا التطور سيقود بسرعة إلى نظام جمعية, حيث يجتمع البرلمان باستمرار ويظل سيد جدول أعماله. ولمقاومة هذه الضغوط، يمكن للحكومة اللجوء إلى آلية انضباط التصويت وإلى التهديد بحل البرلمان. لكن هذا التاكتيك سيفسر كما رأينا ذلك من قبل، على أنه مناورة دكتاتورية من طرف المعارضة التي يبقى زعماؤها متشبثين بشكل من التشاور والاحترام والمشاركة غير المباشرة في القرارات أكثر من تشبثهم بمنطق النظام البرلماني. بعد ذلك سيكون الملك وحده القادر على ممارسة مثل هذا الضغط على المعارضة، لكن يبدو أن الملك، في نونبر 1964، لم تكن له كامل الثقة في أنصاره حتى يتورط إلى جانبهم. وكان يتصرف كما لو أن المرحلة البرلمانية كانت تبدو له متجاوزة, وهوحريص على الحفاظ على موقعه التحكيمي فوق المجموعات. دون أن يتحمل المسؤولية، أوضح مع ذلك الطريق الذي يجب أن تسلكه الأغلبية ونصحها بأن تضمن في القانون الداخلي لمجلس النواب، فقرة حول الدورات الاستثنائية، بإمكانها أن تحد من ضغوط المعارضة. لكن الأغلبية، وبسبب انقساماتها ومعارضتها العميقة للحكومة، ظهرت غير قادرة على تبني هذا الحل بدون إصرار أكبر من الملك. على مستوى آخر، فكر الملك، في تشجيع مجلس المستشارين على إبداء استقلالية أكبر، من أجل احتواء ومواجهة مبادرات مجلس النواب, وجاءت مبادرته هاته في الوقت الذي مل فيه أعضاء الغرفة الثانية من تجاهل الحكومة ومن الإحساس بالاحتقار بسبب انتخابهم المشكوك فيه. كما أن رئيس مجلس المستشارين، السيد لمفضل الشرقاوي من الموالين لأحمد رضا اكديرة، الذي تخلى عن منصبه كوزير للشؤون الخارجية منذ 15 غشت، وجهوده من أجل تنشيط مناقشات مجلس المستشارين لم تنجح سوى في اشعال حرب ضد الحكومة وبعض الاحتجاجات الخجولة ضد هيمنة الغرفة الأولى. وظهر أن الوقت قد فات من أجل قيادة اللعبة السياسية فقط في الإطار البرلماني. بعد مرور سنة، بلغت التشوهات التي تعرض لها النظام البرلماني حدا أصبح يبدو معه العمل السياسي والتصويت على المخطط والميزانية والقوانين المقترحة من طرف الحكومة، يبدو ثانويا . الرأي العام والأحزاب غير مهتمة. وإذا كانت بعض المناوشات تحدث مثل تلك التي أدت الى رفض ميزانية وزارة الأشغال العمومية، فإنها تبدو أكثر بسبب قضايا مرتبطة بمصالح انتخابية أو زبونية ملحة. ومرة أخرى، أعاد تدخل الملك في الكواليس والتهديد بالحل، نواب الحركة الشعبية إلى الصف، فنواب الحركة الشعبية كانوا يريدون إعطاء درس لوزير لم يكن يوليهم أدنى اعتبار. لكن البرلمانيين والحكومة كانوا ينتظرون بقلق لحظة الدورة الاستثنائية, حيث بالإمكان، وحسب التحكيم الملكي، مناقشة قضايا لها أهمية سياسية حقيقية مثل منع صحافة »"ماص"« أو الإصلاح الفلاحي. قبل نهاية الدورة العادية الثانية سنة 1965، انكسر قفل دستوري آخر، وهذه المرة بسبب الحذر المبالغ فيه من طرف الغرفة الدستورية بالمحكمة العليا. ومن بين كم المقترحات المطروحة على مكتب مجلس النواب، من طرف نواب المعارضة، هناك منذ سنة بعض المشاريع المتعلقة بفرض بعض القيود على بيع المشروبات الكحولية، وألعاب الحظ، والترفيه العمومي وامكانية الموظفين الزواج من اجنبيات غير مسلمات. وبما أن الحكومة اعترضت بحجة عدم الاختصاص لكون هذه المواد تدخل في مجال السلطة التنظيمية، وتم رفع القضية أمام الغرفة الدستورية، لكن في ماي 1965 أصدرت الغرفة الدستورية قرارا يقر باختصاص البرلمان في مجال تنظيم بيع المشروبات الكحولية بالنظر للطابع الجنائي للقضية. وهذا القرار له أهميته. فعلى المستوى الشكلي القرار يخلق شرخا في التمييز بين السلطة التشريعية والسلطة التنظيمية التي كانت أساس الدستور. إضافة إلى أن الاعتراف بسلطة البرلمان كلما تضمن اقتراح عقوبات جنائية، فإنها تشير الى المخرج الذي سيسمح بتحوير الفصل 48 من الدستور. وانطلاقا من الرغبة في عدم مواجهة المشاعر الوطنية والدينية التي تعرف المعارضة استعمالها بذكاء، وصلنا مرة أخرى إلى مأزق تشريعي ودستوري. وبعد أحداث الدارالبيضاء، انضاف الى ما سبق، مأزق سياسي ولا يمكن للملك أن يخاطر بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة. وبالتالي ظهر له أن استعادة زمام السلطة المباشرة هو الحل الوحيد الممكن، في غياب قدرة الأغلبية على لم صفوفها من جديد. د المجالات الملحقة البرلمان المغربي خلال فترة وجوده القصيرة، لم يستطع لا حكم البلاد ولا حتى مراقبة الحكومة. بل إنه في أحسن الأحوال منع قيام نظام كان بإمكانه أن يعطي للمغرب شرف وجود حكومة ديمقراطية وتحييد التناقضات. فالمعارضة قلبت الوضع، حيث شلت سلطة منقسمة ومترددة وغير معتادة على المواجهة. وفي المقابل , هل نجح البرلمانيون على الأقل في تمثيل مصالح ناخبيهم؟ من الصعب الجواب عن هذا التساؤل بشكل نهائي وحاسم، ولكن بالإمكان تلمس بعض مؤشرات التصرف التي ربما ستؤثر بشكل دائم على الحياة السياسية المغربية. وكمثال على تأثير الناخبين على المنتخبين نلاحظ في المقام الأول خلال الفترة البرلمانية وجود نوع من الجهوية في الحياة السياسية أقل و ضوحا منذ اختفاء المجلس، ومن بين المؤشرات الدالة على هذا التطور، يمكن أن نلاحظ تصرف الزعماء السياسيين الذين كانوا جميعا يبحثون عن تغلغل محلي من خلال انتخابهم رؤساء للمجالس البلدية والمجالس الإقليمية. وشاهدنا تشكل قلاع ا نتخابية كانت في الغالب حضرية ,سواء في صفوف الأغلبية أو المعارضة. داخل الأغلبية نلاحظ تواجد وزراء أمثال عبد الهادي بوطالب في الدارالبيضاء, مولاي أحمد العلوي أحمد باحنيني في فاس، يوسف بلعباس في مراكش، محمد بنهيمة في آسفي، الرئيس الدكتور الخطيب في الجديدة، السيد المفضل الشرقاوي في الرباط، وفي العالم القروي، احرضان في زمور، ابن البكاي في بركان، حرمة ولد بابانا في طرفاية، نفس هذه الظاهرة نجدها في المعارضة وخاصة في حزب الاستقلال ,علال الفاسي انتخب في فاس، عبد الخالق الطريس في تطوان، بادو في مكناس, النجاعي في الغرب، أما بالنسبة لمنتخبي الاتحاد الوطني البارزين, فإنهم يتوزعون بين الرباطوالدارالبيضاء, لكنهم غالبا ما لم يكونوا يظهرون حرصا كبيرا بالنسبة لدوائرهم الانتخابية. بالموازاة مع هذه الجهوية للقيادات والزعامات السياسية، نلاحظ ميلاد تيار قوي جدا يتجاوز في بعض الأحيان حدود الفرق السياسية ويميل إلى ربط المنتخبين بالسلطات المحلية من أجل الضغط على السلطة المركزية. فنواب الشرق و سوس والريف هم الأكثر تمييزا بهذا النوع من التدخل. ولا نعرف متى يتحول الدفاع عن المصالح الى جهوية أو إٍقليمية سياسية ترتكز على المجالس المحلية والغرف المهنية، ولكن هذا النوع من العمل لم يكن يرمي إلى قيام استقلال ذاتي سياسي بقدر ما كان يرمي الى الحصول على تدخل الملك، وجلب الوعود بامتيازات مختلفة, والمستفيدون أكثر من هذا التصرف كانوا في الغالب في المناطق القروية والأقاليم المحيطة الفقيرة، والتي وجدت نفسها محظوظة سياسيا ومنحت لها الموارد المالية العمومية ,ولم تكن دائما قادرة على صرفها في غياب بنية إدارية كافية، فالمناطق الغنية وخاصة في المدن الشاطئية منها الرباطوالدارالبيضاء ربما عانت بشكل غير مباشرة من هذه السياسة. وبدرجة أقل، منهم البرلمانيون بسرعة أهمية التدخلات الشخصية لدى الإدارات والسلطات المحلية، وقد حاولت الإدارة في بعض المرات إبعاد أو الحد من هذه التدخلات، وقد حاولت وزارة الداخلية في فترة ما منع الاتصالات بين البرلمانيين ورجال السلطة أو رؤساء المصالح. وحدهم الدوائر العليا مثل العمال أو أعضاء ديوان الوزير كان لهم حق استقبال البرلمانيين. وأمام احتجاجات النواب، أعلن الجنرال أوفقير بمناسبة مناقشة ميزانية 1965، ان تعليات أكثر مرونة صدرت لجميع م مثلي السلطة في كل المستويات. لكن العلاقات بين السلطات والمنتخبين, حتى الذين ينتمون للأغبية كانت في الغالب علاقات سيئة، فالمنتخبون في البوادي الذين لم يكونوا يستوعبون دائما حجم سلطتهم على المستوى الوطني، كانوا يفضلون حرية أكبر في التحرك على المستوى المحلي, وكانت هناك دائما مواجهة بينهم وبين المصالح التقنية والسلطات فيما يخص إعداد المشاريع و تدبير الأموال المحلية. المنتخبون يؤاخذون على ممثلي السلطات إبعادهم عن القرارات, والمصالح الإدارية كانت تشك في أن المنتخبين غالبا ما يدافعون عن مصالح ذات طابع شخصي لا علاقة لها بالدفاع عن ناخبيهم. صحيح أن إلغاء البرلمان أظهر وبشكل مناقض أن المنتخبين القدامى فقدوا أجرا شهريا بقيمة 3500 درهم شهريا دون أن يعانوا من خسائر كبيرة. فنواب الأغلبية وغالبا من الميسورين أصلا، تمكنوا من الحصول خلال فترة اشراكهم القصيرة في الشؤون العامة، على مكاسب شخصية حقيقية مثل الحصول على قروض من القرض الفلاحي، وقروض من أجل البناء، ورخص استيراد، ومأذونيات نقل وغيرها. وفي كل الأحوال احتفظوا بنوع من الوجاهة الشخصية لم يؤثر فيها ما أصاب المؤسسة البرلمانية من حرج بسبب حلها، وظلوا، على الأقل فيما يتعلق بنواب الأغلبية، يشاركون في السلطة عن طريق مجالس محلية ومهنية تحظى بعطف الزعماء، وعلى المدى البعيد، سيكون التغلغل الجهوي لرجال السياسة أكبر في حالة ما إذا اجتمع البرلمان من جديد. هكذا كانت حصيلة التجربة البرلمانية المغربية ضعيفة جدا، من وجهة نظر تقنية: ميزانيتان وقانونان، ومخطط واحد، من وجهة نظر سياسية: تقوية تيار وطني متأسلم كاد أن يجر الأغلبية على المستوى المحلي، بروز نخب لاتقبل دائما إبعادها عن القرارات. ويعبر التيار الشعبي المعادي للنظام البرلماني غداة حل البرلمان, عن رد فعل على هيمنة طبقة حاكمة جديدة وطموحة أكثر من الإدارة الحالية. لكن حل البرلمان لم يحل الصراعات الخفية للمجتمع السياسي المغربي، بل يمكن القول أن مبدأ الأغلبية الذي ألهم الدستور المغربي لم يزد هذه الصراعات إلا استفحالا، وما كان للأمر أن يكون غير ذلك في مجتمع منقسم في العمق بهذا الشكل، وبالنسبة لمجتمع كهذا، فإن السلطة التنفيذية الممارسة بشكل تحكيمي من طرف سلطة ذات هوية دينية لا يمكن منازعتها من طرف جزء يحتكر مجموع التمثيلية الوطنية, بالمقابل تبقى الحاجة لتمثيلية واسعة لجميع اتجاهات المعارضة قائمة. كان من الممكن أن يصبح البرلمان المتنفس لكل التوترات والعنف الذي لا يمكن أن يعبر عن نفسه بطرق أخرى، لكن هذا الدور البسيكولوجي للمعارضة يقتضي وجود قائد للعبة واضح وصريح، فالإغراء كان قويا بالنسبة لفاعلين لا يتمتعون بالمهارة اللازمة وكانوا ضحية للعبتهم في استغلال تناقضات النظام وتفكيك اللاعبين الذين يوضعون في مواجهتهم. وفي وقت كانت تحولات مجتمعية قوية وغير مفهومة قد حصلت دون أن تترجم على مستوى المؤسسات السياسية , كان يمكن للعبة البرلمان أن تصبح خطيرة إذا لم تدر بشكل جيد. لكن المشكل الجوهري ظل قائما، فالملك عندما أخذ السلطة لوحده، أثبت ضعف الأحزاب والقوى السياسية المنظمة الأخرى، لكنه مع ذلك لم يجد الدوائر والوسطاء للقيام بتغيير جذري في البلد ، وبالتالى، فإن اللعبة السياسية لا يمكن أن تظل مجالا حصريا للأفراد والمجموعات التي تقاسمت السلطة فيما بينها غذاة الاستقلال. فإذا كان دخل الفرد على المستوى الوطني لم يتطور، نلاحظ مع ذلك تحولات وتغييرات في توزيعه أدت إلى تقوية السلطة الاقتصادية لبعض المجموعات المجتمعية. وهكذا لاحظنا تنامي طبقة اجتماعية متوسطة حضرية مرتبطة في الغالب بالوظيفة العمومية, كما أن البورجوازية القروية انخرطت في طريق تحديث الاستغلاليات والبورجوازية الحضرية تجاوزت مرحلة التجارة التقليدية للاستثمار في الصناعة التحويلية أو في السياحة بالإشتراك مع رؤوس أموال أجنية. كل هذه الفئات لن تقبل إلى ما لا نهاية نمطا لممارسة الحكم يمزج بين البنيات السياسية للحماية وبين بنيات المخزن لسنة 1912. وأغلب هذه الفئات ظلت تعترف لفترة طويلة بضرورة وجود سلطة ملكية قوية للحفاظ على الوحدة الوطنية. والملك نجح في هذه المهمة أحسن من حزب وحيد ربما كان سيحظى بميولهم العاطفية وأكثر ملاءمة لمصالحهم. لكنهم ظلوا دائماً يرغبون في إشراكهم في قرارات الحكم، وبالتالي، فإن النظام البرلماني يبقى صيغة مقبولة لضمان هذه المشاركة. وخطأ دستور سنة 1962 كان هو تنظيم برلمان وجد ليحكم دون أن نضمن له الوسائل لذلك. وظلت السلطة بقوة الأشياء وثقل التقليد السياسي بين يدي الملك. والدستور الذي يعترف بهذا الوضع، ينظم برلماناً مكلفاً بالمراقبة والتداول في بعض القرارات الكبرى، يكون أقرب إلى جمعية تأسيسية, لكن مع ضمان مساطر انتخاب ديمقراطية. وإذا سلمنا بأن الحكومة غير مسؤولة أمام مجلس النواب، سنتفادى الاحتكاكات والغموض. وانطلاقاً من ذلك، ليست هناك حاجة لنمط اقتراع بالأغلبية من أجل انتخاب الغرفة الأولى. وهذا النظام الموضوع من أجل خلق أغلبية حكومية يؤدي إلى انعكاسات تصدم البعض أثناء الانتخاب. بعد ذلك، يميل البرلمان دائماً إلى البحث عن الإجماع بالنسبة للقرارات المهمة، وإلا، فإن الأقلية تعتبر نفسها مظلومة وتهدد بعدم الانخراط في اللعبة. والمغرب مشكل من مجموعات سياسية قوية ومختلفة إلى حد أن أي أغلبية لا يمكن أن تبلغ في يوم من الأيام ودون عنف، حجماً كافياً لحكم المجتمع. فالأقليات قوية بشكل لا يمكن أن تختفي دون احتجاج أمام نتيجة صندوق الاقتراع، وتقبل بعد ذلك، القرارات السياسية للأغلبية التي يمكن أن تمس مصالحها. ونظام التمثيلية النسبية على المستوى الاقليمي، سيكون أكثر ملاءمة للتنظيم السياسي المغربي. وعلى العكس تماماً يمكن للغرفة الثانية والمجالس الاقليمية أن تضمن تمثيلية المصالح المحلية بشكل أفضل وتكون موضوع تقطيع انتخابي إلى دوائر تنتخب المستشارين حسب الاقتراع الأحادي الإسمي. ويمكن للمدن الكبرى لتفادي التعسف الناجم عن التقطيع، أن تستفيد من نظام اقتراع باللائحة، سواء بالأغلبية أو بالتمثيلية النسبية. وبنمط الاقتراع هذا, سيضم مجلس النواب ثلاث مجموعات متساوية تقريبا: الملكيون، الاستقلال ومجموعة يسارية غير متطرفة. ويمكن أن تتفرع مجموعات أخرى عن هذه المجموعات الكبرى دون أية مخاطر، بالنظر إلى تنوع التيارات داخل الرأي العام. ويمكن أن نشهد في اليسار بعض ممثلي الاتحاد المغربي للشغل منتخبين بشكل مستقل عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وممثل أو اثنين عن الشيوعيين. صحيح أن نظام الاقتراع باللائحة يعزز هيمنة الأحزاب, لكنه يسمح بانتخاب شخصيات تعيد للمناقشات البرلمانية تألقها، وتنوع الآراء والتيارات سيمنح للملك إمكانية ممارسة تحكيم حقيقي والاحتفاظ بقيادة دواليب السلطة. والغرفة الأولى ستكون مكانا للتعبير عن الصراعات ويمكن أن تؤثر أكثر في السياسة الحكومية, خاصة وأن الحكومة لن تكون مسؤولة أمامها. ومناقشة الميزانية والتصويت على القوانين والأسئلة المطروحة على الحكومة كلها آليات ستشكل وسائل ضغط كافية. أما الغرفة الثانية فستكون ملجأ للمصالح المحلية وستعمل على تأطير التيارات الجهوية التي قد تعبر عن نفسها بأشكال أخرى. وسيحتفظ الملك بمسؤولية الجهاز التنفيذي ومراقبة سير الغرف. كما أن خطر تشكل تحالفات ظرفية ترمي الى فرض نظام مجالس حظر لا يستهان به، يمكن أن يبقى محدودا إذا احتفظ الملك بحق الحل وإمكانية اللجوء الى الاستفتاء, وبالمقابل يمكنه أن يتخلى عن السلطات الاستثنائية للفصل 35. كما أن الحكومة وحتى لا يتم تجاوزها، بإمكانها أن تحتفظ بالأولوية بالنسبة لمشاريعها فيما يخص وضع جدول الأعمال، ويتعين تدقيق المجال التشريعي عبر قانون تنظيمي لتفادي المفاجآت. هذه الإصلاحات كان من المفروض أن تؤدي الى ملاءمة النظام القانوني مع المعطيات التاريخية للنظام السياسي المغربي والذي يبدو أن آليات الحكم الملائمة له هي آليات نظام رئاسي يساعده برلمان، وبالنظر لنقائص التجربة البرلمانية الأولى، كان يتعين أن تضمن تلك الآليات السلطة الفعلية للملك، وتعطيه وسائل تحقيق إجماع الطبقة السياسية فيما يخص القرارات المهمة. وعلمتنا التجربة البرلمانية المغربية الأولى أن المؤسسات التي تتوفر على نوع من سلطة المنع بإمكانها أن تمارس ثقلا سياسيا هائلا في النهاية يكون سلبيا على المجتمع. ووجود سلطات غير ملائمة للدور الذي يمكن أن تلعبه المجالس أفرزت منتخبين مطعون في انتخابهم وفي بعض الأحيان غير أكفاء، إلى اكتساب وجاهة ممثلي الأمة. وعدم اشراكهم في مسؤوليات الحكم، فإنهم لم يريدوا الاضطلاع بمسؤولية الدفاع عن السياسة الحكومية في البلد. واستعملوا المبر البرلماني من أجل التأثير في لعبة سياسة تقع على مستوى الملك. واجبروا الملك على التدخل بوجه مكشوف للحفاظ على سلطة قراره. بدون شك, فإن المؤسسات والرجال والظروف تتحمل ثقل الفشل الذي لا يحكم على النظام البرلماني، لكنه يظهر بوضوح أنه لا يمكن أن يشتغل بدون أن يكون كل واحد من الأطراف متشبعا بروح ومعنى مسؤولياته. بول شامبيرجا / ترجمة: محمد خيرات