ازداد ميغيل دي ثيربانتيس سابيدرا، ابن السيد رودريغو دي ثيربانتيس والسيدة ليونور دي كورتيناس في قلعة عبد السلام (Alcalá de Henares) سنة 1547 وهو الرابع بين سبعة إخوان. ثم انتقلت الأسرة المتواضعة إلى مدينة بلد الوليد في سنة 1551 حيث سجن الأب عدة شهور بسبب ديون تراكمت عليه رغم كونه من عائلة أشراف. لا يُعرف الكثير عن الحياة الدراسية لثيربانتيس، لكن الأكيد أنه لم يبلغ الجامعة. درس على ما يبدو في بلد الوليد أو إشبيلية أو قرطبة في إحدى مدارس الراهبات لأنه يحكي في روايته «حديث الكلاب» (Coloquio de los perros) عن مدرسة من هذا الصنف يبدو أنها من وحي ذكريات طفولته. في 1566 استقرت أسرته في مدريد وهناك كان يحضر دروس خوان لوبيث دي أويوس الذي نشر، سنة 1569، كتابا حول مرض ووفاة الملكة دونيا إسابيل دو فالوا الزوجة الثالثة للملك فيليب الثاني ضمّنه ثلاث قصائد لتلميذه ميغيل دي ثيربانتيس. هذه القصائد هي أول نص أدبي معروف يكتبه ثيربانتيس. في سنة 1569 انتقل إلى روما فارا من إسبانيا بعد أن تسبب في جروح خطيرة لأحد النبلاء الذي توعده بالموت. وهناك انخرط في الجندية وشارك في معركة ليبانطو (1571) التي هزم فيها الأتراك وأصيب فيها هو في يده اليسرى وكان ذلك سببا في شللها إلى الأبد، وأصبح يطلق عليه منذ ذلك الحين لقب أقطع ليبانطو (El manco de Lepanto). وقد ظل ثيربانتيس يفتخر بمشاركته في هذه المعركة ويمجدها خاصة وأن رؤساءه أشادوا ببلائه فيها وأمدوا له في الأجرة، وقد ذكرها في استهلاله للجزء الثاني من روايته الشهيرة دون كيخوطي دي لا مانتشا. وأثناء عودته من إيطاليا إلى إسبانيا هجمت على السفينة التي كانت تقله سفينة تركية فآسرت الذين كانوا على متنها وبينهم ميغيل دي ثيربانتيس وأخوه رودريغو. ولأن صاحبنا كانت بحوزته رسائل تزكية من دون خوان دي أستورياس والدوق دي سيسا، فقد ظن الأتراك أنهم قد قبضوا على شخصية مهمة قد تفتدى بأموال كثيرة، ولذلك قضى أسيرا بالجزائر خمس سنوات حاول فيها الفرار أربع مرات كلها باءت بالفشل وفي كل مرة كان يتلقى تعذيبا قاسيا من المشرفين على الأسر، وكان يتحمل كل ذلك التعذيب وحده ولم يكن يبوح قط بأسماء زملائه ومساعديه على الهروب. ونجد صورا أدبية رائعة لهذه التجربة المريرة في حياته في مسرحيتيه «معاملات الجزائر» (Los tratos de Argel) و «حمامات الجزائر» (Los baños de Argel) وأيضا في حكاية الأسير المدرجة في الجزء الأول من الكيخوطي في الفصول 39 و 40 و 41. وعنوان «حمامات الجزائر» مستوحى من أحد الحمامات أو المراحيض التي سجنه فيها حسن باشا جزايرلي خلال خمسة أشهر. في سنة 1580 عاد إلى مدريد وقد افتدته عائلته ومعارفه بعد أن جمعوا بمشقة مبلغ 500 إسكودو التي طالب بها الأتراك مقابل إطلاق سراحه. اشتغل بعد ذلك في البرتغال ثم عاد إلى إسبانيا حيث ارتبط بامرأة اسمها أنا بيا فرانكا يعترف أن له منها بنتا اسمها إسابيل سابيدرا، وفي 1584 تزوج بالشابة كاتالينا دي سالاثار إي بالاثيوس وفي هذه الفترة نشر كتابه الأدبي الأول «لا غالاتييا» (La Galatea) وهي رواية رعوية يُلمس فيها تأثير ما كان يقرؤه الكاتب أثناء مقامه في إيطاليا، وقد وعد في مقدمة هذا الكتاب بجزء ثان له لكنه لم يكتبه قط. وفي هذه الفترة لا يمكن اعتباره إلا محبا هاويا للشعر ينشر بعض القصائد ضمن كتب مختارات لشعراء متعددين. ما بين سنتي 1587 و 1600 اشتغل ثيربانتيس جابيا يجمع الشعير والزيت للملك فيليب الثاني، لكنه كان يطالب، كلما سنحت له الفرصة بذلك، بوظيفة في العالم الجديد أمريكا وكانت طلباته تقابل دائما بالرفض. وذات مرة وهو يحصل القمح باع منه قسطا بدون ترخيص فتم حبسه في 1592 ولم يطلق سراحه إلا في 1594. وسجن مرة أخرى بإشبيلية في 1597 بسبب تلاعب وقع في حساب الضرائب التي كان يجمعها لمملكة غرناطة. ولعل الكاتب يشير إلى هذه المرحلة عندما صرح مرة أن فكرة رواية الكيخوطي ولدت في سجن. في 1603 انتقل إلى بلد الوليد التي استقر فيها أيضا الملك فيليب الثالث، وفي ذلك العام ماتت أنا فرانكا وانتقلت ابنتها إسابيل سابيدرا للعيش مع عائلة أبيها. وفي شتنبر من 1604 حصل على الترخيص الملكي لطبع الجزء الأول من الكيخوطي. لاحقته المصائب حتى في بلد الوليد، إذ أنه كاد أن يسجن مرة أخرى، سنة بعد نشر الجزء الأول للكيخوطي، بسبب مشاركته في شجار وقع أمام بيته، وبسبب علاقات ابنته بعاشق برتغالي. وبعد أن انتقلت العائلة الملكية إلى مدريد تبعها واستقر بالمدينة طامعا في أن يصطحبه الكونت دي ليموس إلى نابوليس ضمن حاشيته، لكن مساعيه باءت أيضا بالفشل. منذ أن نشر «لا غالاتييا» (La Galatea) في 1585 لم يظهر له كتاب إلا بعد عشرين سنة، أي في 1604 عندما طبع الجزء الأول من الكيخوطي. نجاح هذا الجزء شجع ثيربانتيس على المزيد من النشر وحمّس الناشرين أكثر للاهتمام بكتبه؛ وهكذا تناسلت عناوينه إتباعا، فظهرت في 1613 روايات نموذجية (Novelas ejemplares)، وفي 1615 الجزء الثاني من الكيخوطي والكوميديات الثمانية والمهازل الثمانية (Comedias y entremeses)، وغيرها. ثيربانتيس، إذن، عاش حياة مضطربة تخللتها محطات شقية مكنته من الاحتكاك بعمق الإحساس البشري وملامسة جوانب العطف والحقد والحب والسعادة والحزن داخله. لذلك نجح في تصويره في كتاباته، بل وفي التهكم على كل هذه الأحاسيس وبواعثها وتصويرها بأسلوب ساخر فيه كثير من الصنعة ولا يشوبه تصنع. بدأ ثيربانتيس بالشعر، إلا أن أقوى قصائده، بشهادة نقاده المتخصصين، هي تلك المدرجة في روايته الأولى «لا غالاتييا» (La Galatea) أو بعض قصائد الكيخوطي. كما كتب المسرح أيضا لكنه أخفق فيه، بشهادته، أمام غريمه التاريخي لوبي دي بيغا الذي يقول عنه هو نفسه «تركت القلم والمسرح ودخله الغول لوبي دي بيغا الذي تربع على عرش الكوميديا». مات ثيربانتيس في 22 أبريل 1616 في بيته بمدريد عاما واحدا بعد نشر الجزء الثاني من رواية الكيخوطي، هذا الجزء الذي اضطر لتغيير بعض فصوله الأخيرة بعد أن نشر أحدهم يدعى أبييانيدا جزءا ثانيا مزيفا نكاية فيه. الكيخوطي، هذا الكتاب الذي اشتهر أكثر من اسم صاحبه ومن مؤلفاته الأخرى، رواية من جزأين تتكون من 128 فصلا أغلبها مستقل عن بعضها. حبكتها الرئيسية تتكون من ثلاث خرجات يقوم بها بطلها الفارس دون كيخوطي: اثنتان يحكيهما الجزء الأول والثالثة مُتضمّنة في الجزء الثاني. أهمية الكتاب لا تكمن فقط في تقنياته البنائية وأساليبه اللغوية وألاعيبه السردية السابقة لزمانها، و في ما يزخر به من معلومات تاريخية واجتماعية وسياسية مما يجعل منه مرجعا لباحثين من عدة تخصصات، بل أيضا، وهذا هو الأهم، في الكثير من الكتب التي ألفت حوله سواء باللغة الإسبانية أو بغيرها، وبالعديد من ترجماته التي صدرت وما زالت تصدر بكثير من لغات العالم. غير أن القارئ العربي ينبغي أن يتلقى هذه الرواية تلقيا خاصا ويعيد قراءتها مرات ليقف على معطياتها الكثيرة حول واقع اللغة العربية أثناء تواجدها بإسبانيا، وحول العرب والمسلمين والموريسكيين بإسبانيا وحول نظرة الآخر إلينا التي لم نفعل الكثير لتغييرها منذ زمن ثيربانتيس إلى الآن. فمن خلال العنوان فقط «دون كيخوطي دي لا مانتشا» نلمس حضور العربية في كلمة «لا مانتشا» التي ليست سوى «المنشأ»، وفي كلمة «hidalgo» ، التي تعني Hijo de algo o de alguien أي ابن أحد ما مهم، شيء من اللغة العربية. وهي كلمة، كما بين مؤرخو اللغة الإسبانية، من بين الكلمات الكثيرة ذات الأصل العربي التي دخلت إلى الإسبانية بفعل الاحتكاك اليومي للغتين طيلة القرون الثمانية التي دامها الوجود العربي في إسبانيا. يقول اللغوي رفائيل لا بيسا، في هذا الصدد، في كتابه القيم «تاريخ اللغة الإسبانية»:»تأتي أهمية العنصر العربي في اللغة الإسبانية في الدرجة الثانية بعد العنصر اللاتيني، ويوجد في لغتنا اليوم ما ينوف على أربعة آلاف كلمة عربية علاوة على التعابير الدارجة على ألسنة الأندلسيين المأخوذة منها، فقد تبناها الناس وتوارثوها جيلا بعد جيل بدافع تفاعل حضارة العرب في أرضهم قديما، وتأثرهم بأسلوب حياتهم وتفكيرهم، إلى جانب تأثرهم بلغتهم.» ويضيف الأستاذ رفائيل لا بيسا في معرض حديثه عن كلمة Hidalgo بالذات، ما يلي: «تقول العرب «ابن الشيء» للذي يستفيد من هذا الشيء (الغني «ابن الدنيا»، ابن الغنى، واللص «ابن الليل» لأن الليل يسهل عليه عملية السرقة)، وهكذا نفسر المكون الأول لكلمة Hidalgo أو Hijodalgo . كلمة مرادفة ل»ابن أملاك» كما عرفه الفونسو الحكيم.» كما أن السارد يزعم أنه إنما ينقل عن نص عربي وجده مخطوطا وينسبه إلى مؤرخ عربي اسمه سيدي حامد بن الأيلي. وسواء كان هذا السارد موجودا حقا أو غير موجود، فإن في الرواية شخصيات عربية موريسكية مسلمة، يمثلها الموريسكي ريكوطي وابنته ريكوطا، لا يمكن للأسطوغرافية الموريسكية أن لا تلتفت إليها لأنها شهادة حية عن واقع مجموعة بشرية عرفت الظلم والاضطهاد، لطالما تعالت الأصوات اليوم لتعترف السلطة في إسبانيا بما اقترفته في حقها وتعوضها عن ذلك أو تقدم اعتذارا أمام التاريخ على ذلك. الكيخوطي، إذن، بالنسبة للقارئ العربي والمغربي على الخصوص، كتاب يمكن أن يقرأ على عدة مستويات: المستوى الروائي الإبداعي، المستوى النقدي، المستوى اللغوي، المستوى التاريخي، المستوى الاجتماعي... وبطله، بعد كل شيء، يكافح بجنون ضد كل التيارات من أجل نشر مبادئ الحب والعدالة والحرية؛ وكلها قيم ما أحوجنا إليها في عالمنا اليوم. فحبذا لو تم إدخال بعض فصوله ضمن مقتطفات من الآداب العالمية التي ينبغي أن تقرر لناشئتنا في المدارس والثانويات والجامعات. وقبل ذلك، ينبغي أن تنجز ترجمة مغربية حديثة لهذا المؤلف الكبير تحت إشراف مؤسسة ثقافية مسؤولة.