من أين، أيها الشاعر، تجيئك هذه الشجاعة: تتحدّث عن المستقبل كما لو أنّك تحفظُه عن ظهرِ قلْب؟ أنظرْ إلى التاريخ، هنالك، في آخر الشارع، اذهبْ واسألْهُ: لماذا قرّرتَ أن تُعيدَ النّظر في هذا العالم، وفي نفسكَ، قبل أيِّ شيءٍ؟ وصَفْت، مرّةً، اللغة العربية بأنّها لغةٌ نائمة، وقلتَ: لن تنهضَ من نومها، إلاّ إذا نهضَتِ اللحظةُ الحاضرة، ونهض معها المكان. هل وصفُك ما يزال قائماً، وصالحاً؟ أنتَ مسافرٌ دائمٌ في اللغةِ حتّى عندما تكون نائمة. أعجبني ما دوّنتَه في يوميّاتك حول سفرك الأخير: »السّفرُ يصِلُ أطرافَ الجسدِ بأطرافِ الأفق«. اسمحْ لي أن أستشيركَ في هذه المسألة: في أثناء حديث عن الحبّ مع محلّل نفسيّ صديق، طلبَ إليّ بإلحاحٍ، أن يحلّل علاقتي بالغطاء في سرير النّوم، وبالوسادة، على نحوٍ خاصّ. غير أنني تردّدتُ. ولا أزال متَردِّداً. ما رأيُك؟ هل أغّير رأيي؟ أعيد كثيراً قراءة الجملةِ التي قلتَها جواباً عن سؤالٍ حولَ هويّتك: » تشبهني تلك الموجة التي لا تُشبه أيّةَ موجة«. أسألُكَ: » لماذا يبدو الوقتُ كأنّه قصيدةٌ غامضة، مع أنّه يقطرُ دماً، ولماذا تحبّ هذا الغموض؟« أعيد الآن قراءة أبي نواس. عندما قرأتُ قولَه: هذا زمانُ القرودِ فاخْشَعْ وكُن لها سامعاً مُطيعا، تذكّرتُ انشغالك بالزمن، وبخاصّةٍ المستقبل. وتساءلتُ ما يكون رأيُك في فنّ السَّيْرِ المُعاصِر؟ ألديكَ ما تقوله؟ تعرف أنّ معظم الذين يمثّلون الثّقافة الغربيّة ينتقدوننا نحن العرب، بأنّنا شعوبٌ غير ديمقراطيّة. ولا ينتقدوننا بنبرة احترامٍ تحرص على تفهّم الأوضاع التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة الخاصّة بنا. على العكس، يفعلون ذلك بنبرةٍ تخفي كثيراً من الازدراء. لكن سوف أكون حسَنَ النّيّة، وسوف أنظر إلى هذا الانتقاد بوصفه اهتماماً بنا، ودعوةً لنا إلى أن ندخلَ منتدى الشعوب الديمقراطيّة في العالم. وهذا يعني أنّنا ننتظر من هؤلاء المثقّفين أن يساعدونا في السّير نحو الديمقراطيّة، وأن يقفوا إلى جانب القوى التي تناهض الديكتاتوريّات والرجعيّات على حدٍّ سواء، في بلداننا. لكنّ الواقع كذّب انتظارَنا، ماضياً، ويكذّبه حاضراً. فلم يفعل الغربُ الثّقافيّ، الأميركيّ والأوروبيّ، شأنَ الغرب السياسيّ، إلاّ ما يزيد شعوبَنا بُعداً عن الديمقراطيّة، وما يزيد ارتباطَها بأسُسِ التخلّف والرّجعيّة في شكليهما الأكثر ازدراءً للإنسان وحقوقه: التيوقراطيّة، والمذهبيّة - القبَليّة. وسؤالي الذي أطرحه على نفسي دائماً، وأطرحه عليك هنا، هو: هل هذا الغرب الثّقافيّ - السياسيّ مريضٌ، إزاءنا، بفصام الشخصيّة؟ أم أنّه يحتقر العرب، فعلاً؟ وبدلاً من أن يعلّمَنا كيفيّة التخلّي عن العنف، وضرورات الاعتراف بالآخر المختلف، وكيف يتوجّب إنسانيّاً، أن نناضل بسلميّةٍ وباحترامٍ للإنسان وحقوقه، لا يعلّمنا، على العكس، إلاّ العنفَ، والتسلّح، وقتال بعضنا بعضاً. هكذا يسهر على هذا المسرح العربيّ الحديث المتواصل: باسم الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان وحرّيّاته، وباسم الدفاع عن الحقيقة والحقّ، يتمّ القضاء كلّيّاً على جميع الأسس التي تؤدّي إلى هذا كلّه.