من أنبل الذين عرفتهم في هذا الزمن المليء حد التخمة بالنذالة ، والخسة . من المواطنين الذين يعيرون للقيم اعتبارا ما بعده اعتبار. من القلائل الذين لا يغتابون ، و دائما يترفع عن كل ما يمكن أن يسيء لشخصه الكريم . لو قمنا بإحصاء الغاية منه معرفة نسبة صفاء السريرة في المجتمع ، على الأقل في مدينة كالدار البيضاء لوجدنا أن النسبة الكبيرة يضمر أصحابها كثيرا من اللؤم ، وإن حاولوا إخفاءه بأكثر من قناع . الغريب هو أن حكيم يعيش في هذه المدينة ، وأحيانا بين هؤلاء ، يقتسم معهم المقهى ، كما الرصيف ، ويتنفس ذات الهواء ، لكن لا يقتسم معهم سلوكات رديئة ،ولا يدعي شيئا . ليس عراب قبيلة ، ولا مفتي عميان . هكذا .. كما لو أن السماء أحيانا تصطفي بعض المحظوظين ، فتنفخ في سرائرهم صدقا لا حد لصفائه . هذا الصدق أعماقا مضاد حيوي يعفي صاحبه من زكام حاد طال قبل الخياشيم القلب ، والفؤاد. هذا النوع من المغاربة هو ما يحتاجه الوطن للنهوض ، والسير قُدما إلى الأمام ، وما أفسد على المغرب إقلاعه من التعثر في كافة المجالات غير الذين فسدت أخلاقهم ، بدءا من الذي يكنس الشوارع ، والأزقة ، وانتهاءً بالموظف السامي ، والجامع بينهما هو الغش ، وعدم أداء المَهمة كما هو مطلوب . الغش ، وعدم الوضوح طال كل شيء ، بما في ذلك الصداقة ، وذلك حين تجد من يعزف على جرحك يستلذ به ، ويجعله حديثه اليومي الأثير . لا يستطيع أن ينتبه إلى وضعه ، لأنه نسي المرآة ، ولا يقتات إلا بتشريح ذوات الآخرين على مائدة الندمان . حكيم في مثل الوضع لا سمع له ، وله قدرة فائقة على طرد كل ما يهدد طويته من طبلتي الأذنين بمجرد مغادرة موائد لا ينعش صحوها غير النبش في جراحاته الغائب . هذا الغائب الذي قرر أن ينأى عن ضجيج العالم ، ويعزف ما تبقى من حياته لحنه الشجيِّ بعيدا من كل ما من شأنه أن يلوث سماء السريرة من إساءة ، أو نميمة تصل دائما ، حتى ولو قيلت في سرداب . الألم سيد المداد ، ومفتيه ، وأحيانا تكاد تذهب إلى صاحب لدغة كي تشكره على لدغته الموغلة حد إدماء الروح ، لأن فعله هذا استفز قريحة كانت تود ألا تغني إلا للحب ، أو لطمأنينة ما . ينحدر حكيم من عائلة آل الردَّاد ، التي تردد على بيتها العديد من القادة التاريخيين ، الذين شرفوا المغرب كعمر بن جلون، والفقيه البصري ، وبن سعيد آيت يدر، وعبد الطيف بن جلون ، وغيرهم من القادة الوازنين في معركة التغيير. لاشك أن حكيم وهو طفل كان في أكثر من حضن ، ولا شك أن شيئا من الأخلاق العالية لهؤلاء تسرب إليه . ينحدر من عائلة دكالية من جهة الأب ، وفاسية من جهة الأم. الأب هو البوعزاوي ، وقد سماه الذي أنجبه بهذا الاسم تيمنا بالولي الصالح دفين مراكش ، رجل كريم ، ولا تحلو له لقمة إلا إذا اقتسمها مع الآخرين . أب صارم في تربية الأبناء ، ويوفر لهم الغالي ، والنفيس ، لكن بشرط الاستقامة ، والجد في الدراسة . الأم بكل الإرث الحضاري لمدينة عريقة كفاس ، استطاعت أن تقود أبناءها إلى شط الأمان ، وفي وقت كانت فيه الغالبية العظمى من نساء المغرب أميات ، كانت هي في عز شبابها تعزف لأبنائها قطعا موسيقية راقية على آلة البيان . لا شك أن صرامة الأب تسرب منها الشيء الكثير للابن ، بحيث منحته الوضوح في العلاقات بعيدا عن الزيف ، والنفاق الاجتماعي ،الذي ابتلي به السواد الأعظم من الناس . هذا الصرامة أيضا جعلته يعشق رياضة فنون الحرب ، التي نبغ فيها ، وزادته ثقة في النفس ، وانضباطا في التعامل مع الآخرين . رقة الأم لها مكان أيضا في وجدان هذا الرجل . نلمسها بسهولة في تذوق ما يقرؤه ، وما ينصت إليه من أعذب الألحان . نلمسها حين يعطف على محتاج في صمت ، ومن غير ادعاء . نلمسها ، وهو يتأسف لما آل إليه وضع الكثيرين ، الذين تدحرجوا إلى الدرك الأسفل ، وكان من الممكن أن يكونوا في وضع أرقى ، وأحسن . يتأسف لأن المغرب ، الذي كان يحلم به في السبعينيات لم يتحقق منه إلا النزر اليسير بسبب الانتهازيين ، واللصوص الذين عاثوا في البلاد فسادا. حكيم .. هذا الرجل من الاستثنائيين الذين جادت بهم سبل الحياة علي . جال ما تيسر له في العالم ، وخبر طباع الناس من مختلف الأجناس . ذهب إلى العراق أيام عزته ، وهناك حصل على شهادة الباكالوريا . كان يود أن يواصل دراسته الجامعية ، إلا أن الحرب الخليجية الأولى أجهضت ذاك الحلم . حزم حقائبه ، وعاد إلى الوطن ، الذي لم يطل المكوث فيه ؛ إذ شد الرحال من جديد إلى كندا من أجل استكمال دراسته الجامعية في العلوم القانونية ، والسياسية . هناك تشبع بقيم الغرب الحضارية ، بعد أن تشبع بالحس الوطني في البيت ، وهو مراهق يسمع ما يدور من نقاش بين رجالات من خيرة الرجال . تشبع أيضا بالحس القومي العربي ، وهو تلميذ يافع في العراق . هذا المزيج جعل منه شخصا صادقا ، ومقتدرا . يقدر كل ما هو إنساني في الإنسان ، ويمجُّ فصيلة الذئاب ، وما شاكلها من الثعالب ، والسحالي . عاد من كندا بما يلزم من شواهد ، لكنه لم يسع إلى وظيفة تجبره على طأطأة الرأس أمام رؤسائه . خبر الفساد فلم يقبل وظيفة عرضت عليه ، وهي لو استجاب مدخل الغنى . كما لو أنه كان يخشى أن يصاب بعدوى الارتشاء ، والرغبة في التسلق ، والانتهاز . أنَّى له ، وهو الذي نشأ في عائلة وطنية متوسطة الحال ، كما كان له الشرف العظيم أن يترعرع في بيت معظم زواره من الذين ساهموا بقسط ، وقدر الإمكان في الدفع بعجلة المغرب إلى الإمام . عمل على إنشاء مقاولته الصغيرة . بدأ متعثرا كما جرت العادة ،وعرف مِحنا بسبب شراسة السوق ، وسطوة الأقوياء، وجبروت الرأسمال . كان كمن يصارع الحيتان الكبيرة . اضطر أحيانا كلما اشتدت الأزمة إلى رهن بيت الأسرة إلى أن يستعيد عافيته . برغم ذلك كان يشعر بالغبطة ،لأنه سيد نفسه ، ولا يتحكم فيه أحد . بالحنكة ، والإصرار ، والوضوح في التعامل استطاع أن يدفع بالمشروع من الحسن إلى الأحسن . لم يكن مستعجلا ، وهو الذي لا يحب من الطبخ إلا ما كان نار هادئة . والبيان إذ يعبر عن وجهة نظر اتحاد كتاب المغرب، فهو دعوة لفتح نقاش متعدد ومختلف. تعرف الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية في بلادنا، حالات فوران قوية، تنبئ بإمكانية حصول احتقانات اجتماعية. ويبدو أن استعادة لحظات الأمل في هذه المرحلة الصعبة، يمكن أن تقود المجتمع باتجاه تحصيل ما كان منتظرا من تباشير المرحلة الانتقالية، التي انخرط فيها مجتمعنا بعد الحراك الاجتماعي، الذي يشكل جزءا من التغيير الإصلاحي الذي شمل بعض البلدان العربية، منذ بدايات العام 2011. ولم يكن خافيا أن خيارات النظام المغربي، تجسدت في القيام بإصلاحات دستورية، تعززت بانتخابات جديدة وضعت بلادنا في أفق إتمام مسار العدالة الانتقالية، الذي دشنته هيئة الإنصاف والمصالحة، زمن حكومة التناوب التوافقي، بمختلف مكاسبها وعوائقها وآفاقها. وقد اتضح لاحقاً، أن ما جرى من تغيير في المشهد السياسي العام، لم يساهم في القطع كلية مع الخيارات السياسية السائدة، رغم إعلانات محاربة الفساد المتواصلة لفظياً. فالحكومة الحالية تبدو متعثرة عن إتمام الأوراش التنموية المفتوحة، وكذا في إطلاق مشاريع أخرى في ضوء إيجابيات التأطير الدستوري الجديد، بهدف النهوض بمجتمعنا وتجاوز عثراته، في السياسة والثقافة وفي الذهنيات، وبالرغم مما يتضمنه الدستور الحالي من مداخل، يمكن أن تساهم في النهوض بمجتمعنا وتجاوز عثراته، في السياسة والثقافة وفي الذهنيات، فإن ما حصل بعد الانتخابات الأخيرة أدى إلى بروز تجاذبات سياسية غير منتجة إطلاقا. ولعل أوضح تجل لتلك التجاذبات، سيادة النزعات الشعبوية لدى الفاعلين السياسيين، والتي قَلَّصت من أهمية العمل السياسي، وبالتالي أعادتنا بشكل من الأشكال إلى ما قبل دستور 2011، أي إلى ما قبل الحراك الاجتماعي الذي طال بلادنا، أسوة بباقي المجتمعات العربية. ويسجل اتحاد كتاب المغرب أن سنتين من الزمن السياسي لهذه الحكومة، القائمة في إطار الدستور الجديد، لم تطور مردودية الأوراش التي كانت مفتوحة من جهة، ولم تَعِد بأية برامج إصلاحية، قادرة على مغالبة سياسة الفساد المستشرية من جهة أخرى. هذا، فضلا عن أن قاطرة الثقافة والتربية والتعليم والسياسة، لم تتحرك باتجاه إنضاج المسارات القادرة على إنجاح المرحلة الانتقالية، وتفعيل الدستور الجديد بصورة إيجابية مُنتِجة. وإذا كان من المقبول أن تكون السنة الأولى من الطور الانتقالي، سنة ترتيب وتدبير أوليين للآفاق الجديدة، المنتظرة من عمليات الإصلاح والتنمية، فإن الأزمات التي تلاحقت في جسم الأغلبية الحكومية، أدت إلى إتلاف العلامات الدالة على الخيارات، الأقوى نجاعة والأكثر تاريخية. ذلك أن سيادة التردد في اتخاذ القرار الحكومي، إضافة إلى عدم القدرة على تصويب النظر وتحفيز الإرادة، كان من انعكاساته شيوع الجمود والانتظارية، خلال السنة الثانية من عمر الحكومة. هكذا، نجد أن الطريق تضيع إلى برامج واعدة، بالنظر إلى قدرتها على إنقاذ مجتمعنا، من مختلف أشكال التراجع التي عرفها الاقتصاد والسياسة، والتي انعكست سلبيا على شرائح واسعة في المجتمع. أما المعارضة السياسية، فمن جهتها لم تستطع الاضطلاع بأدوارها، إلى حدود اليوم، سواء من خلال بناء برامج بديلة، قادرة على توقيف مسلسل الانتكاس، أو من خلال ابتكار آليات جديدة في التعبئة والعمل الجماعي. ولعل ما زاد الأمر تراجعاً، التوجهات الفكرية المحافظة، التي أصبحت السمة المهيمنة على الممارسة السياسية، وكذا تدبير الشأن العام في بلادنا. وإذا كان الدستور الجديد قد خول المعارضة أدوارا، من بين عناوينها المشاركة والاقتراح، فإن النتائج المفترضة لهذه الأدوار، لم تتبلور في مشاريع عمل بديلة، من شأنها تفعيل المعطيات التي أوكلها الدستور للفاعل السياسي في مجتمعنا. وقد بات من نتائج ضمور المعارضة السياسية، تفاقم الأزمة في بلادنا على أكثر من صعيد، سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. ويلاحظ المتابع لتدبير الشأن الثقافي وقضايا التربية والتعليم على سبيل المثال، جملة تناقضات، بل تراجعات مست المرفقين المذكورين. كما يلاحظ نفس المتابع أن هذا يحصل بمختلف تبعاته، في وقت يفترض أن يتجه فيه مجتمعنا، نحو توطين قيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن المعلوم أن الشأن الثقافي وقضايا تحرير الأذهان، ظلت دائما تعاني من نظرة قاصرة، لا تعير الأبعاد الثقافية للإنسان الاهتمام اللازم، باعتبار أنها اليوم تعد أرضية ملائمة للتنمية والنهوض المجتمعي. وقد كنا نتطلع في هذه المرحلة من تاريخنا، إلى مراجعات فكرية وسياسية، مكافئة لقوة الحراك الاجتماعي المتصاعد في بلادنا، لولا أن فاجأتنا إفرازات واقع سياسي يعاني من شلل مركَّب، ما يستدعي التفكير العاجل في إيجاد مخارج تجنبنا الوقوع في منزلقات عديدة. وبناء على ما سبق، يدعو اتحاد كتاب المغرب، كافة الفاعلين في المشهد السياسي والثقافي، إلى ضرورة التفكير بعمق ومسؤولية في مخرج يجنب مجتمعنا أزمات تعيدنا إلى ما قبل الحراك الاجتماعي، الذي أثمر طوراً انتقاليا نعتقد أنه يؤهل مجتمعنا لتجاوز مظاهر الفساد للانخراط في العهد الديمقراطي. وفي سياق هذه الرؤية، يقترح الاتحاد إطلاق حوار وطني موسع، بخصوص الراهن المغربي ومآل الإصلاح في بلادنا. ومن المؤكد أن ذلك يتم تحقيقه، بهدف القيام بتشخيصات دقيقة، لمختلف مسارات التحول التي عرفتها بلادنا، في نهاية العقد الأول وبدايات العقد الثاني من الألفية الثالثة.. لعلنا نضع اليد على العِلَلِ العميقة الكابحة لخيارات التحديث في مجتمعنا. ولدينا قناعة راسخة في اتحاد الكتاب أن الحوار المذكور، يمكن أن يشكل أفقاً لصوغ أرضيةِ عملٍ، كفيلة بتخطي الارتدادات الحاصلة، والارتقاء نحو ما يمكِّن بلادنا من مواصلة المساعي الرامية إلى تحقيق التنمية والتقدم في مجتمع، تسوده قيم الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق الأفراد والجماعات. المكتب التنفيذي وقال الأديب المقدسي محمود شقير، عضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر «إن الهدف الرئيس للمؤتمر هو الاحتفاء بعلاقة مدينة القدس بالناس، ناسها الحقيقيين الصامدين فيها المضحّين من أجلها، المرتبطين بمصيرها، والاحتفاء بعلاقة الناس بالمدينة التي أسبغت عليهم من روحها، فلا تنفصل سماتهم عن سمات مدينتهم التي عاشت معهم وعاشوا معها مختلف أنواع المعاناة، وتجرّعت مثلما تجرعوا صنوف العسف التي جربها عليها وعليهم الغزاة، فلم تهن ولم يهنوا، وظلوا ثابتين على ولائهم لمدينتهم مثلما ظلت وفية لهم مثل أمّ رؤوم. وشدّد شقير على أنّ القدس ليست مجرّد حجارة وأسوار وأزقّة وشوارع وأسواق، وهي ليست مجرّد مساجد وكنائس مكرّسة للعبادة وللوصل بين الأرض والسماء، بل هي قبل ذلك وبعده مكان لتفاعل ناسها معها ولتفاعلها معهم، بكل ما تمثله من حضارة ومقدسات وتاريخ وجغرافيا ومكانة وحضور، وبما تمثله من مركز للحداثة وللتنوير كما كانت حالها في النصف الأول من القرن العشرين، ومن حيز لانتشار التزمت وقيم الريف المحافظة فيها كما هي حالها الآن. إنها المدينة التي تعرّف بمواطنيها، وهي التي يعرّف مواطنوها بها في كل مرحلة من مراحل الهبوط أو الصعود. إنها مدينة مواطنيها الباقين هناك وحدهم أمام العزل والحصار والقمع والتهجير، وهي الباقية وحدها هناك أمام هجمة الأسْرَلَة والتّهْويد إلى حين. الاحتفاء بالثقافة والإبداع، وتكريم المنتجين في هذا المضمار، إنما هو في الحقيقة اعتراف بزمنيّة الثقافة التي تختلف عن زمنية السياسة وتعلو عليها، لأنها تحتويها وتدرجها في سياق أوسع يتيح التأويل التاريخي، واستدماج مكونات الهُوية ضمن صيرورة لا تتوقف إلاّ لتبدأ. وكما قيل، نحن نسكن ثقافتنا ولغتنا، أكثر من ما نسكن جغرافية الوطن. من هنا، أجد أن جائزة القدس للثقافة هي قبل كل شيء، تأكيد لدور الثقافة الفلسطينية والعربية في مقاومة الاحتلال والتشريد والعسف اليومي منذ نكبة 1948: النكبة التي »توّجتْ« إسرائيل بوصفها الدولة الاستعمارية الوحيدة الباقية في عالمنا، على امتداد أكثر من ستين سنة. وكان في مقدّم مخططات حكومات تل أبيب، كما تعلمون، تهويد شعب فلسطين من خلال مشاريع مثل »روابط القرى« الهادفة إلى استبدال العبرية باللغة العربية، وطمس مسالك الثقافة العربية في ذاكرة الأجيال الفلسطينية الصاعدة ...لكن الثقافة بمعناها العميق هي التي أحبطتْ مساعي الصهيونية وقادتْ خطوات المقاومة على دروب ملاحمها المتجددة من عز الدين القسّام إلى أجيال الانتفاضة. استطاعت الثقافة الفلسطينية، منذ القرن التاسع عشر أن تكوّن حلقة بارزة في نسيج الثقافة العربية الباحثة عن طريق النهضة والتجدد، فأضحت صوتاً متميزاً ورافداً له خصوصيته على رغم محنة الاستعمار البريطاني، ومأساة الاحتلال الإسرائيلي. استطاعت الثقافة الفلسطينية أن تحفر أخاديد عميقة في سجل الثقافة العربية الحديثة، تمتدّ من روحي الخالدي الناقد المبشر بالتجديد الرومانسي منذ مطلع القرن العشرين، إلى الراحل إدوارد سعيد أحد أهم منظري أدب ما بعد الكولونيالية في النقد الأدبي العالمي. وفي كل مجالات التعبير عن النفس والوجدان، أدباً وفناً تشكيلياً وسينما، أنجبت الثقافة الفلسطينية مبدعين بارزين، بعضهم يتوافر على أبعاد كونية ويندرج ضمن المقاييس العالمية التي تعطي الأسبقية للأثر الإبداعي في وصفه تعبيراً عن تجربة إنسانية متدثرة شكلاً جمالياً يتخطى الحدود، ويكتسب قيمته من مقوماته الفنية والدلالية، لا من نسق إيديولوجي أو دعاوَى سياسية. ولا أغالي إذا قلت إن الآصرة الوثيقة التي تربط المغرب بفلسطين، تعود في جزء كبير منها إلى دور الثقافة الفلسطينية الحديثة وسفرائها من الشعراء والكتاب والرسامين والمخرجين السينمائيين. صحيح أن علائق التاريخ بيننا قديمة وملموسة عبر حجّ المغاربة إلى القدس والتوطن بها، والالتحاق بمعاهدها، وأيضاً وأساساً بعد النكبة والتشريد، لكن مسار حياتي وما عشته من قرب، يجعلني أميل إلى أن الثقافة الفلسطينية الحديثة، بتجلياتها في الداخل والمنفى، بجرأتها وطلائعيتها، هي التي وطدت الوشائج والتآخي بين المغرب وفلسطين، من خلال تأثير إبداعات أسماء مثل فدوى طوقان وإميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم وسحر خليفة وأحمد دحبور وليانة بدر ويحيى يخلف، وغيرهم كثْر، زاروا المغرب والتقوا القراء وطُلاب الجامعات، وتمازجوا بتيار تجديد الثقافة المغربية، المتطلع إلى إعادة صوغ أسئلة الثقافة العربية لتكون مدماكاً لتشييد مجتمع الحداثة والديمقراطية. ولا أريد أن أغْمَط المبدعين الفلسطينيين الشباب حقهم، لأنهم استطاعوا، على رغم قساوة الظروف، أن يواكبوا الإبداع العربي وأن يثروه بإنتاجاتهم التي تأخذ على العاتق، جعلَ الأدب وسيلة مختلفة ونوعية لقول الحقيقة، منظوراً إليها من زاوية فنية تلامس وجدان الناس حيث ما وجدوا. في ضوء ذلك، أجد أن تخصيص جائزة للثقافة الفلسطينية والعربية، تحمل اسم القدس، مدينة الرموز العريقة في مضمار التعددية الخصبة، وروحانية السلام، إنما هو تأكيد انفتاح الثقافة والإبداع العربييْن على عمق التاريخ وعلى سؤال النهوض والحداثة. من ثم، أرى أن القدس في سياق رمزية هذه الجائزة، تأخذ دلالة مزدوجة: القطيعة مع نظام احتلالي يروم فصلها عن أبعادها التاريخية المتعددة، والاستمرار داخل سيرورة بناء وتصحيح الثقافة العربية الهادفة إلى تصفية الاستبداد، وتحرير الأرض والإنسان، وصون حقوق الفرد وحريته في الرأي والاعتقاد. من ثمّ، تجد الثقافة العربية الحديثة نفسها، على اختلاف المسالك القُطْرية، أمام أفق واحد للخلاص والنهوض، وهو الأفق الذي يرفض ما هو قائم وَمفروض، ويسعى إلى ما يكون تحقيقه ممكناً وضرورياً، على نحو ما تنادي به جموع الشباب الثائرة عبر أرجاء المجتمعات العربية، وعلى نحو ما حلمت به قوى الإبداع ورسمت ملامحه منذ هزيمة جيوش الأنظمة عام 1967. ذلك أن ديمومة الثقافة والإبداع نافذة وفاعلة، لا تشلّها حسابات المدجنين ولا تخطيطاتُ الاستعمار المتوحشة.