"إذا كانت السينما المغربية بهذا القدر من الجمال، فإن السينما العربية بخير"، ذلك ما قالته بفرح مخرجة لبنانية، مباشرة بعد نهاية عرض شريط المخرج المغربي كمال كمال "الصوت الخفي" (94 دقيقة)، بالقاعة 12 من قاعات سينما مول الإمارات بمدينة دبي، ضمن أفلام المسابقة الرسمية لجائزة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة. والحقيقة، أنه بهذا الفيلم قد ولد كمال كمال آخر، منتصر على نفسه إبداعيا، ومتسام في مدارج الإحترافية السينمائية، بالشكل الذي حوله إلى علامة خاصة ضمن ريبرتوار السينما المغربية. لقد أبهر الحضور العربي والمغاربي والأجنبي الكبير الذي حضر عرض ذلك الفيلم بالبناء الدرامي للشريط، وكذا بلغته السينمائية الرفيعة، حيث الخطاب المنجز يرتقي بلا تردد وبلا أدنى مبالغة إلى مصاف العالمية. ذلك أن كمال كمال، لم يسع قط إلى سجن نفسه ضمن أي من ريبرتوارات السينما العالمية الخالدة، بل سعى إلى أن يصنع قدرا جديدا للسينما المغربية كمرجع متميز ضمن تلك خريطة الفن السابع العالمية، وهذا أمر يحق لكل مغربي ولكل عاشق للسنما والإبداع بالصورة والصوت أن يفخر به عاليا. في الحقيقة، لم نكن خلال التسعين دقيقة من زمن الشريط أمام فيلم، بل أمام قصيدة. وظل الخاطر للحظات مع توالي الجمال الذي ينسج حباله على سلم المجد الفني، يتساءل هل سيتواصل المستهلك العربي مع سمو فني من هذا المستوى، خاصة وأن الواحد منا هنا يستحضر الترجمة الجمالية التي أخذت إليها الكثير من الأعمال السينمائية العربية المتفرج العربي، والتي تنتصر للغة والحوار وليس لثقافة الصورة التي هي رأسمال الإبداع الفني للسينما بالأساس. وفي فيلم "الصوت الخفي" تتراكب لغات سينمائية عدة بشكل متناسق يكاد يجعل الواحد يخشى وهو يشاهد تلك المتعة تنتال أمام عينيه، أن يسقط الفنان في طريق إبداعه، ويكاد بعد أن ينتهي العرض ويطلع جينيريك النهاية أن يصرخ من الإعجاب، كون اللعبة الفنية انتصرت على نفسها وانتصرت على قلة الإمكانيات وكون الفنان المغربي والجزائري (أبطال الشريط) انتصروا عاليا من أجمل صناعة الجمال. لأنه علينا أن لا ننسى هنا، الولادة العسيرة التي كانت لهذا الفيلم مغربيا، والذي ظل يراوح مكانه إنتاجيا لأكثر من سنتين حتى كاد العمل كله يذهب أدراج الرياح، لولا تدخل مهرجان دبي من خلال تقديمه دعما للفيلم، أنقذه وأنقذ متعة الجمال الفني الذي وهبه للسينما العربية والمغربية والمغاربية. وبهذا المعنى يفهم المرء ذلك الإعتزاز الذي ظل دوما يشع في عيني المدير الفني للمهرجان مسعود أمر الله آل العلي، حين يأتي الحديث على فيلم كمال كمال، فالرجل يدرك أي سهم أطلق وأي تفاحة ناضجة سقطت فرحى في يد الحياة. مثلما يدرك معنى ذلك الحرص الذي بقي من خلاله مدير البرامج العربية للمهرجان (الجهة التي تختار الأفلام العربية المشاركة) عرفان رشيد، الحرص للتعرف مباشرة على صانع ذلك الجمال، المخرج المغربي كمال كمال، وحين قدمته إليه بعد أن بحثت عنه ضمن جمهور الضيوف في حفل الإفتتاح، رفقة الصديق الناقد مصطفى المسناوي، كان الرجل بحسه الفني الشفيف، مثل من التقى ببشرى واعدة، حيث احتضن المبدع المغربي طويلا وفي عينيه بريق صدق وطال الحديث الشجي بينهما. "الصوت الخفي"، بكل إبهاره هذا، لم يلتفت إليه للأسف في مهرجان مراكش، واقترح على مخرجه أن يعرض فقط ضمن خانة "كو دكور"، فاعتذر الرجل بلباقته المعهدوة. أليس هو المبدع الموسيقي أولا، العميق في سمفونياته، الذي يعرف كيف يجعل النسيم يلين لنوطاته. "الصوت الخفي"، الذي قد تكون لنقاد السينما ملاحظات نقدية عليه (مثل مشهد إقحام صور مستبدين سياسيين ينزل من قوة رسالة الفيلم الحضارية قليلا)، هو فيلم بالسياقات المغربية، حيث ضعف الإنتاج وحيث الأعطاب تطوق أي مغامرة سينمائية على مستوى الإطار العام المصاحب ضرورة لأي صناعة سينمائية محترفة، هو فيلم ضمن تلك السياقات، فيلم مبهر، لأن المنتصر فيه هو الإنسان المغربي أولا وأخيرا، من خلال أبناء للحياة من بنيه، أعلو بالموجود في اليد من صورة بلد اسمه المغرب أمام أعين العالم عبر إبداع الصورة. ولم يتردد الخاطر أن يبوح لنفسه في لحظة من اللحظات كم هو جميل أن تكون مغربيا حين يكون منك ابن لبلدك اسمه كمال كمال، يبدع بهذه الدرجة العالية من الصنعة والقوة في لغة السينما. ولعل الأجمل أن الرجل، من منطلق تحكمه في كل صغيرة وكبيرة، وفي أدق التفاصيل، قد منحنا أن نكتشف أسماءنا المغربية والجزائرية، التي كنا نعتقد أننا نعرفها كعطاء فني بشكل جديد ورائع ومبهر. لقد اكتشفت محمد خيي آخر، كم كان سامقا وباهرا ورهيبا في تقمص دور المقاوم الجزائري، واكتشفت محمد بسطاوي آخر مختلف، يعزز صورته الرفيعة عنه كفنان مغربي أصيل " بلدي وخاتر". واكتشفت جيهان كمال (ابنة المخرج) أخرى رفيعة الأداء وقوية الشخصية وسريعة الحركة، لا علاقة لها بالفتاة الخجلى التي كانت في فيلم والدها السابق "السمفونية المغربية"، وأبهر الخاطر بالممثلين الجزائريين الرهيبين، قوة أداة، وقوة حضور أمام الكاميرا، أحمد بن عيسى وخالد بن عيسى. وعلمنا شريط كمال كمال، أنه حين يتواشج المغربي والجزائري في صناعة الجمال يصنعون المعجزة، نعم يجترحون المعجزة. هل لي أن أتحدث عن التصوير العالي الجودة، عن الموسيقى السمفونية الرهيبة، عن المشاهد العامة للشريط في جبال الأطلس المتوسط، المجللة بالثلج، عن الدارالبيضاء الأخرى التي نعيد اكتشاف روعتها، عن بناية البوطوار القديم للمدينة الصناعية، عن المغرب كله في نهاية المطاف حين نعيد اكتشافه كبلاطو مبهر لإنتاج صناعة سينمائية محترفة؟.. هل لي أن أتحدث عن ذلك كله فقط، أم أن علي أن أتحدث عن قصة الفيلم، المستمدة من أحداث واقعية، زمن المقاومة الجزائرية والمغربية ضد الإستعمار، حين كانت كولمب بشار صنوة لفكيك، وحين كانت تلمسان يدا تمتد عروقها إلى وجدة، وحين كانت بركان والناظور سندا لظهر الوطنية والفداء في جبال الأوراس؟... هل لي أن أتحدث عن ذلك لأفي الشريط حقه من الإنصاف والقراءة؟.. في مقالة مماثلة يستحيل ذلك. فقط أيها القارئ الكريم وأيتها القارئة الكريمة، حين ينزل "الصوت الخفي" إلى قاعات السينما، اذهبوا لتتمتعوا بمعنى أن يصنع مغربي الجمال الذي يجعلنا نعتز بتامغربيت عاليا. جديا يحق لنا الفرح بمنجز مماثل. شكرا كمال كمال.