كلما ودعنا عيد الأضحى إلا وتحولت أنظارنا إلى مناسبة عاشوراء، وما تحمله من أفراح عند البعض وأحزان عند البعض الآخر. مناسبة ارتبطت في المتخيل الشعبي المغربي بعدة طقوس تختلف من منطقة إلى منطقة مجسدة عاداتها وتقاليدها في كيفية الاحتفال وفي تجسيد حمولة دينية بكل أبعادها انطلاقا من صيام أيام عاشوراء. تحضرني ذكريات الصغر وما صاحبها من فرح ونحن ننتظر قدوم يوم الأربعاء كسوق أسبوعي وسط مدينتي الصغيرة ابن سليمان المترامية بين الغابات والحقول شرق الدارالبيضاء.كنا كبنات نتخيل مسبقا نوع الدمية التي يمكن شراؤها، وما يصاحبها من لوازم البيت، وكأن لعنة عمل المرأة المحصور داخل البيت تتجسد منذ الصغر في مكونات لعبها الطفولي ورؤيتها للحياة المختصرة في طريقة تدريبها المبكر على عالم الأسرة. أما الأولاد فقد ارتبطت أحلامهم في هذه المناسبة بشراء لعب السيارات والشاحنات الصغيرة يشحنونها بالحجر أو يقودونها بآلة التحكم عن بعد. لكن امتلاك لعب المسدسات والبنادق والرشاشات البلاستيكية كان هاجس معظمهم لإبراز قوتهم وحضورهم في الحي، غير عابئين بخطورة استعمالها، ولا بنوعية المادة المستعملة لصنعها وهذا يسري على باقي اللعب. أما التباهي بها أمام أبناء الجيران، فقد كان سيد اللحظة. إذ تجدهم غير عابئين بالأوضاع الاجتماعية لأي واحد منهم. وهنا تكمن المفارقة الكبيرة بين من يمتلك الدمى وبين من يمتلك السيارات. أما التعريجة فكانت سيدة الأدوات عند الفتيات، لأن من لم تصطحبها معها ليلة الاحتفال لن تستطيع المشاركة في طقوس بابا عيشور. كل أنواع اللعب كنت تراها أمامك ولكن لا تستطيع امتلاكها. قصر ذات اليد للوالدين كان يفرض شراء لعبة واحدة هي الأرخص أحيانا. كانت أحلام براءة الأطفال تؤجل بكذبة بيضاء، فأحسن اللعب يوعدون بشرائها في العام المقبل. التأجيل كرسالة اقتصادية لا يمكن فهمها في الاحتفالات ببابا عايشور آنذاك بالنسبة لأي طفل. لكنها رسالة ذات حمولة عابرة، وترسباتها تبقى غائرة في عوالم الذاكرة الطفولية. أحلام مؤجلة، وأخرى تتحقق في ازدحام السوق بالمتبضعين وروائح البخور وقرع التعاريج والدفوف وأصوات المزامير المختلطة مع نداءات الباعة وهتافاتهم لاستمالة الأطفال. إلا أن مزاج الآباء كان يتعكر أحيانا عندما تحاصرهم رغبة هؤلاء الأطفال في اختيارات تفوق مصروف جيوبهم المحدود، والمرتبط بلوازم الأكل والشرب والكراء لا غير. ترى بعض الأطفال يُجرّون من أيديهم في ضجر مستمر، وصراخ يلعلع في الشارع من طرف أوليائهم مع تعنيف لفظي أو جسدي . ولكن في الأخير كل الأطفال يحصلون على لعب غالبا ما يكون مصيرها التكسير في تلك الليلة أو قبل وصولها للبيت أو في عراك طفولي بين براءة الإخوة الصغار. كلما اقتربت ليلة عاشوراء إلا ويستعد الكل للاحتفال بها. ليلة تتسم بطقوس معينة، فكل العائلات تحضر وجبة الرفيسة التي تسمى (الحمايس) أو وجبة الكسكس (بذيالة ) الكبش مع قطع اللحم المجفف (القديد) و(الكرداس)، ومعدة الخروف المجففة المحشوة بقطع اللحم المتبل، وتسمى (المجبنة). أما الفواكه الجافة والتمر وحلوى (الماكنة) ذات القطع الدائرية الملونة الصغيرة، فتوضع في طبق ويتم تفريقها على أفراد العائلة بالتساوي فيما يبقى نصيب الغائب محفوظا إلى حين عودته.. أما الأطفال فيخرجون إلى الحي متباهين بلعبهم، متحلقين حول ( الشعالة ) وهي النار التي تشعل تلك الليلة حيث يتم القفز فوقها حتى يتعب الكل وتبدأ جفونهم يغالبها النوم. تتحرر المرأة في تلك الليلة من كل أشكال القيود المفروضة عليها . تفرض وجودها بالخروج إلى الدرب حاملة معها آلة إيقاعية وخاصة التعريجة تضرب على جلدها بقوة معلنة تحقيق انتصار الفرح والحرية غير عابئة بسقوط الظلام. تظل الاحتفالات مستمرة حتى وقت متأخر من الليل وحلاوة الحرية تعلنها النسوة عبر مجموعة من الأغاني المرتبطة بالمناسبة ( هذا عيشور ما علينا لَحكام آلالا، عيد الميلود كيحكمو الرجال آلالا.) إنها ليلة الحرية، كل القيود تكسر فيها، سلطة الرجال تغيب حيث يعجزون على محاصرة نسائهم وأطفالهم داخل البيوت. أما بعض النساء مع الأسف، فكن يتسللن لممارسة الشعوذة والسحر اعتقادا منهن أنها ليلة جالبة للحظ. تجتمع بنات الجيران ليبدأن في تحضير طقوس لباس عظم كبش عيد الأضحى المحتفظ به إلى ليلة عاشوراء, حيث يتم غسل العظم وتكفينه بثوب أبيض. بعد ذلك تبدأ عملية جمع تبرعات الناس من النقود وتقسيمها بالتساوي بين أفراد المجموعة التي تحمل بين يديها بابا عاشور المكفن، والذي ستقوم بدفنه في مكان بعيد عن أعين الناس دون وعي بمغزى هذا الطقس. عملية الدفن هذه كان يصاحبها البكاء والندب والصياح، وطلق الشعر حتى تحس وكأن بابا عاشور(العظم) فرد من أفراد العائلة، عاش معها مدة طويلة, لذلك فهي لا تستطيع الصبر على فراقه. إنها عادات دأب الأطفال على استحضارها كل سنة. فكل سنة يهدي عيد الأضحى معه عظما آخر لكبش آخر، لبابا عاشور آخر. نفس الطقوس تستحضر بنفس الطريقة مع نفس الأطفال أو غيرهم بكل عفوية في الامتداد الزمني أو المكاني لموروث شعبي حاضر في سلوكيات الناس، ومتجذر في ثقافتهم، وامتدادهم الجغرافي في منطقة الشاوية، وفي مناطق أخرى.فتقوم النساء والفتيات الصغيرات بقص خصلة من شعرهن أملا في طوله وتقوية كثافته باعتبار أن الشعر مقياس لجمال المرأة. كما يصبح للكحل قيمة جمالية مضافة من أجل تزيين عيون النساء والأطفال بهذه المناسبة درءا لما يصيب العيون من الرمد طيلة السنة. في الصباح يتوجه أغلب الناس إلى زيارة المقابر من أجل الترحم على موتاهم العزيزين عليهم والتصدق عليهم بالتين الجاف وقطع الخبز الصغيرة و قراءة القرآن، ووضع أوراق الريحان فوق القبور ورشها بماء الزهر. كما يتم التصدق على الموتى الصغار بملء اكليلات (وهي جرات صغيرة من الطين) بالماء وإهدائها للأطفال. كانت فرصة لتواصل الأحباب والأهل والجيران من أجل مباركة (لعواشر) فيما بينهم ونسيان كل الخلافات التي نشبت بينهم .. التراشق بالماء كان من أهم مظاهر الاحتفال بهذه المناسبة تيمنا بماء زمزم, حيث لا يسلم أي شخص من رشات الماء. أما عندما يمر بعضهم في أناقة تامة، فقد كان يحاصر من طرف أبناء وبنات الدرب , فيبدأ في التوسل إليهم من أجل الذهاب سالما مع وعدهم بالعودة بعد قضاء أغراضه، وتغيير ملابسه وإبعاد حقيبة أوراقه عن قطرات الماء. لكن كل ذلك لم يكن يقنعهم فيكون نصيبه رشات خفيفة. الطامة الكبرى تكون دائما عند ما يرون أحدهم يهرب، أو يغير اتجاه طريقة مترجلا، فإنك ترى الكل يجري نحوه غير عابئ بما حوله.هكذا تبقى المياه تجري في الشوارع طيلة النهار حاملة أجواء الفرح بين أبناء كل حي، غير آبهين بالحزازات والمشاكل التي كانت بينهم سابقا. إنه نهار الصفاء مثل صفاء الماء المقدس. أجواء الاحتفال بعاشوراء كانت تمر رغم ما يصاحبها من أجواء الحزن والفرح بكل عفوية الإنسان البسيط الذي يتنفس رائحة الأرض وهواء غابة ابن سليمان. هكذا كان الكل يعيش نفس الأحداث وينتظر تاريخ عودتها بشوق كبير مستحضرا متخيل الحكي اليومي عنها. وهذا ما مر بذاكرتي وأنا أرى التحول الكبير الذي طرأ على مظاهر الاحتفال بعاشوراء في زمن العولمة والتطور الذي شهدته التركيبة الجديدة للسكان، وعقلية الناس، وانغلاقهم على عوالمهم الفيسبوكية باستثناء بعض الأحياء الشعبية التي لا تزال محافظة على عادات عاشوراء. أين هي أيام زمان يا إنسان؟