الكل ينادي باستقلال القضاء، ولا يوضح ما معنى استقلال القضاء؟ ولا عن أية هيئة أخرى يجب استقلاله؟ ولا من أية الشوائب عليه أن يستقل؟ القضاء يا سادة مستقل استقلال المغرب عن فرنسا، ومستقل استقلال قرارات رئيس الحكومة عن مستشاري الملك، بل مستقل استقلال الأحزاب الدينية عن الدعم الخليجي. القضاء في المغرب مستقل أيها الإخوة، بمفاهيمه الكونية، القانونية والمسطرية، ومستقل بحسب سلطات التقدير الذي يمنحها القانون بصفة عامة للسادة القضاة، ومستقل بعدد المؤسسات التي تسهر على تنفيذ وتطبيق الأحكام، ومستقل بنوع الدراسات التي يتبعها الطلبة القضاة في المعهد المتخصص، ومستقل بتلاوين المؤسسات التي تصدر عنها الأحكام، من الابتدائية إلى المجلس الأعلى، وأحكامه يفترض أن تكون واضحة وشفافة، يفترض أن تتماشى مع روح وفلسفة الجزاء، وقيمة العقاب وإخلاء السبيل، وكل القضاة النزهاء يعرفون ذلك، ويتعاملون به في جلسات التمحيص والبت القضائي، فما الذي ليس مستقلا تحديدا أيها السادة ؟ إنها الأحكام التي تعتقد أن فلسفة التقدير القانوني للجرم أو التهمة، لا يمكنها إلا أن تترجم إلى الأهواء، والتحيز للانتماء الأخلاقي، أو الاجتماعي، أو حتى السياسي في وقت سابق، الأحكام التي تأتي من العقلية الاتكالية على التهرب من المحاسبة، وتستعمل كل الوسائل الذميمة والمنحطة لتقويض الحكم العادل، العقلية التي تنتصر مزهوة بالتحايل على القانون، والتي تحتفل عندما ترمي بمظلومين إلى غياهب السجون، العقلية التي تترك الردهات المضيئة في المحاكم، وتبحث عن الردهات الموغلة في الظلمة، لترك المجتمع تحت نير الشك والريبة، وتجعل منه لقمة سائغة للانبطاح لكل ما يطلبه سماسرة التخلف، سماسرة الطمس القانوني، فالمحاكم في بعدها الاجتماعي هي صمام الأمان، والوجه المطمئن لكل فرد في المجتمع، وفي بعدها السياسي هي الضامنة للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وعندما تتسرب إليه هذه الفلول الفاسدة والمفسدة، يصبح الفرد مهتزا نفسيا، لا يثق في أية مؤسسة تابعة للدولة، وقد يتحول إلى مخرب لكل ما يقع أمامه ، كرد فعل طبيعي لما يحسه من إحباط، وما يفقده الثقة بالنفس، فيصبح منتجا لنفس سلوكيات المفسدين، ومنتجا لتعامله مع الأشخاص النافذين، مستجديا منهم ثقافة المحسوبية والزبونية والرشوة. انطلق في كل ما قلته، من ملاحظات شخصية لعينات من الناس المتربصين بلقاء قاض لديه ملف لهم في ردهة المحكمة، أو شخص متربص بمدير مصلحة ينتظر منه قضاء مصلحة ذاتية، إما له أو لأحد أقربائه، أو حتى متربص بوزير أو مستشار للملك، أو بالملك نفسه، وكل هؤلاء يحاولون القفز على كل المساطر المتبعة للوصول إلى الحق المطلوب، مما يعطل المؤسسات التي أنتجها المغاربة بنضالاتهم وتضحياتهم، فأصبحت مكاسب لا محيد عنها، وهذا التعطيل للمؤسسات، يدفع الثقافة المطلبية، إلى الركون للتسول والشحاتة، لأنها تقوي استبداد المتزلف له، وتضعف القانون، وتجعل الناس يستسلمون لواقع «باك صاحبي» و «دهن السير يسير». لقد سمعت خلال الشهر الفضيل الذي ودعناه، العديد من الاحتجاجات من الناس، تكرس ثقافة الاستجداء، تصوروا معي، أن مطلب لقاء المدير العام للشركة الوطنية، أصبح ضمن الاحتجاجات التي يطالب بها المهنيون، علما أن هناك مساطر إدارية وقانونية يجب اتباعها، إذا ما رفض هذا الرجل مشروعا ما من دون وجه حق؟؟ وأغلبهم يرغبون في ملاقاته ليمنحهم وعدا بتنفيذ ما يقدمونه، فقط لا غير، أليست هذه هي عبثية الوضع الاستقلالي لكل ميادين الحكم والتحكيم ؟؟ إننا نحتكم للشخص عوض احتكامنا للقانون، ونتشدق بمطلب استقلال الحكم والحاكم، كفانا هرطقة فالقضاء مستقل ونحن المستعبدون بفتح الباء، لأهوائنا.