(دفتر يوميات) (4 أيلول 2013) الإنسان الحديث؟ يبدو أنّ »حداثته« أوصلَتْه إلى العمل على أن يحاصر غيره، محاصِراً نفسه، وأن يعيش، تبعاً لذلك، في حصارٍ مدى حياته - استعداداً لحصاره الأخير بين جدران القبر. * حين رأى الطفل الجثثَ المطروحة في العراء، بكى. رأى علَماً في غرفة والده. أخذه ومزّقه. حلُمَ في اليوم الثاني أنّ الأشجارَ بدأت تُحارب الطيور. استيقظ من نومه خائفاً. من سيمنع الأشجار من محاربة الأجنحة؟ وكيف؟ * للعدد في حساب الجمهور عِلمُ أنسابٍ تنحدرُ من الجدّ الأوّل: الصِّفر. (أيلول، 5) قام قعدَ. تحدّث، خطبَ. وعدَ توعّد. غاب، حضرَ. كتب قرأ: لا شيء! خيالُ ظلٍّ لقبّعةٍ من أجنحة النّمْل. * لهذا الوقت أذنٌ يتّسع دهليزها للأصوات كلِّها، إلاّ صوت الصِّدق. * فكُّه الأسفلُ في قتالٍ دائمٍ مع فكّه الأعلى، وفي تبشيرٍ دائمٍ: الوسيلةُ هي كذلك غايةٌ. وكلُّ خداعٍ مشروع. * البُغاثُ يستنسر، ولم يبدأِ الصّيد. * ما هذا التاريخ الصّاخب الذي تغنّيه حناجرُ لا صوتَ لها؟ * أجنحةُ زيزانٍ تعتقلُ الفضاء. * يرفض صِهريجُ الذّهب، على نحوٍ قاطعٍ، أن يصبّ في نهر الحرّيّة. * بشرٌ تترنّحُ أجسامُهم، تطفو وترسُب في بحيراتٍ من الفضّة. * جدَلُ الريح يسفِّه منطقَ الغبار. منطقُ الغبار لا يعترف بجَدَل الرّيح. * زواحِفُ آدميّةٌ. طيورٌ من الحديد في صوَرٍ وزخارفَ تستلقي على أسرّةٍ سماويّةٍ. * رؤوس أطفالٍ تتبقّع بقطران الغَزْو. * عرف الغربُ ويعرف كيف يتفنّنُ في صناعة الطّبول التي تعرفُ عِصِيُّ العرب كيف تتفنّن في قرعها. * (أيلول، 6) من أين تجيء هذه الكائنات الرخويّة التي تعلّم الحجر كيف يكون مادّةً صلبة؟ * من نداوة أرضكَ الأولى، يتبجّس ينبوع شعركَ الأوّل. ابقَ بعيداً عنها، إن شئتَ أن يظلّ دافقاً في أحشائك. * نعم تنقلبُ النّافذةُ أحياناً إلى غَيْمة: أليست أفضلَ وأجمل من العصا؟ * لم أقدرْ، هذا الصباح، أن أعبرَ السّياج الذي يفصلني عن شُجيرةِ زيتون آتيةٍ من الجنوب الفرنسيّ في آنيةٍ بلاستيكية، تجلس وحيدةً في زاويةٍ من الحديقة القريبة. كنتُ، كلّ صباح، أسلّم عليها إحياءً لذكرى زيتونة كبيرة معمِّرة، رافقت طفولتي كلّها في قصّابين. لا أعرف كيف نسيت موعدي مع السياج. لا أعرف كيف نسيتُ كلمةَ السرّ، كلمة المرور. * لا تقْلَقْ. لا أنتمي إلى هذا الواقع. لا أزاحمك في أيّ شيء. لا أريدُ أيّ شيء. لا أعاشر إلاّ التوهُّم. * فكّ الشاعرُ حبال قاربه الذي يربطه بخليج الحاضر. وعاد إلى بيته تحرسه أحلامُه. في طريق العودةِ، التقى بصيّادٍ لم يعرف اسمَه. كان تموُّجٌ ناعمٌ يداعب الزّبدَ، ويدخّنُ غيماً رماديّاً. » لكن أين بيتي؟« تساءل الشاعرُ، شارداً ضائعاً. * (أيلول 7) لا يفهم جدائلكِ إلاّ كتفاكِ والموجُ الذي ينسدل عليهما. * (أيلول، 8) الصّوابُ خطأٌ آخر عند فردٍ أو جمعٍ يرفض أن يعترفَ بأنّه يُخطئ. * لا يفكّر إلا لكي يوظِّف فكره من أجل هدفٍ معيّن. وهو إذاً، لا يفكّر. إنّه يمارس نوعاً من رياضة التصيّد. الفكر أفقٌ. سيرٌ في مشروعٍ مفتوحٍ، وليس شبكةَ صيد. * (أيلول، 9) وَهْمي خيوطٌ تنسدل عليها ثيابُ الواقع. * عندي أفكارٌ لا تريد أن تنتظم في كتاب. الكتابُ راحةٌ وهذه الأفكارُ تبحث عن التعب. * لماذا يبدو عقلُك حمَلاً أمام الأشياء التي تحبّ أن تحقّقها، ويبدو ذئباً أمام الأشياء التي سبق أن حققتَها؟ * لا تقدرُ أفكاري أن تعيش في رأسي إلاّ واقفة. فكرةٌ تجلس إنما هي فكرةٌ معوَّقَة. * أحبُّ أن تتخاصمَ أفكاري في الليل، وأن تتآخى في أثناء النهار. * إذا كنت تعتقد أنّك عربيٌّ لأنك تتكلّم العربيّة، فأنت تعتقد، تبعاً لذلك، بأنّ درجة عروبتك تابعةٌ لدرجة إتقانك اللغة العربية. وإذاً ، يمكن القول إنّ هناك أشخاصاً كثيرين، يمكن وصفُهم بأنّهم أنصافُ عرب، أو أشباهُ عرب، أو ما دون ذلك. * ( أيلول 10) هل شاهدتَ مرّةً كيف يموت الكلام؟ وهل سِرْتَ في جنازة كلامٍ مات؟ * آملُ أن أعرِّفكم، يوماً، على تباريحي: إنها خريطةٌ ضخمةٌ لبلاد بلا حدود. * مرّةً أخرى، أمسِ، أكّدت الشمسُ أمامَ عينيّ حِرصَها على قراءة جسدها لكن ما أن بدأت القراءة حتّى غابَتْ. * ( أيلول 11) القتلُ يتتلمَذ على القتل. والدّمُ يرسمُ الدروب. * كيف نخترع أمكنةً لا نرى فيها جثثاً، أو أجساماً ترتجف نائحةً على أشلائها الآتية؟ لا تعرف هذه الأشلاء أين تستقرّ؟ في نارٍ لا تنطفئ؟ في قفرٍ يبنيه الرّمل، ويهدمُه في حركةٍ لا تهدأ؟ في خزائنَ للدّمى والتعاويذ؟ أو ربّما في رمادٍ رحيمٍ يتآخى مع الريح. أو لعلّها تفضّل السكنَ في أجسام الأطفال عندما يخرجون من أرحام أمّهاتهم، إذا تيسّر لهم، بين المفصل والمفصل، وبين الخليّة والخليّة. أشلاؤنا، نحن العرب، هي أيضاً جيوشٌ وحروبٌ وثارات. * قالت لي الرياحُ في بلاد العرب: مللتُ، أنا أيضاً، من البكاء والنّواح. (أيلول، 12) يسألني الضوء: ماذا تكتب؟ يسبقني الظلّ إلى الكلام متسائلاً: لماذا تكتب؟ هل أخرج إلى الشارع برفقة الضوء؟ هل أعود برفقة الظلّ؟ * أحبّ أحياناً أن أكون نحيلاً كحرف الألف، لكي أقدر أن ألتصق بك، وأكون معكِ أينما كنتِ، دون أن يراني أحد. * تسألُ الحياةُ عنّا نحن العرب، لكي تحيا معنا. لكن قلّما تجد لها مكاناً بيننا. هكذا نولد. نمضي إلى الموت. نعبر الحياة دون أن نراها.