يوم 11 شتنبر 1973، حضر الصحفي بيير كالفون، بصفته حينها مراسلا لجريدة «لوموند» في سانتياغو، الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال بينوشي ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور أليندي. بمناسبة مرور أربعين سنة على هذا الانقلاب الدموي، التقى باولو أ. بارانغوا الصحفي الفرنسي، وتمحور حوارهما حول الفترة الفاصلة بين انتخاب أليندي في 1970 وانقلاب بينوشي، وهو الحوار الذي نشرت مضمونه «لوموند» في عددها الصادر يوم 11 شتنبر الجاري. إنه شاهد استثنائي، أحد الصحفيين الأجانب القلائل الذين حضروا الانقلاب العسكري في الشيلي يوم 11 شتنبر 1973 وكتب عنه في «لوموند». بيير كالفون هو المراسل السابق لليومية في سانتياغو التي عاش بين جدرانها من 1967 إلى 1973. الرجل أستاذ ودبلوماسي وكاتب، يبلغ من العمر اليوم 83 سنة. لقد ظل جسرا لعبور الثقافة الأمريكية اللاتينية إلى فرنسا، بعد أن ساهم في انتشار الثقافة الفرنسية في ربوع شبه القارة. تمتزج لدى كالفون سخرية وهران، مسقط رأسه، مع كلمات إسبانية بمجرد إثارة ذكريات الشيلي. وهو يروي، في منزله الواقع قرب مسجد باريس الكبير، تفاصيل اليوم الذي انقلب خلاله العسكر على أليندي، اليوم الذي شهد قصف الطيران لقصر لامونيدا الرئاسي قبل أن ينتحر رئيس الدولة لتفادي الاستسلام للجنرال أوغستو بينوشي. صباح يوم 11 شتنبر 1973، توصل بيير كافون بمكالمة هاتفية من أحد الأصدقاء. «قال لي، يتذكر الصحفي، استمع للإذاعة. انتقلت بين المحطات الإذاعية متتبعا الأخبار، وفي الآن ذاته كنت أرغب في الذهاب إلى وسط المدينة، لكنه تم الإعلان عن حظر التجول لمدة 48 ساعة عقب قصف قصر لامونيدا. كان محل إقامتي خاضعا للمراقبة، وقد خضعت للتوقيف والتفتيش من قبل كتيبة عسكرية حين خرجت للشارع». ويواصل بيير كالفون: «كانت الأخبار المتوفرة طوال يومين هي بلاغات الطغمة العسكرية فقط، ويوم 13 شتنبر نشرت الصحافة صور الأشخاص المبحوث عنهم. وبينما كانت خطوط التيلكس مقطوعة، فإن الاتصالات التلفونية الداخلية ظلت متاحة. كنت أملي مراسلاتي الصحفية على صديق مدرس بمندوزا في الأرجنتين، ذلك أن الاتصالات الهاتفية الدولية كانت مقطوعة، لكنه كان من الممكن التواصل هاتفيا مع الجهة الأخرى من جبال الأنديز. أما أفضل مصادر أخباري، فكانت مشكلة من قساوسة-عمال في مدن الصفيح ومن مناضلين من أقصى اليسار استطاعوا التسلل إلى صفوف الجيش». ونظرا لإغلاق الحدود، يضيف كالفون «فإن أوائل الصحفيين الأجانب لم يلجوا البلاد إلا بعد مرور ثمانية أيام على الانقلاب، وقد سمح لهم بزيارة الملعب الوطني حيث حشد السجناء». بقي الصحفي الفرنسي منزويا في بيته، يبعث مقالاته بشكل أو بآخر إلى «لوموند»، لكن الخناق سيشتد عليه: «في يوم 18 شتنبر الذي يصادف العيد الوطني للشيلي، رن الجنود جرس الباب، ووجه أربعة من بينهم فوهات رشاشاتهم صوبي ?...?. فتشوا المنزل وحجزوا كتابا حول التكعيبية ظنوه يتعلق بكوبا. عثروا على آلة التسجيل فأنصتوا للشريط الذي كان يتضمن تسجيلا لأليندي، ولكن أيضا لميغل إنريكز، زعيم حركة اليسار الثوري. كان هذا التسجيل الأخير يعود إلى 15 يوما مضت بمناسبة ندوة صحفية، وقد قال ضمنه الزعيم اليساري: نعتبر أن الجنود هم الشعب ببذلة عسكرية، ومن واجبهم عدم الامتثال لأوامر الضباط الانقلابيين. تسلل الذهول إلى الجنود المداهمين لمنزلي، وسألوني إن كنت أتوفر على تسجيل لإرنستو تشي غيفارا المتوفى قبل ست سنوات!» لكن مفاجآت الصحفي لن تتوقف عند هذا الحد: «اقتادوني إلى شاحنة كانت ستتوجه إلى مقر المدرسة العسكرية. في الطريق، دندن أحد الجنود في أذني نشيد الأممية «الثوري» فامتلكني استغراب لا حدود له! لم تكن فعلته استفزازا لي، بل عربون تضامن معي. استنطقني ثلاثة ضباط كانوا يتوفرون على ملف ضخم خاص بي، وهو ما يؤكد أن مصالح الاستخبارات العسكرية كانت تقوم بعملها إبان حكم أليندي. طرحوا علي أسئلة متعلقة بمقالاتي، ومع ذلك، لم أشعر بالخوف حينها، بل شعرت بأنني منيع إلى أقصى درجة. شعور كان خاطئا بكل تأكيد.» بعدها، ستدق لحظة الاختيار بالنسبة لبيير كالفون: «كانت لدي أمور يلزمني القيام بها أهم من الكتابة. كنت أساعد يوميا أشخاصا مطاردين على اللجوء إلى السفارات للإفلات من حملات الإعدام العشوائية، وكنت أتوفر في هذا السياق على لائحة تضم أسماء الكثير من المنتخبين الشيوعيين. مقرات السفارات كانت خاضعة لمراقبة مشددة، مما كان يستلزم انتظار أوقات تغيير الحراس للتسلل إليها بسبل ماكرة وبهلوانية». في أكتوبر 1973، ستتوجه بعثة من المحامين الأوربيين إلى الشيلي وتعاين انتهاكات لا تعد ولا تحصى لحقوق الإنسان. يقول كالفون في هذا السياق: «نظمنا، بمعية الزملاء في وكالة الأنباء الإسبانية إيفي، وكالة الأنباء الفرنسية، نيو يورك تايمز والواشنطن بوست ندوة صحفية، وقد كانت علاقات التضامن بيننا كصحفيين جد متينة. خلال الندوة، صرح أحد المحامين بأن الأمر يتعلق بإبادة جماعية، ورغم أنني لم أكن موافقا تماما على وصفه، فقد استشهدت بتصريحه في مقالي، وفي باريس «إدارة تحرير الجريدة» تم انتقاء التوصيف هذا عنوانا للمقال. عقبها، تم استدعاء سفير فرنسا في الشيلي من طرف وزارة خارجية سانتياغو ومنحت 84 ساعة لمغادرة البلاد». لقد شكل فوز الاشتراكي سلفادور أليندي في رئاسيات 4 شتنبر 1970 «صدمة في البلاد»، يذكر بيير كالفون. ويقارن الصحفي بين «الوحدة الشعبية»، وهي التحالف الذي كان يضم الحزب الاشتراكي بقيادة أليندي والحزب الشيوعي وتنظيمات صغيرة أخرى، مع «الجبهة الشعبية» في فرنسا سنة 1936. «تتجسد خصوصية الوحدة الشعبية في محاولة تجريب مقاربة لم يكن ماركس قد توقعها: نقل بلد إلى مرحلة الاشتراكية عن طريق الدستور والبرلمان، يشرح محدثنا. وهذا هو السبب الذي جعل الشيلي يحظى باهتمام كبير من طرف فرنسا. لقد كانت الوحدة الشعبية متناغمة مع وحدة اليسار الفرنسية التي كانت قيد التأسيس». ليس غريبا إذن أن يقوم فرانسوا ميتران بزيارة إلى سانتياغو في نونبر 1972، كما أن «لوموند» عنونت أحد مقالاتها عنه ب «أليندي الفرنسي». اتسمت السنة الأولى من حكم الوحدة الشعبية ب «الابتهاج والازدهار»، إذ عرفت الأجور والإنتاج الارتفاع، كما أن «الناس كانوا سعداء»، يتذكر كالفون. بل إن بوادر التقارب بين الوحدة الشعبية والمسيحية الديمقراطية لاحت في الأفق، إذ طبق اليسار الإصلاح الزراعي المعتمد من طرف الحكومة السابقة، حكومة الرئيس المنتمي للوسط إدواردو فري، كما أن البرلمان صوت بالإجماع على تأميم مناجم النحاس في 1971. لكنه في يوم 8 يونيو 1971، يستطرد كالفون، ستقوم «كتيبة مجانين» باغتيال إدموندو بيريز زوجوفيك، وزير الداخلية السابق في حكومة فري. ومنذ اليوم ذاك، أصبحت معارضة الديمقراطية المسيحية لأليندي أكثر شراسة. وبموازاة هذا، تعرض البلد لتوتر آخر. أجل، لقد كان طريق الانتقال السلمي إلى الاشتراكية الذي اختاره أليندي مزعجا لهافانا ,لأنه كان يشكل إعادة نظر في سبيل الحرب الثورية المدعم من طرف نظام كوبا. فهل تولد عن هذا شعور فيدل كاسترو بتراجع زعامته على اليسار الأمريكي اللاتيني, إن زيارته للشيلي التي دامت طوال شهر في نونبر 1972 شكلت منعطفا: «لم يكف عن تقديم النصائح إلى درجة خدش عزة نفس الشيليين المختلفين جذريا عن الكوبيين، يؤكد كالفون. أصبحت صحافة المعارضة تبدي امتعاضها من الأمر، وبتزامن مع اختتام زيارة كاسترو، عرفت البلاد أول مظاهرة كبرى لربات البيوت وهن تحملن أواني الطبخ احتجاجا على ندرة المواد الغذائية. لقد عمق الرئيس الكوبي قطبية المجتمع، ذلك أن رفض كوبا كان منغرسا بعمق في الأخير. والحال أن أليندي كان يرفض بشدة بناء الاشتراكية على الطريقة الكوبية». هل تعرض رئيس الشيلي للابتزاز من طرف اليسار قبل أن يطلق عليه اليمين رصاصة الرحمة؟ «هو ذا السؤال الذي كان يستفز حينها!»، يقر كالفون، قبل أن يعترف: «كانت الوحدة الشعبية منقسمة داخليا بين تيار إصلاحي وآخر ثوري. فالحزب الشيوعي كان يرغب في تحصين المكاسب، بينما كان الحزب الاشتراكي وأقصى اليسار يريدان «التطور بدون تراض «. كان هناك بالفعل متحمسون إلى أقصى حد، ووحدها براعة أليندي كانت قادرة على الحفاظ على التحالف». ومن جانبه، لم يكن الاتحاد السوفييتي يساعد حكومة أليندي، «ذلك أن موسكو لم تكن ترغب، ومعها واشنطن، في قيام كوبا ثانية في أمريكا اللاتينية»، يوضح كالفون. في الانتخابات الجماعية المنظمة في أبريل 1971، أي بعد مرور ثلاثة أشهر على انتخاب أليندي، حصن اليسار موقعه بفضل حصوله على 49،75 % من الأصوات. وفي الانتخابات التشريعية لشهر مارس 1973، أي ستة شهور قبل الانقلاب العسكري، حصد اليسار نسبة محترمة من أصوات الناخبين تصل إلى 43،4%. لكن المجتمع كان منقسما إلى فريقين، ما جعل أليندي يفكر في استعادة زمام الأمور, عبر تنظيم استفتاء شعبي, للقطاعات الثلاثة للاقتصاد التشيلي: القطاع الخاص والعمومي والمختلط. «كان احتمال فشل أليندي في الاستفتاء واردا، لكن هذا كان سيسمح له بالانسحاب بشرف ، يعتقد كالفون. أظن أنه كان سيقدم استقالته في حال انهزامه في الاستفتاء». أحاط الرئيس الجنرال بينوشي، القائد العام للجيش، علما بفكرة تنظيم الاستفتاء، ليقنعه الأخير بتأجيل الإعلان عنه. وكان الأخير قد التحق بالانقلابيين مؤخرا، لكن أليندي كان يجهل الأمر. فهل ارتكب الرئيس خطأ عدم تقدير الخطر حق قدره؟ «لقد كان يثق في العسكريين، يذكرنا الصحفي، ومنحهم مناصب في حكومته مرتين، في 1972 و1973». وإذا كانت مجريات التاريخ ستبين خطأ أليندي المتمثل في منح ثقته للعسكريين، فإن أقلية منهم ستعارض الانقلاب العسكري، لكن هذا لن يمنع بينوشي من تنفيذ خطته. وستدوم الديكتاتورية في الشيلي طوال 17 سنة، مخلفة أكثر من ثلاثة آلاف قتيل ومفقود، والآلاف من ضحايا التعذيب والاعتقال والإبعاد إلى مناطق معزولة، بالإضافة إلى مئات الآلاف من المنفيين.