اختتمت الدور الثامنة عشر لمهرجان "الجاز شالة" المنعقد من 11 إلى 15 شتنبر 2013، بنجاح باهر كعرس لموسيقى الجاز الأوربية في تلقحها مع الموسيقى المغربية بتنوع تعبيراتها. المهرجان أضاء فضاء شالة الأثري لخمس ليالي خالدة أعادت للرباط روحها كمدينة تاريخية غنية تتحدث عن نفسها من خلال أسوارها ومآثرها وجمهورها العاشق للسمر والموسيقى العذبة. ينبغي أن نتذكر أن هذا المهرجان قد انطلق منذ ثمان عشرة سنة مضت (أي سنة 1996) كفكرة واعدة لتعريف الجمهور الرباطي الواسع بالجاز كما هو ممارس في أرويا، حين نتحدث عن أوروبا نتحدث بالضبط عن الاتحاد الأوربي الذي يتشكل اليوم من 28 دولة يشارك موسيقي أغلب دولها في المهرجان، ولكننا نتحدث كذلك عن الشراكة المغربية الأوربية لأن المهرجان هو كذلك مناسبة خصبة للقاء والتحاور بين الموسيقى المغربية والموسيقى الأوربية، فهو يمنح لموسيقيين من آفاق مختلفة فرصة فريدة للتعبير واللقاء وذلك ما صرح به في كلمة افتتاح المهرجان سفير الإتحاد الأوربي بالرباط، ريبرت جوي، حين أكد على المساهمة الفعالة للجانب المغربي في تنظيم هذا المهرجان من خلال وزارة الثقافة، التي عبر حضور وزيرها محمد أمين الصبيحي على دعمها اللآ مشروط للمهرجان ومن خللا ولاية الرباط التي ما فتئت تعبئ كل سنة كل مرافقها لضمان السير العادي ونجاح المهرجان على كل المستويات وخاصة اللوجيستيكية منها. حين بدأ هذا المهرجان منذ سنوات في متحف الأودية كان لا يتسع إلا لما يقرب من 200 متفرج وهي ما كان يمكن أن يستقطبه فضاء المتحف الصغير، ليتطور فيما بعد من خلال خيمة كبيرة في فضاء كبير خلف المتحف كان تستوعب حوالي 800 متفرج، ولكن كان ينبغي أن يهتدي المنظمون أن المهرجان وموسيقاه أكبر من كل هذا لينتقلوا به إلى فضاء أوسع وأجمل هو فضاء شالة. غير أن اللذين حضروا سهرات المهرجان الأخير وتتبعوا هذه الوديان المتدفقة من الجماهير في ممرات وسراديب شالة التي فاقت أحيانا 2000 شخصا، سرعان ما اكتشفوا أن النجاح الباهر للمهرجان وإشعاعه يتطلب ربما فضاء أوسع. هي مفارقة غريبة فعلا فموسيقى الجاز ليست موسيقى شعبية (أعرف أن هذا الحكم سيقلق الكثيرين وبالخصوص جو البير بيسو ومجيد بقاص المديرين الفنيين للمهرجان)، ولكن مع ذلك فهذه الموسيقى تبقى نخبوية غير أنها وهنا المفارقة تعبئ الجمهور الواسع، ربما لأنها موسيقى نخبوية للجميع إذا صح هذا التعبير. هنا الموسيقى تنتصر ويقدم الموسيقيين من خلال أنغامهم ومن خلال إمتجازها بالموسيقى المغربية بكل تلاوينها، يحدث في الجاز شالة أن ننسى جنسيات الموسيقيين ولا نذكر إلا أنغامهم، إنه فضاء للمتعة المشتركة ولقاء عبقريات لمبدعين أتوا من بعيد لإضاءة ليل الرباط الجميل. هذا المهرجان يبرهن من ضمن ما يبرهن عليه أن الجانب الثقافي يعتبر أحد أهم عوامل التعاون المغربي الأوربي ويتجلى ذلك في أكثر من عنصر من عناصر تكوين وتنظيم هذا المهرجان. هناك الفضاء التاريخي السحري المغربي الذي يختصر حضارات المغرب وتوغل جذورها. هناك أيضا لقاءات الفنانين المغاربة والأربين، لقاءات الموسيقات والثقافات والإيقاعات. وهناك أساسا المساهمة الفعالة للجانب المغربي في التنظيم والتأطير من خلال : - مساهمة وزارة الثقافة المغربية في تعبئة الفنانين المغاربة المشاركين في المهرجان والتكفل بتعويضاتهم، - الدور الفعال للمدير الفني المغربي الفنان مجيد بقاص في اختيار الفنانين المغربة وبرمجتهم وبرمجة لقاءاتهم مع الفنانين الأوربيين والمساهمة في التدبير الفعلي للمهرجان، - مساهمة كل مؤسسات مدينة الرباط عبر ولاية الرباط وكل مصالحها لضمان إعداد الفضاء وتنظيمه والأمن والوقاية والنظافة.. - وأخيرا، وليس أخيرا، هذه الحشود من الجماهير المغربية التي تحج لفضاء المهرجان إلى جانب جمهور الأوربيين والأجانب بشكل عام من ساكنة الرباط ونواحيها. الإتحاد الأوربي صاحب مبادرة تنظيم هذا المهرجان، إلى جانب المراكز الثقافية الأوربية، يشكل اليوم 28 دولة شاركت 15 منها في المهرجان، ومن أهم خصوصيات هذا المهرجان أننا لا نجد اللقاءات بين الموسيقيين المغاربة والأوربيين فقط بل نجد كذلك لقاءات بين الموسيقيين الأوربيين عبر فرق مشكلة من جنسيات مختلفة، وهي في الواقع ممارسة جد متواجدة في الموسيقى الأوربية اليوم على الخصوص في الجاز، غير أن مهرجان شالة يعطيها أهمية خاصة ومساحة أوسع. حين نتحدث عن الموسيقى المغربية المساهمة في المهرجان لابد من التوضيح أن الأمر يتعلق بعدة موسيقات مغربية على غناها وتنوعها واختلاف جذورها من مغنية فريدة "أم الغيت" إلى عود إدريس الملومي وناي رشيد زروال فثلاتي كريم القاديري وبنات هوريات مراكش.. ما يجمع بين كل هذه الأشكال الموسيقية هو أصالتها المغربية وقدرتها على التحاور والامتزاج مع كل أنواع الموسيقى الأوربية عبر بوابة الجاز. وهنا يمكن أن نتساءل عن ما هو الجاز الأوربي على الخصوص أو تحيدا ماذا يميزه عن الجاز الأمريكي أو الأمريكي الأصل..سؤال صعب بعض الشيء، على الأقل في حدود معرفتي بهذه الأصناف الدقيقة من موسيقى الشعوب، غير أن اللذين تستهويهم هذه الموسيقى وما أكثرهم في الرباط يميزون جدا بين هذه الأنماط وربما في ذلك ما يشرح سر النجاح المضطرد لهذا المهرجان على امتداد السنين. في مهرجان الجاز شالة لا يتعلق الأمر بمجرد مهرجان بالمعنى المتعارف عليه بل إنه منتدى واسع للقاء وإعطاء المناسبة لمشاريع موسيقية بين الموسيقيين، هكذا نلاحظ كل سنة أن الموسيقيين المغاربة الذين يحظون بالمشاركة في ليالي مهرجان شالة قد يتم استدعاءهم لمهرجانات أروبية أخرى لتمتد روح اللقاءات وحوار الموسيقات والثقافات في فضاء دائما أوسع خارج أسوار شالة ولكن في إطار مشروع أكبر للتعاون المغربي الأوربي الذي ليس الجاز إلا إحدى تجلياته أكثر قربا والأغنى إنسانية.