لم ينتظر كغيره من الزعماء والقادة كثيراً، فلم يمضِ سوى عام فقط، حتى قرر الفريق سامى عنان أن يكتب مذكراته وأن يفرج عنها مبكراً، ربما رأى أن اللحظة التاريخية التى تعيشها البلاد لا تحتمل السكوت، مهما يكن رد فعل ما كتب. سيناريوهات المستقبل فى رحلة العودة إلى القاهرة، التى تستغرق ثلاث عشرة ساعة، ومع بداية الانخفاض فى الإضاءة، بدأت فى ترتيب أفكارى وتخيل ما سوف يكون، قبل أن تقلع الطائرة، شاهدت على الشاشات التليفزيونية دبابات مكتوبا عليها »الحرس الجمهورى« أمام مبنى ماسبيرو، وتذكرت خطة تأمين المنشآت التى أقرتها القيادة العامة قبل فترة وجيزة من أحداث يناير، وكانت رؤيتى أن تقتصر مهام الحرس الجمهورى على تأمين المنشآت القريبة من مؤسسة الرئاسة، قائد الحرس الجمهورى يتلقى تعليماته من رئيس الجمهورية، وفى ساعات العودة إلى القاهرة توصلت إلى مجموعة من الترتيبات التى أراها ضرورة وطنية. أولاً: الخروج من الأزمة يتطلب القيام بانقلاب ناعم يحقق الاستقرار دون سقوط ضحايا أو سفك دماء، ويراعى هذا الانقلاب تنفيذ مطالب الشعب من ناحية والحفاظ على مكانة المنصب الرئاسى، من خلال انتخابات حرة نزيهة من ناحية أخرى. ثانياً: لا بد أن يتم الانقلاب بكياسة ولباقة، فتتوجه مجموعات من رجال الصاعقة والمظلات والشرطة العسكرية للمرور على القوات فى ميدان التحرير وماسبيرو، ومن هناك أعلن القرارات التى اتخذها المجلس الأعلى للقوات المسلحة للحفاظ على وحدة الوطن وتجنب الصراعات وتفجير المشكلات. ثالثاً: المراهنة على تجاوب الشعب وترحيبه، فقد كانت الناس تنادى بشعار »الجيش والشعب إيد واحدة«، فمن المنطقى أن يرحبوا بفترة انتقالية، تتلوها انتخابات حرة تحقق الإرادة الشعبية. وصلت مطار القاهرة الساعة 12 ظهراً، يوم السبت الموافق 29 يناير، وتوجهت من المطار إلى مبنى وزارة الدفاع بكوبرى القبة، ارتديت ملابسى العسكرية، وغادرت إلى مبنى القيادة، حيث المشير طنطاوى، طلبت من رئيس العمليات تقريراً بالموقف، وشرحه لى باستفاضة، وأصدرت توجيهات فى وجود المشير، لضمان وجود القوات بأماكنها دون مشاكل أو معوقات. خرجت مع المشير إلى حديقة مركز القيادة، وطرحت أفكارى عليه، وقلت إن الانقلاب الناعم هو الحل الوحيد، شرحت له الإجراء العملى فى إيجاز: مجلس رئاسى برئاسة المشير، الذى يتولى أيضاً حقيبة وزارة الدفاع، وإعلان مواقيت محددة لإنهاء الأزمة والخروج بالبلاد إلى بر الأمان. أصغى المشير باهتمام، ثم سألنى: - حد يعرف الكلام ده غيرك؟ - لا. - طيب.. بلاش الكلام ده. التزمت بتوجيهات المشير، وبدأت فى متابعة الأحداث التى تتصاعد بإيقاع سريع، ولا شك أن الأيام الممتدة، حتى 11 فبراير 2011، هى مرحلة تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة. أجواء التوتر والاحتقان تسود مصر كلها، واللجان الشعبية تتشكل بمبادرات شبابية، لمواجهة أعمال السلب والنهب والبلطجة، محطات المترو تتعرض للتحطيم والسرقة، بعد أن انسحبت شرطة النقل والمواصلات من تأمين المحطات، وعصابات منظمة تسطو على بعض قضبان السكك الحديدية، وصفوت الشريف، الأمين العام للحزب الوطنى، يعلن أن أحمد عز أمين التنظيم قد تقدم باستقالته، وعُرضت على هيئة المكتب وتم قبولها، مثل هذه الإجراءات لم تكن ملبية لطموحات الشباب الذى يملأ ميادين مصر، بخاصة أن تحالفاً قوياً من قوى داخلية وخارجية، كان حريصاً على التصعيد، ورافضاً لكل المبادرات والحلول التى تحقق الاستقرار وتحول دون الانهيار. الشباب الذى خرج يوم 25 يناير لم يكن هو الشباب الذى تصدر المشهد بعد ذلك، وقد أدركت بحكم موقعى أن هناك من يسعى لاستثمار الموقف لتحقيق أهداف ومصالح خاصة، وأنهم استخدموا الشباب المخلص والشعارات الثورية كمبرر لإسقاط الدولة، ولا شك أن الشعب يعرف الآن من هم هؤلاء. «اللى ميشوفش من الغربال يبقى أعمى» ولن نفهم الماضى القريب إلا على ضوء واقع ما بعد سقوط محمد مرسى، صانعو الفوضى هم هم، والوسائل والأدوات لم تتغير، ولمن ينسى أو يتناسى، أقول إن الهاربين من سجن وادى النطرون، بمساعدة من »حزب الله« و»حماس« سيحاسبهم التاريخ، ولا بد أيضاً أن يحاسبهم الشعب. أيام الغضب كان اختيار اللواء عمر سليمان نائباً لرئيس الجمهورية، والفريق أحمد شفيق رئيساً للوزراء، قراراً موفقاً من مبارك، فكلاهما وطنى مخلص نزيه، ورجل دولة ذو خبرة ودراية ووعى، لكننى أعود لأقول: المشكلة فى توقيت صدور القرار، وهو تأخير لم يترك الأثر المطلوب فى الشارع وميدان التحرير. كان التكليف الصادر للسيد عمر سليمان بضرورة الحوار مع القوى السياسية المختلفة، وبداية حوار جاد للإصلاح الدستورى والتشريعى، ثم جاء خطاب مبارك فى أول فبراير عاطفياً قوياً مدروساً، كان الخطاب مثالياً فى أسلوبه ومضمونه، واستجابت قطاعات عريضة بشكل إيجابى لما جاء فيه، لكن القوى المتربصة بمصر تحركت سريعاً لإجهاضه، وأثناء وجودى فى غرفة العمليات تلقيت استغاثات كثيرة من الأهالى، تؤكد أن هناك من يمنعون أبناءهم من مغادرة الميدان، لا يستطيع الإخوان المسلمون إنكار ذلك، ومصالحهم كانت توجب عليهم أن يستمر الاشتعال ولا يتراجع. الجنرال ماتيس قائد القيادة المركزية الأمريكية حضر خصيصاً لمقابلتى وطلب أن نتكلم على انفراد وسألنى: »هل ستطلقون الرصاص على المتظاهرين؟ فأجبته: لا.. حتى لو صدرت الأوامر صباح الأول من فبراير، اتصلت بعدد من القادة ومساعدى الوزير ومساعدى رئيس الأركان وبعض أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وطلبت من السيد المشير محمد حسين طنطاوى ألا يشارك فى الاجتماع، حتى أجنبه الحرج، ألقيت فى المجتمعين خطاباً مرتجلاً أستنفر فيه هممهم وأستدعى روح المقاتل، داخل كل قائد منهم، وبعد التشاور والقسم على المصحف بأننا سنظل على قلب رجل واحد، ومع مطالب الشعب، دون استخدام العنف. صغنا البيان الذى ننوى إصداره، وعرضته على المشير فوافق عليه وأرسلناه للإذاعة والتليفزيون، كان البيان بمثابة رسالة طمأنة للشعب والقوى السياسية، وليس أدل على ذلك من تهليل وتصفيق الشباب فى التحرير بعد استماعهم للبيان، فقد أدركوا أن القوات المسلحة تنحاز للشعب بلا تردد أو مساومة. فى الثامنة من مساء اليوم نفسه، الأول من فبراير، كنت فى مركز العمليات عندما جاء المشير طنطاوى، وخرجت معه، فأخبرنى أن الرئيس مبارك يطلب أن نلتقى به، اندهشت لأن الرئيس يطلب حضورى، فوجود المشير يكفى، ولم تكن دهشتى نابعة من خوف أو قلق، فلله والوطن والتاريخ أشهد أن الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك رجل عسكرى محترم وقائد من أبطال حرب أكتوبر، ولا يمكن لمثله أن يفكر بطريقة فيها خسة أو نذالة، فهو لا يحمل أفكاراً تآمرية ولا يضمر الغدر. كان توترى قبل المقابلة لأسباب أخرى، فقد تخوفت من التفسيرات والتأويلات التى لا بد أنها ستشيع وتنتشر بعد اللقاء مع الرئيس، فإصدار بيان الجيش صباحاً، ومقابلة الرئيس ليلاً، قد يفسر بأنه خدعة من الجيش للشعب، ولذلك طلبت من المشير ألا تتم تغطية اللقاء إعلامياً، حتى لا يشعر الشعب أننا نخدعه، واستجاب المشير لطلبى. عند وصولنا إلى المقر الرئاسى، استقبلنا قائد الحرس الجمهورى وكبير الياوران، وطلبت منهما عدم تغطية اللقاء أو حتى التقاط صور له، واستدعيت المسؤول الإعلامى فى الرئاسة، وكررت الطلب نفسه، بل إننى طلبت ألا يدخل علينا فى الاجتماع عامل البوفيه لتقديم واجب الضيافة، وعند وصول اللواء عمر سليمان والفريق أحمد شفيق، أكدت عليهما أن يكون الاجتماع بعيداً عن الإعلام، واستجابا. كانت مائدة الاجتماع تضم المقاعد بأسماء الحضور: الرئيس مبارك، اللواء عمر سليمان، المشير طنطاوى، الفريق أحمد شفيق، رئيس الأركان، وزير الداخلية محمود وجدى، قائد الحرس الجمهورى اللواء نجيب رشوان، مدير مباحث أمن الدولة، اللواء حسن عبدالرحمن، وقد وصل وزير الداخلية ومدير مباحث أمن الدولة متأخرين نتيجة اضطرابات فى الطريق. بمجرد دخول الرئيس مبارك، خاطب المشير قائلاً: - انتو كده أعلنتوا موقفكم يا حسين. - ولم يرد المشير، ووجدت نفسى أتدخل لرفع الحرج، فقلت للرئيس مبارك: - يا ريس إحنا أعلنا موقفنا عشان عارفين سيادتك ما بتحبش الدم. ورد الرئيس مبارك على الفور: - دم إيه يا سامى لا سمح الله.. أنا مش باحب الدم.. ولا عايز دم. وقلت معلقاً على كلمات الرئيس: - عشان كده أصدرنا البيان اللى بيأكد على كلامك ده يا ريس. وأضاف مبارك: - متنسوش يا جماعة إنكم مسؤولين عن الشرعية. وكرر العبارة مرة أخرى بعد أن أضاف كلمة واحدة: - مسؤولين عن حماية الشرعية. لم يكن الرئيس منزعجاً من البيان الذى أصدرته القوات المسلحة، ولا شك عندى أنه كان يجهز لخطابه العاطفى ويثق من نتائجه الإيجابية، وكان على ثقة أن بيان الجيش ليس تحريضياً، وأن دافعه وطنى بما يتوافق مع توجهات الرئيس نفسه. موقعة الجمل، كما تسمى إعلامياً، نقطة تحول حاسمة فى الصراع الذى امتد بين يومى 25 يناير و11 فبراير، وسيكشف التاريخ يوماً عن الحقيقة كاملة، وكل ما أستطيع قوله الآن إن المدبر والمنفذ لا بد أن يكون صاحب مصلحة فى جملة النتائج التى ترتبت على الواقعة، كان الفريق أحمد شفيق يملك الإصرار على النجاح وعبور الأزمة، والرئيس مبارك بعد خطابه استطاع أن يكتسب أرضاً جديدة ويحظى بقدر كبير من التعاطف، فلا مصلحة لأحدهما فى تغيير المسار الإيجابى، فمن الذى يملك المصلحة؟ ومن الذى استفاد فعلياً؟ الإجابة عن هذين السؤالين معروفة، والفاعل -بالتبعية- معروف. بداية النهاية فى الثالث من فبراير، اليوم التالى لموقعة الجمل، أصدر النائب العام عبدالمجيد محمود قراراً بمنع سفر أحمد عز، أمين التنظيم السابق فى الحزب الوطنى، ووزير الداخلية المقال حبيب العادلى، ووزيرى السياحة والإسكان، زهير جرانة وأحمد المغربى، فضلاً عن عدد آخر من كبار المسئولين، وفى الأيام التالية صدرت قرارات مماثلة، كان أبرزها استقالة جمال مبارك وصفوت الشريف من هيئة مكتب الحزب الوطنى، وتعيين الدكتور حسام بدراوى أميناً عاماً للحزب، لكن الأزمة فى حقيقة الأمر كانت قد تجاوزت ما يتخيله الكثيرون فى قمة السلطة، وكان لا بد من تفعيل فكرة الحوار غير المشروط مع القوى السياسية المؤثرة، ومنهم جماعة الإخوان المسلمين. تولى اللواء عمر سليمان، نائب الرئيس، مسؤولية الحوار، مسلحاً بحكمته وخبرته الطويلة، وكان الهدف هو التوافق على تشكيل لجنة لإعداد تعديلات دستورية سريعة، والعمل على إنهاء حالة الطوارئ، والسعى إلى تحرير وسائل الإعلام، وملاحقة المتهمين فى قضايا الفساد. مبدأ الحوار الوطنى فى ذاته صحيح، ومطلوب، لكننى أعود وأقول مجدداً إن توقيت الحوار لم يكن يساعد على النجاح، فالحوار يتم تحت ضغط عصبى ونفسى نتيجة لما يحدث فى الشارع والاختلاف المفاجئ فى موازين القوى يقلل من فرص التفاهم والتواصل، وقد أثبتت التجربة أن الأحزاب السياسية فى مصر بالغة الضعف والتهافت، ولا تملك قواعد شعبية قادرة على التأثير. ولعل هذه الوضعية هى ما تبرر ارتماء أغلبية هذه الأحزاب فى أحضان الإخوان، لأن الجماعة هى الأقوى والأكثر تنظيماً. تصاعدت أعمال العنف بشكل غير مسبوق، وتزايدت الاحتجاجات والمطالب الفئوية، وبذلت القوات المسلحة كل جهد ممكن للحفاظ على الأمن وحماية المنشآت الحيوية، لكن الشرطة انهارت تماماً، وفرض حظر التجول لم يحقق النتائج المرجوة، لأن تطبيقه كان يراعى الأحوال النفسية والمعنوية للمواطن. فى العاشر من فبراير وجه »مبارك« خطابه الثالث للشعب، وقد انتظر الجميع خطابه هذا للاستماع إلى مبادرة عملية فعالة تنهى حالة الغضب الشعبى، لكنه جاء دون المستوى ومخيباً للآمال، وظهرت فيه بوضوح آثار عمليات المونتاج التى جعلته بعيداً عن الترابط والوضوح، تدخل أكثر من »مقص« قبل عرض الخطاب، وبدا واضحاً أن جماعات المصالح المتعارضة داخل مؤسسة الرئاسة تتصارع، ولا تفكر فى الحد الأدنى من التنسيق لمواجهة الموقف العصيب. رفض مبارك فى خطابه أن يتنحى، واكتفى بتفويض سلطاته للنائب اللواء عمر سليمان، أشاد بالشباب مؤكداً أنه يعتز بهم، وأكد أنه لن يترشح لفترة رئاسية جديدة، لكنه أيضاً تمسك بالاستمرار فى موقعه حتى نقل السلطة بطريقة آمنة، اتخذ الخطاب فى نهايته منحى عاطفياً وطنياً، بالإشارة إلى رفض الضغوط والإملاءات الخارجية والإصرار على أن مصر أرض المحيا والممات. النقاط الإيجابية فى الخطاب تبخر تأثيرها فى ظل الإطار العام الذى لا يقدم جديداً، ومن هنا كان رد الفعل سلبياً فى الشارع، وبات الطريق ممهداً للسقوط القريب. فى اليوم التالى، الحادى عشر فى فبراير، أعلن النائب عمر سليمان عن تنحى الرئيس وبدأت مرحلة جديدة فى تاريخ مصر، قدر لى أن أكون مشاركاً فيها وشاهداً عليها. الجيش والإخوان السؤال / الاتهام الذى توجهه بعض القوى السياسية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى تولى مسؤولية إدارة البلاد بعد تنحى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، يمكن صياغته على النحو التالى: هل قام الجيش بتسليم السلطة لجماعة الإخوان المسلمين؟ وهل كان هذا »التواطؤ« نتيجة لصفقة بين قيادات الجيش والجماعة، بحيث يضمن كبار الجنرالات ما يسمى ب»الخروج الآمن«؟ المثير للدهشة بحق أن هذا الاتهام لم يظهر على السطح إلا بعد وصول الإخوان إلى السيطرة شبه الكاملة على مفاصل الدولة، تشريعياً ورئاسياً، وأن كل المؤشرات السابقة لهذا الاتهام، عبر أربعة عشر شهراً منذ سقوط مبارك إلى صعود مرسى، تنبئ عن حالة من التوتر والعداء بين الجيش والإخوان، تتمثل بشكل واضح فى الشعار الذى رددته الجماعة، واندفع الكثيرون لتكراره بغير وعى: يسقط يسقط حكم العسكر. تهافت الاتهام لا يعنى إهماله والتعالى على فكرة الإجابة والتوضيح، فالجميع يعرفون أن الجيش المصرى لا شأن له بالعمل السياسى والانتماء الأيديولوجى والالتحاق بالكليات العسكرية تسبقه تحريات دقيقة مكثفة لاستبعاد أصحاب الأهواء السياسية، فالبطولة للعقيدة القتالية والانتماء الوطنى الخالص. قبل سنوات من ثورة 23 يوليو 1952، كان عدد لا يستهان به من ضباط الجيش المصرى ينشغلون بالسياسة، نظرياً وعملياً، فمنهم المتعاطفون مع الوفد، أو المقتربون من اليسار الماركسى، فضلاً عن المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها المرشد الأول حسن البنا، ولم يكن غريباً أن ينتقل بعض الضباط بين هذه الاتجاهات جميعاً، فيبدأ وفدياً ثم ينتقل إلى الإخوان ومنها إلى التنظيمات اليسارية، هذه التحولات الفكرية والسياسية نجدها عند جمال عبدالناصر وخالد محيى الدين وعبدالحكيم عامر وعبدالمنعم عبدالرؤوف، وغيرهم ممن انضموا فى نهاية المطاف إلى تنظيم الضباط الأحرار، وأطاحوا بالنظام الملكى، محتفظين فى أعماقهم بكل أو بعض الولاء للانتماءات القديمة. بعد نجاح الثورة واستقرار نظامها، كان الحرص على الاستفادة من التجربة، ومنع الضباط من العمل السياسى، فلا مهمة لهم تفوق العمل العسكرى الذى يتولى مهمة مقدسة وهى الدفاع عن الوطن والشعب. ما أريد التأكيد عليه هو أن الجيش المصرى بكل مستوياته من القيادة العليا إلى أحدث ضابط ملتحق بالخدمة، لا يعملون بالسياسة، ولا صلة تنظيمية أو فكرية تربطهم بجماعة الإخوان، فلا منطق إذن فى القول بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو من هيأ المناخ للإخوان وأعانهم فى الوصول إلى السلطة. وإذا انتقلنا إلى واقع ما بعد تنحى مبارك، نجد أن المجلس الأعلى قد تولى إدارة شؤون البلاد منذ مساء 11 فبراير 2011، وجاءت هذه الإدارة بشكل مفاجئ غير متوقع، وبلا سوابق أو نصوص دستورية تمنح المؤسسة العسكرية هذ الحق. صورة ارشيفية لقد اتصل مبارك بالمشير طنطاوى وقال إنه سيكلف المجلس الأعلى بهذه المهمة، ورفض المشير هذا العرض بلا تردد، ظناً منه أن مبارك سيبقى على رأس النظام، لكن الموقف تغير بعد قرار مبارك بالتنحى الكامل. كان هدفنا الوحيد هو الخروج بمصر من أزمتها والعودة إلى الاستقرار والأمن، والعمل على تنفيذ خارطة الإصلاح على أكمل وجه، والبيان الثانى الذى أصدرناه يؤكد هذا المعنى، وكنت شخصياً من أشرف على إذاعة خطاب اللواء عمر سليمان بشأن تنحى مبارك، فقد سلمته لمدير إدارة الشؤون المعنوية، وشددت عليه ألا يذاع إلا بتعليمات منى، وكان الأمر عندى يتعلق بضرورة التأكد من مغادرة الرئيس وأسرته إلى شرم الشيخ. المسؤولية التاريخية التى وقعت على عاتقنا كانت تتطلب إجراءات سريعة منظمة، وإذا كان الرئيس عبد الناصر قد استعان بالسنهورى باشا الفقيه الدستورى العالمى لتقنين الأوضاع القانونية والدستورية بعد ثورة 23 يوليو، فقد بادرنا بتشكيل لجنة عليا لدراسة الوضع واتخاذ الإجراءات اللازمة، وكان التشكيل يضم السيد المستشار ممدوح مرعى وزير العدل، والسيد المستشار فاروق سلطان رئيس المحكمة الدستورية العليا، واللواء ممدوح شاهين كممثل قانونى عن القوات المسلحة، هل من قامة قانونية تفوق وزير العدل ورئيس المحكمة الدستورية العليا؟! لم نفكر فى الإخوان أو غيرهم، وقررنا أن نلتزم بما يوصى به القانونيون من أهل العلم والتخصص، وهنا يتكرر الاتهام من جديد: لماذا لم نقم بإعداد الدستور أولاً قبل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية؟! الانتخابات أولاً أم الدستور أولاً.. قضية يتحدث عنها الكثيرون، والخلل الرئيسى هنا هو إدخال الجيش كطرف فى المعادلة، وإغفال حقيقة أن المشير محمد حسين طنطاوى كان مستعداً لتنفيذ ما تشير به اللجنة القانونية، مع محدد واحد أصر عليه، وهو ألا تزيد الفترة الانتقالية على ثلاثة أشهر، وكان الهدف من تحديد هذه الفترة القصيرة هو الحفاظ على الجيش وتجنب عمله السياسى من ناحية وعودة الحياة إلى إيقاعها التقليدى بما يحقق الاستقرار ودفع عجلة العمل والتنمية من ناحية أخرى. مخاوف المشير والمجلس الأعلى لا تنبع من فراغ، فالجيش مهامه الوطنية التى تفرض عليه الابتعاد عن العمل السياسى، وأهل العلم والتخصص من القانونيين كان لهم رأيهم المختلف، وخلاصة هذا الرأى أن فترة الشهور الثلاثة لا تكفى لإعداد الدستور والتوافق حوله والاستفتاء عليه، ولا يمكن أن تتسع -فى الوقت نفسه- لإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية، إنجاز هذا الملف يحتاج إلى ما يتراوح بين عام ونصف إلى عامين، ولذلك كانت التوصية بانتخابات المؤسسات التشريعية، مجلسى الشعب والشورى، خلال ستة أشهر، ثم الدعوة إلى انتخابات رئاسية، ويتولى هؤلاء المنتخبون شعبياً مهمة إعداد الدستور. لو أننا فعلنا العكس وأعددنا الدستور أولاً، لقيل إن العسكريين يضعون الدستور وفقاً لمصالحهم، وهو الشعار الذي ظهر بالفعل وردده الكثيرون: لا دستور في ظل المجلس العسكري. النجاح الذي حققه الإخوان، بعد 11 فبراير لا علاقة له بالمجلس العسكري، فقد كنا نقف على مسافة واحدة من الجميع، في الإعلان الدستوري الصادر يوم 13 فبراير 2011 أعلن المجلس العسكري التزامه الواضح الصريح بعدم الاستمرار فى الحكم، وتعهد بتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة فى غضون ستة أشهر، أو حتى يتم إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ونص الإعلان نفسه على تعطيل مجلسى الشعب والشورى المنتخبين فى عام 2010 وتعليق العمل بدستور 1971. تشكلت لجنة لتعديل بعض مواد دستور 1971، وجرى استفتاء حر نزيه فى 19 مارس 2011، وافق عليه الشعب بنسبة 77%. لمن ينسى أو يتعمد النسيان أطرح مجموعة من الأسئلة معروفة الإجابات: 1 - هل يمكن التشكيك فى نزاهة الاستفتاء الذى أمنته القوات المسلحة وضمنت حرية التصويت بلا عوائق؟ 2 - هل كانت انتخابات مجلسى الشعب والشورى، التى حقق فيها الإخوان المسلمون والسلفيون نجاحاً لافتاً، مشوبة بالتزوير أو التلاعب؟ ألم يكن الشعب هو من اختار ممثليه، دون نظر إلى طبيعة هذا الاختيار؟ 3- ألم تكن الأحزاب غير الإسلامية هى التى سعت إلى التحالف مع الإخوان المسلمين وانهالت بالمديح على الجماعة وسلميتها ووسطيتها وإيمانها بالديمقراطية؟ 4 - ألم ينجح عدد غير قليل من ممثلى الأحزاب المدنية على قائمة التحالف الذى يتزعمه حزب الحرية والعدالة، وهؤلاء هم من انقلبوا على الإخوان وحزبهم فيما بعد، واتهموا المجلس العسكرى بالتحالف مع الإخوان؟ 5 - هل تدخل المجلس العسكرى فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التى شهد العالم كله بنزاهتها وشفافيتها؟ وهل تدخل المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر فى جولة الإعادة بين مرشح الإخوان محمد مرسى والفريق أحمد شفيق؟ الأسئلة السابقة جميعاً معروفة الإجابات، ولا أحد ينسى موقف الإعلام فى دعم الإخوان والمرشح محمد مرسى فى جولة الإعادة، واكتمال الوعى بدروس التجربة لن يتحقق بمعزل عن الإقرار بأن نجاح الإخوان وتفوقهم مردود إلى قوتهم النسبية من ناحية، وضعف وتهافت الأحزاب المنافسة من ناحية أخرى. كان المجلس العسكرى حريصاً على التوازن السياسى وخلق كيانات جديدة تثرى الحياة السياسية بعد ثورة 25 يناير، وقد اجتمعت مع مئات من شباب الحركات الثورية، وطالبتهم بتكوين كيانات قوية قادرة على المنافسة، وتعهدت لهم بتقديم كل دعم ممكن لكنهم -للأسف الشديد- لم يتفقوا على الحد الأدنى من المبادئ والأسس، وتحولوا إلى مجموعة من الجزر الصغيرة المتناثرة التى لا تملك تأثيراً أو نفوذاً فى الشارع المصرى. الأحزاب بلا قواعد جماهيرية، ولا نفوذ لها أو تأثيراً فى الشارع، وأغلب هذه الأحزاب تبدأ نخبوية والزعماء فيها أكثر من الأعضاء، القيادات تنحصر بين مسئولين متقاعدين ورجال أعمال يبحثون عن المصالح أو الشهرة، وتنعكس هذه النشأة بالضرورة على البرامج والمصداقية فى الشارع الذى لا يلمس لهم وجوداً فعالاً، فينصرف عنهم ويتجه إلى الإخوان والسلفيين، ليس لأنهم الأكثر تعبيراً عن حاجاته، بل لأنهم يقتربون منه فى ممارسات الحياة اليومية.