منْ هم مؤلفو كتاب «ألف ليلة وليلة»؟ هل هو الناسخ الذي كلّفه الملك شهريار بتحريره، أمْ هي شهرزاد نفسها؟ كلاّ بكلّ تأكيد. وهلْ هم العرب؟ لا شكّ في ذلك. لكنْ همْ زمرة المترجمين كذلك الذين ترك كلّ واحد منهمْ بصْمته الشّخْصية عليه، فضلا عن الأقلام الكبيرة في الغرب: بلزاك، بروسْت، بورخيص، بيريكْ، الذين رأوا فيها كلّهم مرجعا ومصدرا مطلقا»نسيانها بهدف كتابتها وإعادة إبداعها، بل وكتابتها». من الأوْلى أنْ أعترفَ بأنّ عنوانَ هذا النّصّ مصدره جملة ليليّة، بقيتْ لي من رُكام الأحْلام الغامض. فبأيّ كتاب يتعلق الأمر إذنْ؟ يتعلق الأمر بكلّ وضوح بألف ليلة وليلة، أو على الأقلّ يمكننا افتراض ذلك. من المفيد تسجيل أنّ الرّغبة المعبَّر عنها ليست رغبة فرْد، بقدر ما هي رغبة جماعة، رغبة مجموعة. مَنْ هم بالضبْط أولئك الذين تمنّوْا تأليف هذا الكتاب؟ هلْ همْ النّسّاخ، هؤلاء الأشباح اللامرئيّون الذين كان السلطانُ شهريار قد كلّفهم بتدوين حكايات شهرزاد؟ إذا وثقنا فيما تقوله العديد من الروايات، فإنّ هؤلاء النسّاخ قد أنجزوا بالفعل المهمّة الموكولة إليهم. غيرَ أنّ هذا ليْس مرجّحا: كيْفَ يمكنهم إنجاز مثل هذا العمل، ونسْخ الكتاب، بينما هم لمْ يحضروا ولمْ يستمعوا لمحكيّات شهرزاد؟ وبعيدا عن التخييل، مع ذلك، فإنّ هناك نسّاخا من طبيعة أخرى تمكنوا من ذلك، جيش من الرّواة، أجيال من المصنّفين والنّسّاخ الذينَ كان لهمْ شرف عدم ترك أثر لأسمائهم. ثمّ إن القرّاء لا يكترثون إطلاقا لهويتهم؛ القرّاءُ لا يتساءلونَ عمّن كتب «الليالي». الكاتبُ الوحيد الذي ينتصب أمامهم، عند الاقتضاء، هيَ شهرزاد. غير أنّ هذا الافتراض بدوره لا يقوم: كيْف يمكن لصنيعة من صنائع «الليالي»، لظلّ تخييل سرديّ، أنْ تكون هي من دوّن الكتابَ في وثيقة أو مطبوع نمْسكه بين أيدينا؟ «أفضل كتاب للعرب» سيقالُ إنّ العربَ همْ من تمنّوا أنْ يكونوا مؤلّفي «ألف ليلة وليلة». لكنْ، أليْسوا كذلك بصفة عامّة؟ ألمْ يكتبوا «الليالي»؟ ما يمكنُ أنْ يأسَفوا له فقطْ، هو أنهم لمْ يقدّروها، خلال القُرُون المنْصرمة، بما يكْفي. كانوا فيما يبْدو، يعتبرونها كتابا نزقَا وتافهًا. غيْر أنه يمكننا افتراضُ بأنهم كانوا يتظاهرون بازْدرائها لكيْ لا يقعونَ ضحيّة إغرائها. وإذا كانَ قرّاءُ اليوم مفتونين بها، فلماذا لمْ يسلك قرّاء الأمْس المسْلك نفسه، هم الذين كانوا يحبّون تدوينه واستنساخه وتنويع رواياته. يدلّ على ذلك العديد الهائل من المخطوطات التي وصلتنا؟ كلّ شيء يجري، مع ذلك، كما لوْ لمْ يكونوا في مستوى ما أنتجوه. كانوا بعيدين عن الوعي (كيف حصل لهم هذا؟) بأنهم ألّفوا، مع «الليالي»، أفضلَ كتاب لهم. ومنذ ثلاثة قرون بات الأمر هكذا بالفعل. على الأقلّ في أعين الأوروبيين. هل هؤلاء، الذين يمثّلون خيالات وأشباح حلمي، هم الذين تلفّظوا بالجملة التي احتفظتُ بها في صحْوي؟ يمكن القول: بما أنهم لمْ يكونوا يتوفرون على نمط الثقافة التي جعلت «الليالي» ممكنة، فقد كانوا عاجزين، أو لا مُبالين بتصوّرها، أي بالذهاب إلى أبعد من أنفسهم. فهلْ هذا هو السبب الذي جعلهم لا يتكلمون، في حلمي، عن كتاب كانوا يتمنّون تأليفه؟ الأمر المؤكّد، هو أنّ هذا الكتابَ كان بمثابة اكتشاف بالنسبة لهمْ، بعد ترجمته من طرف أنْطون غالانْ في بداية القرن الثامن عشر. لمْ يكن ليكتشفوه من قبلُ، غير أنهم تداركوا الأمر فيما بعد. واقتفى أثرَهم في هذا عددٌ كبيرٌ من القرّاء عبْر العالم. فكمْ من سارد يحيل عليه! كثيرونَ همُ الكتّاب الذين يعتبرون الكتابة مُتماهية مع حكايات شهرزاد. كان يثارُ اسمُ ربّة الفنّ، عند بداية النّشيد أو الملحمة أو الكتاب: «انشدي أيّتها الرّبّة غضبَ أخيل»؛ « من هو، يا ربّة الفنّ، بطل الحيل الكثيرة»... مع أنطونْ غالان، بدأ عصرٌ تعوّدَ فيه الناس، بعد نسيان ابنة زوسْ، على جعل الكلام تحت رعاية شهرزاد. ومن الصعب تخيّلُ الأجيال القادمة بدون مصاحبة لكتاب «الليالي». كتابٌ لا يمكن الانتهاء من قراءته: لقد كانَ ستاندالْ يحلم بنسيانه من أجل معاودة قراءته بمتعة القراءة الأولى؛ والسارد البّروستي كانَ يقرؤه «باستمرار». أما بالنسبة للسلطان شهريار، فقد كان يبدو قلقا في رواية غالان: بعد استماعه لحكاية علاء الدين، كان خائفا من حلول النهار، أو بالأحْرى من حلول الليل، حيث لا يبقى في جعْبة شهرزاد ما ترويه. غير أنها تطمئنه مؤكّدة بأنَّ حكاياتها لا ينضبُ معينها. في الحالتيْن هناك تهديد: موْت الساردة، وفقدان الحكايات بالنسبة للمستمع. تراجمة-مؤلّفون سوف يستمرّ سحْر «الليالي»، ولا شيءَ يدلّ على أنّ هذا السحر سيتوقف يوما ما. يعود الفضل في ذلك، في جزْء منه، إلى الكلمات المجنّحة للمترْجمين (هل همْ أطياف حلمي؟). لقد انصبّ اهتمام وتركيز كلّ واحد منهم، بحكْم مزاجه، أو بسبب خضوعه لإكراهات عصره، على واحد من الوُجوه المتعددة للكتاب. كثيرونَ هم الذين صوّبوه لكيْ يضمنوا انتقاله إلى عالم لمْ يكنْ مستعدّا بما يكفي لتلقّيه كما هو. لكنْ، هل يوجد «كما هو»؟ ألاَ يشبهُ هذا الكتابُ بالأحْرى موقعا أركيولوجيا نستخرج آثارَه كلما تقدّمْنا في الحفْر؟ إنّ المَثَل العربيّ القديم «القاصّ لا يحب القاصّ» ينطبق بصورة جيّدة على مترجمي «الليالي»، فكلّ واحد منهم يشتغل ضدّ آخرَ سابق عليه. فمترجمٌ مثل ريشار بورطنْ لمْ يكنْ يرغب، حسب بورخيصْ، سوى في القضاء على إدوار لينْ. في هذه الشروط، تكون الرّغبة جامحة في تملّك الكتاب: حينَ يضفي عليه المترْجم طابعه الشخصيّ، وحين يَسِمُه بميسَمه خاصّ، فإنه يطمحُ إلى أن يصبح مؤلفه هو. وإذا كان الأصْل مجهولا بصفة نهائيّة، فإنّ المترْجمين معروفون معرفة جيّدة، ومعترف بهمْ. ومن المفارقة أنَّ مسألة المؤلف تُطرح بخصوصهم. ألا يقال: «ليالي» أنطون غالان، «ليالي» جوزيف شارل ماردروس، روني خاوام، إدوار ويليام لينْ، ريشار بورطن، رافاييلْ كانسينوسْ آسينْسْ؟ حين يقتني قارئ ما هذه الترجمات، وينكبّ على قراءتها، فإنه يقصد، عن وعي ومعرفة إلى حدّ ما، ترجمةً بعيْنها، بينما لا نأبَه عادة بهويّة المترجم، الذي يقبع في الظّلّ في غالب الأحيان. من هنا التساؤل الذي وجّهه بروستْ إلى ليونْ ضوضي قائلا:»ألمْ أسألكَ [...] عمّا إذا كان ينبغي لي قراءةُ حكاية «السندباد البحريّ» في ترجمة ماردروس أو في ترجمة غالانْ؟». وحين يختار المرءُ ترجمة دون أخرى، فإنه ينخرط بالضرورة في قضيّة أو في خلاف. في رواية «بحثًا عن الزّمن المفقود»، لم تكنْ والدة السارد راضيةً على اهتمام ابنها بترْجمة ماردروسْ، هي التي كانت معجبة بترجمة غالانْ. يصف بلزاك روايته «الكوميديا الإنسانية» بكوْنها «ألف ليلة وليلة» الغرب». ومن المعلوم أنّ الكلمات الأولى التي يفتتح بها مارسيلْ بروستْ روايته، تستحضر الليل:» منذ وقت طويل، خلدتُ إلى النوم مبكّرا». والكلمات الأخيرة هي بمثابة دعاء وتوسّل موجّهيْن إلى «ألف ليلة وليلة»، حيث أنّ السارد يتماهى مع شهرزاد ويتوقُ إلى مصير مماثل:» إذا اشتغلت، فلنْ يكونُ ذلك إلا في الليل. غير أنه يلزمني العديد من «الليالي»، قد تكون مائة، وقد تكون ألفا. وسوف أعيش في قلق دائم لعدم معرفة ما إذا كان سيّد ، الأقلّ تسامحا من السلطان شهريار، يرغب فعلا في تأجيل قتلي، والسماح لي بمواصلة العمل خلال الليلة الموالية». ومع «مذكرات» سانْ سيمون، سوف تكون «الليالي» هي نموذجَ الكتاب الذي ينوي كتابته. جورج بيريك، بدوره، في كتابه «الحياة، دليلُ استعمال»، يضَعُ نفسه تحت كنف الساردة الليْليّة:» كنتُ أنوي كتابة «ألف ليلة وليلة»، التي هي نموذج كذلك من النماذج التي أستظلّ بها، غير أنّ ذلك كان ادّعاءً وغرورًا بطبيعة الحال». يمكنُ القول بأنه كان غُرورًا مضاعَفًا: تُجاه شهرزاد، وتُجاه بروست في الآن نفسه... العالم ممتلئ في نهاية المطاف الكتاب الذي تمنّوا كتابته... ليْس نسخة طبْق الأصْل، انعكاسا لليالي، بلْ إنه كتاب مختلف، لأنه، كما يوضّح السارد البّروستي بخصوص الكتاب الذي تمنى كتابته، « لا يمكن للمرْء معاودة ما يحبّه إلاّ بصرْف النظر عنه، سيكون كتابا طويلا طول «ألف ليلة وليلة» على الأرجح، غير أنه سيكون كتابا آخر، كتابا مخالفا». إنّ «الليالي»، بمعنى من المعاني، هو الكتاب الذي لم يكنْ ليرغبَ في كتابته، ولنْ يرغب في كتابته. من الضروريّ نسيانه من أجل إعادة كتابته، إعادة إبداعه، بلْ من أجل الكتابة. تماما مثل الشاعر أبي نواس الذي كان يتعيّن عليه نسيان ألف بيْت شعريّ كان قد حفظها عن ظهر قلب، لكيْ يتمكّن من تأليف قصائده الخاصّة. إنّ الأصالة، بهذا المعنى، هي نتيجة الانفصال والنسيان. قبل أنْ يفكّر الغرب في احتلال الشرق، بزمن طويل، كان الشرق، متمثّلا في «الليالي»، قد احتل وهو نصف نائم، الغرب. وعلى حين غرّة، انتبه الأدب الأوروبيّ إلى كونه يفتقد إلى شيء ما، ومن ثمّ اتّحد بالشرق وعثر فيه (أو أعاد العثور) على نصفه الثاني. مغرب الشمس تتصل بمشرقها. نتذكّر هنا الأبيات الشعرية للشاعر الألماني غوته في «ديوان الشرق والغرب»: أحبّ الهدهدة بيْن هذيْن العالَميْن». المسألة تتعلق بالليل، ولكنْ بالشمس كذلك. نورُ المشرق وليْل الغرب. المفارقةُ هي أنّ «ألف ليلة وليلة» مضيئة. فالليل ينطوي على النّهار: ألاَ يبدأ اليومُ في وسط الليْل، في منتصفه؟ وحين يلتقي النّصفان، آنذاك يغدو العالَمُ ممتلئا، أو طافحا إذا شئتمْ. وإذا كانتْ شهرزاد قد أنقذت «بنات المسلمين»، فإن الغربَ ساهم بقوّة في إنقاذ شهرزاد. تحتاج الساردة إلى يد المساعدة من طرف الجميع، على الرغم من أنّ عددا من أولئك الذين هبّوا لنجْدتها، قد حكموا عليها بالموت. قتلُ شهرزاد من أجل إنقاذها، من أجل أنْ تبقى على قيْد الحياة! كلّ هذه الأمور توجد، إذا عرفنا كيف نقرأ، في حكاية قصيرة في «الليالي»، هي «حكاية رجل بغداد» الذي أفلس وسمع في منامه صوتا يأمره بالذهاب إلى القاهرة للعثور على كنز هناك. وبعد سفره، وما يرتبط به من محن ومتاعب، سوف يلتقي بحالم آخر سيخبره ساخرا بأنّه رآى بدوره في المنام، ثلاث مرّات، كنزا مدفونا في بغداد ورفض تصديق ذلك. غير أن الوصف الذي يقدّمه هذا الحالم الثاني يطابق تمام المطابقة بين الحالم الأوّل الذي عاد أدراجه إلى وطنه وأخرج الكنز من فناء داره. وهكذا فإنّ أحدهما يضفي المصداقية على الحلم، بينما الثاني يظن أنّ المسألة هي كذب محض. والحال أنّ الحالم غير المصدّق هو الذي كان صائبا، هو حدّد المكان الحقيقيّ للكنز. أما بالنسبة للحالم الساذج، المصدّق، فقد خدعه الصوت الليليّ، بما أنه لم يعثر على أيّ شيء في القاهرة، غير أنه كان يجب أن غادر وطنه ليذهب بعيدا من أجل سماه صوت الحقيقة، صوت الحالم الثاني، المتشكك مع ذلك. لقد حقّق حلمه بفضل حلم آخر. من أجْل هِبَة الكنز: كان الجمعُ بيْن الحلميْن ضروريّا. الجمْعُ كان يساوي الدوران. عبد الفتاح كيليطو عن مجلة » Qantara «, Janvier 2013