رأيت الأستاذ سالم يفوت مرتين، وها هو اليوم يمحي جسدا وروحا فبدأت أراه مرات متكررة. فهل من صوت ينبعث من كتبه لنعود إليها ونسمعه؟ إننا دائما نرغب في العودة إلى الكلمات لترشدنا عن شيء أو رجل. لكن سرعان ما ننتبه إلى أن الكلمات لا تمثل إلا نوعا من السكوت أكثر حذقا من الصمت. خصوصا و أن المرحوم لم يترك وراءه كتابا أو نصا قليل الكلمات يدل على حياته، وإني أكاد أجزم أن عرض الحياة على الورق من الممارسات الفظيعة التي يمكن أن يعانيها قاطنو أرض الفلسفة. في المرتين كان دائما ذا مظهر رزين. الأولى كان يريد دخول أحد فضاءات الأكل والشرب، وما أن تخطى الباب حتى تراجع وعاد من حيث جاء. والثانية قبل سنتين بمناسبة تكريم أقامته له كلية الآداب بالرباط. وكان فيها أيضا رزين المظهر. ويمكن تبرير ذلك بكون ليس هناك أعقد من الجلوس في الوسط، بين ثلة من أصدقائك وتلامذتك، وتبدأ في سماع رأيهم فيك و في كل ما كتبت، فيتبين لك أنك تسمع ركاما من الكلمات والذكريات المضجرة، خصوصا في حالة هذا اليساري القديم ( إذا كان من معنى لهذا التصنيف الفاقد للتأهيل)، والفيلسوف الفذ الذي بقي جالسا في الوسط ينصت إلى بوليفونيا أصدقائه. قلت في نفسي وأنا أتألم لقلة عدد الحاضرين للندوة التكريمية: أين طلبته ممن درسوا عليه، أو ممن ناقشهم أو أشرف عليهم؟ أين أساتذة شعبة الفلسفة؟ الأمور لا تجري على هذا النحو تماما: قلة في مقابل كثرة. فالناس ليس في رؤوسهم سوى فكرة واحدة: أنا أجدر من غيري. هذه مشكلة معروفة جدا ولا حل لها سوى تجاهلها وتركها تمرّ وتحدث في كل يوم وفي كل دقيقة. في البداية بدا لي سالم يفوت طويل الساقين، واسع الصدر. لكن نظره ليس على ما يرام. ورأيت إلى جانبه أصدقاء العمر وقد أرهقهم العمر والمرض. هذه هي جماعة «أقلام»، المجلة الأسطورية التي أسسها محمد عابد الجابري و محمد إبراهيم بوعلو، وكتب فيها باحثون شباب في الفلسفة: سالم يفوت، عبد السلام بعبد العالي، محمد سبيلا، محمد وقيدي...المجلة التي جعلت من العلم والماركسية جناحين في الريح القوية. في تلك الفترة كانت الحرية في خطر. بقيت أنظر إليه، وفجأة لمعت في ذهني حادثة رواها لي أحد أصدقائه، وتخص سفره إلى القاهرة بدعوة من سفير المغرب هناك، وهو مفكر وزميل للمرحوم، ولم يجد سالم من ينتظره في المطار فقضى ليلته هناك. كما رأيت فيه أيضا الرجل الذي تخلى عن أهم الواجبات الاجتماعية: معاشرة الأصدقاء. وهذا التخلي يحدث عندما تتوافق ظروف عدة. مرة أخرى وأنا أنظر إليه وأستمع للعروض التي ألقيت في تكريمه، صدمني عدم وجود مجلة فكرية ناطقة باسم الفلسفة المغربية، مكافئة للمجلات الفرنسية أو الأمريكية الناطقة باسم الفلسفة أو علم النفس أو علم الأنثروبولوجيا. تلك المجلة هي الوحيدة القادرة على إظهار السمات الأصلية للبحث الفلسفي في المغرب. وقد كان إلى جانب «يفوت» من لهم الطاقة للقيام بالمشروع: محمد نور الدين أفاية، محمد الشيخ، عبد الحي أزرقان... خصوصا بعد أن بدأت الفلسفة في المغرب تدخل إلى الدوائر الباردة. إنها مرحلة غروب الشمس. عمل يفوت طيلة مساره الفكري على إعادة الثقة بالفلسفة لجيل كامل. فهناك من ساعده على نشر كتبه في خارج المغرب، في دور نشر لها اعتبار قوي كدار «الطليعة» في بيروت. وبذلك كان يقنع الجميع بأن الفلسفة التي أصيبت بالمرض يمكن أن تعاود انطلاقها، بشرط أن تعكف على التسلح بسلاح المنهج. ومن يقرأ كتبه يستطيع الوصول إلى هذه الحقيقة الساطعة. فكتبه القليلة الورق، وارفة بالأفكار و بطرق المنهج العلمي. ولعل ذلك وراء الغنى الفكري الذي تتسم به أبحاثه، فقد حلق بعيدا عن القرون القريبة، وفي اختلاف عن المواضيع التي يتناولها الفلاسفة بالعادة: يكفي أنه درس الرياضيات وعلم الفلك في التراث العربي الإسلامي. أبحاثه غنية بخلاصات عن ماضي أمته وحضارته في حقول علمية معقدة. هنا كان يجتهد في إعطاء الامتياز للتاريخ العربي الإسلامي الذي يبدو لنا اليوم وكأنه ينتمي لعالم أسطوري. لقد كان التاريخ يثير اهتمامه أكثر من أي شيء آخر. عاش يفوت في أيامه الأخيرة قليل النظر. ذلك معناه أنه لم يكن يقود السيارة. ومعناه أنه لم يكن يغادر البيت كثيرا. معناه أيضا أنه عاش وحيدا في بيته مع مرضه. هذه نهاية حزينة لرجل عاش منعزلا.