لقد استفاق الأمريكيون في بداية التسعينيات على قتل وسحل عشرين من أفراد المارينز في العاصمة الصومالية موقاديشيو, وقد خلّدها فيلم (سقوط النسر الأسود) ليكتشفوا بأن الحي القصديري العشوائي هو المكان الجديد للصراع على السلطة. تتخلى الدّول عموما في العالم الثالث عن هذه الأمكنة الخطيرة، المضطربة والبالغة التعقيد, تاركة إياها لسلطة العصابات (المتاجرة في المخدرات) والجماعات الدينية الجهادية لأن قدراتها على الاستثمار تظل ضعيفة وهو ما يتسبب في نزيف للسلطة ممّا يترتب عنه توجه الناس إلى أنماط واختيارات بديلة للحكم (القبول برئيس العصابة أو أمير الجماعة). لنلاحظ، في هذا السياق، بأن الأمكنة الوحيدة المبنية، غالبا، بطريقة جيدة داخل الأحياء القصديرية هي المساجد. هكذا تصير هذه التجمعات السكنية العشوائية أماكن خارج القانون، وخارج دورة الإنتاج وخارج المجتمع أيضا وخارج المهام الأمنية لجهاز البوليس الذي لا يضع قدمه داخلها إلا نادرا. أحيانا يتولى سكان هذه الكاريانات بأنفسهم مهمة حماية أنفسهم كمهربي المخدرات ورجال العصابات الذين يعوضون الجهاز الأمني وهو ما يقع بشكل واضح في أحياء ريو دي جانيرو. هكذا يصير السؤال العويص المطروح على الدولة هو :»كيف يمكن استعادة مراقبة هذه الأحياء وفرض هيبتها على ساكنتها؟». إن الحرب الحضرية في المدن ليست جديدة. منذ القرن 19 وفي أوج التصنيع انبجس العنف داخل المدينة وصار همّا سياسيا ومع حدث بزوغ الطبقات العمالية في قلب المدن ظهر البؤس والعنف، الفرديان والجماعيان في آن، مترابطان ترابطا وثيقا في الكتابات السياسية (كان تقرير فييرمي Willerme سنة 1836، أول جرد للمنازل غير الصالحة للسكن في باريس والتي كانت تقطنها الطبقات العمالية التي كان ينظر إليها كطبقات خطيرة)، كما في الكتابات الأدبية ذات الطابع الروائي. ركّز وصف الحياة في المدينة الأوربية حينها على انتشار عدوى العنف في العلاقات الاجتماعية، وفي المدن الأمريكية، إبان الفترة ذاتها، ارتبط العنف باندماج المهاجرين الجدد، وتم التعبير عن ذلك عبر ظاهرة العصابات المتصارعة باستمرار، كما وصف ذلك بدقة المخرج الكبير مارتن سكورسيزي في فيلمه ‹عصابات نيويورك» » Gangs of Newyork «. كان الشكل الآخر للعنف في المدينة الصناعية مرتبطا، في أوربا كما في الولاياتالمتحدة, بعالم الشغل ويتعلق بجماعات أو شرائح اجتماعية تحاول الحصول على امتيازات اجتماعية عبر الإضرابات والتظاهرات. كل العواصم الأوربية اهتزت بفعل هذه الحركات الاجتماعية التي ساهمت منذ أواسط القرن 19 وحتى الحرب العالمية الثانية في تطور الحقوق الاجتماعية للطبقة العاملة. أما في الولاياتالمتحدة فإن العنف كان شديد الارتباط بعالم الشغل حتى أنّ الدّولة الفيدرالية كوّنت لجانا خاصة للنظر في العلاقة بين الشغل والعنف ثلاث مرات في الثمانينات من القرن 19، وفي بداية القرن 20 وغداة الحرب العالمية الأولى. شكلت المدينة أيضا ركحا للعنف الإيدلوجي، ففي أوربا كما في الولاياتالمتحدة كان عنف الدولة ينفذ مسرحيا في المدينة (بيّن فوكو ذلك في كتابه «المراقبة والعقاب» الذي افتتحه بوصف مفصل للإعدام الرهيب لداميان). شكلت باريس أكثر من أي عاصمة أوربية أخرى مركز هذه المجابهات التي وسمت بميسمها تطور الحياة السياسية، كالمجابهة بين الملكيين والجمهوريين، العلمانيين والكاثوليكيين، الفاشيين والاشتراكيين، ناهيك عن الانتفاضات الشعبية التي صاحبت تقريبا كل التغييرات التي طالت المؤسسات من 1789 (الثورة الفرنسية) إلى ظهور الجمهورية الثالثة. أمّا في الولاياتالمتحدةالأمريكية فإن حركة الحقوق المدنية للسود، في ستينيات القرن الماضي، كانت إحدى اللحظات القوية لهذا العنف السياسي داخل المدينة. اعتبرت تمظهرات العنف هذه كلها كظواهر صعبة لكن انتقالية كعبور نحو الحداثة، ومنذورة للتلاشي مع انتصار التحديث السياسي والاقتصادي. لم يتغير راديكاليا فهم وطبيعة العنف والمدينة تبعا لذلك إلا مع نهاية العصر الصناعي, إذ ترك العنف السياسي الممجد للفعل مكانه لعنف مرتبط برد الفعل داخل المجتمعات التي صارت الحياة الحضرية داخلها مرادفة لانعدام الأمن وفوضى العلاقات الاجتماعية. لقد صارت الحرب بمثابة تدبير يومي لميكروفيزياء العنف، أي لأشكال عنف محلية وصغيرة قد تكون على مستوى الحي أو المدينة. لم تعد للنماذج القديمة للحفاظ على الأمن والنظام أدنى فعالية داخل الأحياء القصديرية، إذ من المستحيل هز استقرار شبكة فوضوية وبدون عمود فقري داخل هذه الأحياء، حيث لا توجد لا مرافق عمومية ولا مصالح إدارية للدولة ولا بنيات تحتية. تماما كما لو أن الأمر يتعلق ببساطة بالقضاء على تمرد في مدينة ذات هندسة تقليدية ومألوفة. إن ولوج هذه المناطق وفق إستراتيجية حربية من شأنه التسبب في هزيمة الفرق المتدخلة. لذا فمن الضروري بدل مجهود مضاعف لفهم مسرح الحرب الجديدة الذي بدأت تصدره الأحياء القصديرية أو العشوائيات. إن دينامية الصراعات بدأت تتغير لأنّ المدينة الميتروبول تحولت إلى فضاء داخله تنلعب مجموع العلاقة الجديدة بين الرأسمال والشغل، كما أنها أيضا الموقع المركزي للصراعات وعلاقات القوة التي تميز المرور المضطرب إلى مرحلة العولمة. لم يعد إبداع القيمة حكرا على المقاولة أو المؤسسة الصناعية, بل كائنا بفعالية منذ الآن داخل المدينة، وهو ما لا يعني تحولا بسيطا في الأمكنة والذوات ضمن تناقض لا يتغير، أي المرور من صراعات الطبقة العمالية ضد المعمل إلى صراعات الحشود ضدّ المدينة الميتروبول. تزداد علاقات القوة تعقيدا اليوم في الوقت نفسه الذي تعمل فيه الثروات المكوّنة وأشكال الاستغلال على إضفاء طابع الفعالية على قوة إنتاجية سياسية حيوية جديدة، بالمعنى الذي توضع فيه الحياة نفسها في محك الإنتاجية. لقد ناقش كل من مايكل هاردت وتوني نيغري الدلالة الراهنة للمدن الميتروبول بالنسبة للحشد la multitude مؤكدان على التغيير الأساس الذي طال دور المدينة بالنسبة لعلاقات الإنتاج. إن المدينة الميتروبول حسبهما ستكون مكان الإنتاج «السياسي الحيوي» لأنها تشكل فضاء المشترك، فضاء الناس الذين يعيشون جماعيا، يتقاسمون مصادر العيش، ويتواصلون ويتبادلون أيضا السلع كما الأفكار. يضمن الإنتاج السياسي الحيوي تبعا لذلك قاعدة لمنح الأفراد إمكانية ولوج الخزان المشترك الذي تحتويه المدينة الميتروبول والذي يتجلى عبر اللغات، الصور، الأفكار، المدركات الحسية، السنن، العادات والممارسات. لم تعد المدينة تفهم فقط باعتبارها إطار إعادة الإنتاج ووعاء الإنتاج الصناعي، بل إنها تقدم نفسها كقوة إنتاجية وما كان يمثله المصنع بالنسبة للطبقة العمالية الصناعية صارت المدينة الميتروبول تمثله بالنسبة للحشد. إنّ المدن المتروبول فضاءات للإنتاج واللقاء ولكنها أيضا فضاءات للصراع والتمرد. إنّ المرور من الصناعة على الاقتصاد الذهني/Cognitive يتضمن ايضا تحولا فضائيا لخطوط الصراع، ولكن أيضا تحولا أساسا لعلاقات الإنتاج. تستقل ذاتيا دورة الإنتاج السياسي الحيوي حسب هاردت ونيغري، لأن بنيات التعاون فيها تنبجس انطلاقا من صيرورة الإنتاج حتى أن كل محاولة ترمي لتثبيت هذه البنيات مسبقا تعوق الإنتاجية. ليست صفات الفضاء الحضري مفعولة عن علاقات الإنتاج، ولكنها تشكل جزءا لا يتجزأ من مصادر الإنتاجية. إنّ اضطلاع الحياة بمحك هذه الإنتاجية وتحويلها إلى مصدر للإنتاجية جزء من النزاعات الجديدة والمتحولة، ومن الحرب المستعرة. تعرف الكثير من المدن المتروبول انفجارات دائمة لأشكال متنوعة ومتوحشة من العنف يكون هدفها الأساس، أحيانا كثيرة، زرع التوحش والفوضى ومدن عملاقة ككراتشي الرئة الاقتصادية لباكستان بأقلياتها العرقية وطوائفها الدينية, حيث العنف اليومي بمثابة عقيدة جديدة اعتنقها الكثيرون خير دليل على ذلك ناهيك عن بغداد بأخبارها المألوفة المتعلقة بالسيارات المفخخة أو عنف كارتيلات المخدرات في ميكسيكو العاصمة...وغيرها. كلما بذلت الدول الكبرى مجهودات أكبر وصاغت استراتيجيات جديدة لمراقبة الفضاءات الحضرية، كلما انفجرت صراعات من أنواع وصيغ جديدة. إنّ أعمال العنف المتمثلة مثلا في السيارات المفخخة طرق لا أخلاقية للتعبير عن الغضب وعن الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي. لقد صارت مراكز المدن بالغة الهشاشة بفعل الاقتصاد المعولم وأصبح ممكنا تنفيذ عملية عنف إرهابي داخلها وقتل مجموعة من الأبرياء على اعتبار أن فضاءات المدينة المتروبول ساحة حرب مستباحة وهي العمليات التي قد يقوم بها مجموعة صغيرة من الأفراد أو مجرد ذئب منفرد، بالرغم أن هذا النمط من الأعمال قد تم استعماله منذ البداية من طرف حركات ذات قاعدة اجتماعية واسعة وقوية مثل حزب الله في لبنان وسنة 1995 كان يكفي شخصان اثنان لتدمير عمارة كبيرة في أوكلاهوماسيتي, هما العنصران اليمينيان تيموتي ماكفاي وألفريد موراح. أحيانا قد توظف المخابرات والأجهزة الأمنية هذا النوع من العمليات لخدمة أهداف محددة. لكن هذا النوع من العمليات الإرهابية مدان أخلاقيا أيا كانت طبيعة القضايا التي ينفذ من أجلها، لأنه مجرد عنف أعمى. هل تحل الحكامة الأمنية والحضرية إشكالية انبجاس العنف داخل المدن الميتروبول، علما أن الكثير من الكتابات حوله (العنف) تنظر إليه كما لو أنه ينبجس من اللامكان أو العدم. إن الحكامة ليست أكثر من مجموعة أفكار بصدد واقع يتم التخطيط له نظريا فقط دون معرفته. إنها مجموعة من التقنيات التي لا تفلت بالضرورة من علاقات القوة التي تحدد النمط العلائقي لاشتغال السلطة، وهي تبعا لذلك (الحكامة) تظل محكومة بالعلاقة غير المتكافئة بين المستغلين (بكسر الغين) والمستغلين (بفتح الغين)، وبالشروخ العميقة التي تفصل الفقراء عن الأغنياء، سكان الضواحي الفقيرة عن سكان المراكز الحضرية حيث يشتغل الرأسمال. إنّ فضاءات الضواحي أو الأحياء القصديرية حيث تتطور أنشطة اقتصادية على الهامش قد ضاعفت من انعدام المساواة في سوق الشغل، لأن فقدان العمل في القطاع الصناعي يقود في أغلب الأحيان إلى البطالة والهشاشة الاجتماعية بحيث تصير المدينة المكان الذي يتجذر فيه الفقر ويتفاقم. يكفي القول هنا بأن النسبة العامة للساكنة الفقيرة سنة 1990 في الولاياتالمتحدة معادلة تقريبا لتلك التي كانت سنة 1960. ذاك ما يسمى تعميق الهوة بين الشرائح الفقيرة والشرائح الغنية ويجب البحث عن سبب ذلك في التقسيم المتزايد للأنشطة الاقتصادية، فهناك الذين يحتلون المواقع والمناصب ذات القيمة المضافة العالية ويستفيدون من رواتب مرتفعة والذين يلعبون دور يد عاملة متأرجحة بين البطالة والأنشطة الهشة، ذات الأجور الزهيدة. يسكن الأولون مركز المدينة أو تلك الجزر السكنية المحمية والمليئة بشروط الرفاهية, بينما تصير الضواحي فضاءات لعمارات مكتظة بالمقصيين والمهمشين. تمتد المدينة الآن من المركز الإداري، الديني والتجاري الذي هو إرث القرون الماضية وحتى التجزئات السكنية البعيدة التي تنتشر على طول الأطوروت والطرق السريعة. تلعب السيارة باعتبارها وسيلة التنقل الأكثر استعمالا بين هذه الأحياء السكنية والشبكات الطرقية والأنفاق دورا هامّا وأساسيا، ليترك فضاء القرب المباشر مكانه لمجموعة من أشكال القرب الافتراضية التي يلزم الحسم فيها سلفا تفاديا للتيه.لقد أدى إخضاع الحركة لسلطة الآلات، وطول مساراتها، وطبيعة السرعات التي يفترضها التحرك إلى تدمير تلك التوازنات الهشة التي شكلت داخل المدن أوساطا وسياقات ملائمة للحياة. هذه المسافات البعيدة والفضاءات الشاسعة الفاصلة بين أمكنة السكن، وأمكنة العمل والإنتاج وأمكنة التسيير والإرادة...إلخ، انطرحت دائما باعتبارها شأنا متعلقا بالسلطة تبناها ويتبناها الفعلة داخل دوائرها أيا كانت قناعاتهم السياسية، ثم إن امتدادات المدينة المتروبول إلى أجزاء أخرى فرض بالضرورة امتدادات للسلطة داخل المدينة التي تتطلب هي الأخرى تهيئة حضرية وتصاميم مديرية على مقاسها، وهو ما أخفقت فيه السلطة في الكثير من الأحيان بالرغم من أن هذا الإخفاق لا يمكن ملاحظته في كل المدن المتروبول. إنه إخفاق الاستعادة والاستثمار الارستقراطيان للمدن، لأن المبدأ الارستقراطي لتسيير المدن مبدأ ناهض على المتعة، الذي يقسم، انطلاقا من مواقع سلطة صدامية أو انتخابية، إنتاج الثروة المحلية بشكل يسمح باقتطاع فائض منها عبره يتباهى مالكو السلطة بأنفسهم، يقدمون أنفسهم كفعلة حضريين ناجحين ويتم الاعتراف بهم من حيث هم كذلك. تنظم الشريحة أو الطبقة المالكة للسلطة، داخل الفضاء الغفل للمدينة الكبرى تمركز للاعتراف الاجتماعي يتمحور حولها كبؤرة ضوء، ليضيء المجتمع المحلي كله تبعا لذلك. إن مدينة معزولة نسبيا داخل محيطها الجغرافي بإمكانها أن تشتغل وقف هذه الطريقة اليوم، حتى ولو كان ثمن ذلك الاستحواذ على هذا المحيط الجغرافي الترابي وإدخاله حيز الركود الاقتصادي. هكذا يتم توزيع الاعتراف الاجتماعي حسب تقسيم هندسة المدينة وتوزيعها ترابيا وجغرافيا، بحيث تبدو كجزر سكانية معزولة بعضها عن البعض الآخر، جزر متروكة للفوضى والكوارث والأمراض الاجتماعية وأخرى محصنة مؤمنة ومتاحة لها مختلف إمكانيات الرفاه. لم يعد مبدأ التعاون هو الذي يحكم المدينة المتروبول من حيث أنه يخلق نوعا من المجاورة المكانية بين الكائنات التي يحتاج كل منها إلى الآخر من أجل العيش والإنتاج وإعادة الإنتاج داخل الهنا/الآن.