كان الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، قد قال جملة بليغة في كلمته الوداعية التأبينية أمام جثة الزعيم الإتحادي (الكاريزمي) المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، يوم تاسع يناير 1992، اعتبرها البعض (عن تجن) أنها كلام مناسبة جنائزية، حين قال إنه بفضل حنكة وشجاعة وفطنة رجل مثل بوعبيد، تم تجنيب المغرب سيناريوهات كارثية في مجال التدافع السياسي من أجل بناء الدولة الحديثة في المغرب، دولة المؤسسات والحريات والعدل والقانون (التي هي بمنطق الأشياء صيرورة تراكمية وليست وصفة منزلة نهائية بضربة ساحر واحدة). عادت إلي تفاصيل تلك الكلمة التأبينية الهامة للأستاذ اليوسفي، بقسمها الشهير، الذي يؤكد مواصلة ذات النهج السياسي الوطني للزعيم الراحل، عنوانا عن وعي سياسي لجزء من النخبة السياسية المغربية، التي تتحرك بمنطق رجال الدولة وبوازع وطني، وليس بحساب نخبوي فئوي،، عادت إلي، بعد التطورات العنيفة المؤلمة لواقع تدافع الشرعيات في بر مصر منذ إسقاط نظام حسني مبارك شعبيا. وفصل ساحتي رابعة العدوية ونهضة مصر، ليس سوى جزء من تطورات ذلك التدافع، الذي جعل السؤال كبيرا حول مدى إمكانية التعايش بين الفرقاء هناك، كونهم ينزعون للعنف بسهولة مقلقة. بل إنه مثير أكثر كيف أن زعامات الإخوان سمحت بالتسليح في ميادين مفروض أنها اعتصامات مدنية احتجاجية سلمية فيها نساء وأطفال وشيوخ، كما ظهر ذلك في العديد من الفضائيات العربية والعالمية وسقطت بطفولة سياسية مثيرة في خطة حصرها في رد فعل العنف المسلح، الذي ظل التهمة التي تلصق بها منذ تأسيسها، متناسية أن عقيدة الجيش والأمن، بما يخوله لها القانون في كل دول العالم، هي امتلاك أدوات العنف واستعمالها لمواجهة أي خطر مادي مسلح سياسي أو عقائدي يهدد السلامة العامة. ومن هنا تفهم لغة بيان مجلس الأمن الدولي «المتفهم» لخيار العنف لضبط الأمن من قبل المؤسسات المخولة قانونا بذلك في بر مصر. مغربيا، على اعتبار أهمية الدرس السياسي النضالي المغربي، علينا الإنتباه، كيف انه على قدر ما كانت ضريبة الإتحاديين في تغليب منطق الدولة ومنطق المصلحة الوطنية، باهظة في ميزان صيرورتهم السياسية، رغم ما كانوا يتوفرون عليه من قوة تأطير جماهيرية مؤثرة ووازنة (ما يجعل اللحظة السياسية الحزبية الإتحادية اليوم، هي لحظة مثالية للتأمل وإعادة بنينة الإستراتيجيات السياسية المتساوقة مع الواقع المغربي الجديد، «لأن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس» بذات لغة عبد الرحيم بوعبيد)، وخسروا الكثير من ريشهم للتحليق بطلاقة في سماء السياسة مجتمعيا، والريش إذا سقط يولد دوما بشكل جديد، ما دامت في جسد الطائر حياة.. فإن الذي ربح هو المغرب، في استقراره وأمنه وفي تحقيق تراكم سياسي تدبيري توافقي، وفي مجال الحريات والحقوق (سياسيا، إعلاميا، جمعويا، إدرايا، تجاريا، أسريا...). ونفس الروح الوطنية هي التي حكمت حتى أهم وأغلب الجماعات السياسية الإسلاموية المغربية، وهذا أمر لا بد من الإعتراف به (عدا التي ظلت مرتهنة للخارج إما وهابيا أو أفغانيا أو قاعديا أو إيرانيا، وبقيت معزولة جماهيريا). وما يحدث في مصر يقدم ما يكفي من الأدلة، على مسؤولية النخب السياسية في تدبير منطق التدافع السياسي دون أن يكون ثمنه على حساب المصلحة القومية العليا للجماعة البشرية التي اسمها «المصريون». مثلما يقدم الدليل، على أن الخطو في صيرورة التاريخ، وفي حياة المجتمعات، يستوجب تضحيات (أحيانا تكون ضد الذات)، من أجل بلوغ براح الأمان الذي يحقق التعايش تحت سقف يعلو ولا يعلى عليه، إسمه «الوطن». إن الأزمة الكامنة، بوضوح في بر مصر، هي أزمة نخب، وأزمة شرعيات. وهذا أمر طبيعي في كل دولة قومية حديثة العهد بالتأسيس كدولة مستقلة، بالمعنى الغرامشي الحديث للدولة، بمرجعيته الأروبية ذات الأسس المركزية لتأسيس الدولة. بل إنه حتى في أكثر اللحظات ديمقراطية (الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية بعد الإطاحة بمبارك)، لم تستطع النخبة السياسية الفائزة أن تتعامل بمنطق الدولة، الذي يقتضي مكرمة التعايش، لا منطق الغنيمة، في ممارستها للشأن العمومي، في علاقة مع المجتمع. بدليل، أنها ظلت تصدر عن الرؤية الإيديولوجية، الإنتخابوية، الدعوية، في ممارسة الفعل السياسي، التي ترى إلى المجتمع كقاصر يستوجب التقويم والتوجيه وإعادة التربية، بالشكل الذي يحول بنية الدولة من بنية تنظيمية في خدمة الجميع، إلى آلية للتحكم لرؤية سياسية منفردة ووحيدة. والحال أنه في كل الديمقراطيات الراسخة، المحققة لتراكم تاريخي في ممارسة العملية السياسية، فإن بنية الدولة هي آلية عمومية، في خدمة كل المجتمع بعائلاته السياسية والفكرية، بتعدد فئاته مصلحيا واقتصاديا وأمنيا، وأن العائلات السياسية تتنافس انتخابيا لصيانة تلك الآلية العمومية وتطويرها نحو الأحسن، عطاء وتنمية وأمنا وإنتاجا للثروة. وبسبب صراع الشرعيات هذا، تموقعت كل نخبة في خندقها الذي تراه الحق كله، وأصبحت اللغة الوحيدة السائدة هي لغة العنف بشكليه المادي والرمزي (في الإعلام، في الخطاب السياسي، في الساحات العامة). إن من الأعطاب المكبلة للنخب المصرية منذ ثورة محمد علي ومحاولاته تأسيس الدولة القومية في ضفاف النيل الشمالي، حتى مصبه بالبحر الأبيض المتوسط، هي سيادة منطقان مدمران للأسف، هما صراع الشرعية السياسية (من له حق الحكم وشرعيته وبأية مرجعية، هل هي مدنية حداثية أم دينية شمولية أوثوقراطية؟. هل ديمقراطية أم عسكرية شمولية؟). وكذا نزوع للتعالي (فرعوني) لا يقبل الإنصات لغير صوته الداخلي ولا يتحمل أي رؤية انتقادية خارجية. وهذا أمر يترجم ملمحا ثقافيا ثاويا، يغري بالتأمل السوسيولوجي، يجعل الذات المصرية (نخبا ومجتمع) تعيش صراعا عنيفا وغنيا، بين المدنية والبداوة، لعل مما ضاعف منه، الدور الذي لعبته الهجرة إلى بلدان الخليج وليبيا والعراق (وهي بالملايين) من تغيير مؤثر في البنية الذهنية السلوكية للفرد المصري، وأنتج رؤية للحياة، نزاعة صوب المحافظة والتطرف. بل أكثر من ذلك، جعل أثر الخارج على الداخل المصري كبيرا جدا، وهذا أكبر خطر مدمر قد يصيب دولة قومية، حديثة العهد بالتأسيس (حوالي مئة وخمسين سنة)، كون قرار نخبها السياسية، يكون مرتهنا لحسابات اصطفافات خارجية تستقوي بها ضد باقي منافسيها السياسيين داخليا (من هنا قوة أثر الحركة العالمية الإخوانية، وكذا قوة أثر الحسابات الخليجية خاصة القطرية والسعودية، وقوة النفوذ الأمريكي الإسرائيلي الحاسم). بالتالي، من التجني الكبير، الإصطفاف أو الحكم بالقطع على ما يجري في بر مصر من تطورات، على أنه صراع بين الحق والباطل. بل إنه صراع مع الذات، من أجل تعلم مكرمة التعايش بين المصالح والإنتصار للشرعية الدستورية المتوافق حولها، التي هي السقف المشترك بين الجميع، أي شرعية الدولة كدولة، بروحية الوطن والوطنية. وأن لا يشتط منطق التدافع بين النخب والمصالح إلى الحد الذي تكون نتيجته تدمير المعبد على من فيه. ومن هنا غنى اللحظة المصرية جديا، هذه الشهور، لأنها مشتل كبير لتجريب معنى ميلاد الدولة المدنية الديمقراطية لأول مرة في تاريخ البلد، وإذا ما تحقق منطق الدولة كنتيجة مرتجاة، في القادم من السنوات، فإن ما نعايشه بألم وحسرة ومرارة (إنسانيا ومبدئيا، والذي لا يمكن قبول نتائجه المأساوية الدموية، بأي حال من الأحوال، تبعا لما تفرضه أخلاق حقوق الإنسان ومبدأ الإنتصار للحق في الحياة والأمن والحق في التعبير عن الرأي والحق في المشاركة السياسية)، فإن ما نعايشه هذه الأيام، لن يكون سوى تفصيل صغير في ذاكرة الأيام، لأن الربح الأكبر للدولة الحديثة، المدنية الديمقراطية، تصنعه في الكثير من الأحيان دروس الحياة، التي بعضها فاتورته مؤلمة. تماما مثل الذي حدث في فرنسا بعد ثورتها السياسية، بعد عودة قوة الجيش وبروز نابليون، وتأسيس الدولة الفرنسية الجديدة (بلغت اليوم دستوريا وتنظيميا الجمهورية الخامسة). لأنه من يذكر تفاصيل الثورة الثانية بفاتورتها الرهيبة، أمام تحقق ميلاد الدولة البورجوازية المدنية الجديدة. فالواقع أصلف دوما من الفكرة والحلم. وما ينتجه الواقع المصري اليوم هو نتيجة منطقية لكيمياه الداخلية الخاصة. وواضح أن النخب هناك، في الدولة وفي المجتمع، لا تريد أن تغلب العقل في تفكيك تلك الكيمياء والوعي بها وليس الوقوع ضحية منطقها. إن الأساسي هو التعلم وليس عمى تكرار ذات الخطأ التاريخي (كما يقول بذلك المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي في كتابه «النقد المزدوج»)، المتمثل في عدم تغليب منطق التوافق والتعايش والإنتصار للمشترك الوطني. أي تغليب منطق التنسيب العقلاني للحقائق، الذي يعلمنا دوما في كل صيرورات الجماعات البشرية عبر التاريخ، أن الواقع دوما يكون أصلف من الأحلام والنظريات، وأن الماء لا يشق طريقه بالضرورة في خط مستقيم، بل لا بد له من تعرجات وانعطافات وأحيانا التواءات تراجع هنا وهناك، قبل أن يحققه حلمه الأبدي في معانقة أصله: «المحيطات».. مغربيا، بهذا المعنى، نحن في حاجة جدية، أن نقرأ اللحظة المصرية، بواجب المسافة العقلانية، الناقدة، المساعدة فعليا للأشقاء ببر مصر، أما الإصطفاف العاطفي الوجداني، بدون سقف وطني مستحضر لأسبقية المصلحة القومية المغربية العليا، فلن يكون أكثر من غبار إيديولوجيا، لا تنفع الناس ولا يمكث أثرها الطيب في الأرض. نحن جديا، في حاجة عالية للعقل في لحظات ألم وتدافع عاطفي وجداني مماثلة.