و رغم كل ذلك، فلاشيء كان ينذر بالحرب، كما لاحظتُ ذلك خلال تحقيق قمت به في إسرائيل في نهاية 1965 و بداية 1966 . فالهدوء كان سائدا على جميع الحدود، و «معسكر السلام» الإسرائيلي يتقدم تحت ريح رخية منذ فشل الهجوم الذي شنته الدولة العبرية على ميناء السويس سنة 1956، بتواطؤ مع فرنسا و بريطانيا. حيث لم تتم الإطاحة بعبد الناصر و لم تستول إسرائيل على سيناء ،بل و بضغط من «أيزنهاور» اضطر الجيش اليهودي إلى الرجوع بدون أية غنيمة باستثناء السماح للسفن الإسرائيلية بعبور مضايق تيران الواقعة داخل المياه الإقليمية المصرية. هذا «النجاح» الرمزي الممنوح لبن غوريون لإنقاذ ماء وجهه كان هزيلا جدا، بما أن 2 بالمائة فقط من تجارة إسرائيل تتم عبر هذا الممر للوصول إلى ميناء إيلات المتواضع، بينما كانت حيفا هي المُتنفس الرئيسي للدولة اليهودية (و كان الوصول إليه يتطلب المرور عبر قناة السويس التي تتحكم فيها مصر و تمنع سفن إسرائيل من عبورها.م). و لهذا فإن عددا من المعلقين الإسرائيليين شجبوا التواطؤ العسكري الذي تم بالمناسبة بين قوتين غربيتين تُعتبران أمبرياليتان في العالم العربي. و خلال الحملة الانتخابية التي تابعتها في خريف 1965، لم يكن أي حزب سياسي، بما فيها حزب بن غوريون (رافي و هو حزب منشق عن الحزب العمالي) يشيد بحملة السويس. بل أكثر من هذا، فإن بعض التنظيمات اليسارية كانت تُسفه مفهوم « الحرب الوقائية» التي وُصفت بها حملة 1956 . كما أن الرئيس «أيزنهاور» استهجنها في إحدى فورات غضبه بقوله : «الحرب الوقائية اختُرعت من طرف هتلر، و بصراحة لن أنصت بشكل جدي لأي شخص يأتي ليحدثني عنها». و لم يحرم بعض المعلقين أنفسهم من التذكير بأن محكمة نورمبرغ، التي حاكمت النازيين، قد قررت أن «شن حرب عدوانية يشكل جريمة دولية عليا» فيما وصفها ميثاق الأممالمتحدة ب»جريمة حرب». و لا شك أنه لهذه الأسباب أعلنت إسرائيل في الخامس من يونيه 1967، في اللحظة نفسها التي بدأت فيها الاشتباكات، أنها كانت ضحية لعدوان مصري اضطرت إلى الرد عليه. كانت الأجواء هادئة بالفعل في إسرائيل سنتي 1965 و 1966 .فالسياسة الانتقامية (التي كثيرا ما تكون دموية) التي مارسها بن غوريون و أتباعه (الجنرالات دايان و شارون و بيريس ضمن آخرين) انتهت بانهزام حزبهم في الانتخابات التشريعية، و في المقابل تم انتخاب أحد قادة «معسكر السلام» الداعين إلى تنازلات مهمة للعرب و للفلسطينيين و هو «يوري أفنيري» مما شكل مفاجأة عامة. و شكل الحزب العمالي، بقيادة «ليفي أشكول» و هو رجل حوار و تسويات، و الأحزاب الدينية، المعتدلة في تلك الآونة، تحالفا وضع حدا للتوترات على الحدود. و قد تبنى «أبا إيبان» وزير الشؤون الخارجية رأيا واسع الانتشار حين صرح : «لقد عبر الناخبون بوضوح أنهم ضد المغامرات العسكرية و مع التوفيق بين المتطلبات الأمنية و متطلبات التعايش السلمي» كان يكفي التمشي في شارع «ديزنغوف» - المماثل ل «الشانزيليزيه» الباريسي- بتل أبيب، لملاحظة تقدم الانفراج. فكثافة الإقبال على المتاجر المليئة بمنتوجات العالم أكمل وبالبضائع الفاخرة، و على المطاعم و المقاهي التي لا تكاد تشغر مقاعدها، تشهد على بزوغ مجتمع استهلاكي في بلد كان التقشف هو الساري فيه منذ بدء وصول موجات المهاجرين عقب حرب 1948 . و في هذا الشارع، يوجد مطعم-حانة، باسم «كاليفورنيا» يرتاده بانتظام البوهيميون و المشاهير من كتاب و صحفيين و فنانين و سينمائيين و رجال سياسة و كذا بعض من يرغب في الانضمام إلى النخبة. كان مالك المطعم «أبي ناثان»، أحد الرجال الأكثر شعبية في البلاد، هو المشرف السيد على مؤسسته. كان هذا السفاردي المولود في إيران و المترعرع في الهند، متوسط القامة،ذا بنية رياضية، و سحنة سمراء، يتنقل مبتسما بين الزبناء مقترحا عليهم أكلات طيبة يهيئها بنفسه في بعض الأحيان، مُشيعا المرح من خلال حكيه لمستملحات مضحكة مشوبة أحيانا بمواقف سياسية. و من بين المرتادين المألوفين لل»كاليفورنيا» كان هناك رجلان لامعان: الأشكنازي «يوري أفنيري» ذو الأصل الألماني و السفاردي «شالوم كوهين» الذي تحدثت عنه في السابق، و الذي يرأس أسبوعية «هاعولام هازيه» (عالمنا هذا)، المكروه من المحافظين، الذين كانوا ينعتونه بالمنشور «البورنوغرافي». و الواقع أن صور النساء العاريات التي دأبت المجلة على نشرها كانت تستهدف القراء الشباب غير المسيسين، المؤمنين بأيديولوجيا و سياسات الإدارة الإسرائيلية. و قد ساندت مجلة «هاعولام هازيه» الشعب الجزائري في كفاحه من أجل الاستقلال، و عارضت منذ البداية حملة السويس سنة 1956،و شجبت تواطؤ الحكومة الإسرائيلية مع «الامبريالية» و كذا تحالفها مع جنوب إفريقيا العنصرية، كما كانت تدعو إلى انضمام إسرائيل لحركة عدم الانحياز العالمثالثية،و رافعت لصالح التنازلات التي من شأنها تحقيق السلام الإسرائيلي-العربي، و دعت إلى المساواة في الحقوق بين اليهود الشرقيين و الفلسطينيين الإسرائيليين من جهة و بين المواطنين الإسرائيليين الآخرين. و رغم هذه المواقف قليلة الأورثودوكسية، فقد تجسد نجاح المجلة بانتخاب «يوري أفنيري» للكنيست الإسرائيلي في خريف 1966.و منذ ذلك الحين لم يتوقف عن تحذير الحكومة من «الاستفزازات» التي تقوم بها اتجاه سوريا، التي ?كما قال- ستقود حتما إلى الحرب. لم يكن ل» أبي ناثان» سوى القليل من الأمور المشتركة مع مالكي «هاعولام هازيه».فلأنه كان واحدا من أوائل المتطوعين في سلاح الجو البريطاني، خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كان يتحدث بلغة انجليزية متميزة أو بالعبرية مع لكنة انجليزية قوية. كان شغفه الوحيد هو السلام، لم يكن ينتمي لأي حزب، و لم يكن يستلهم أي أيديولوجيا خاصة. و كانت مثاليته المطلقة تستدعي بعض المشاكسات اللطيفة من طرف زبنائه، الذين لم يحفلوا بجديته إلا في اليوم الذي استقل فيه وحيدا طائرة صغيرة و توجه نحو مصر «لكي يمد يد السلام إلى جمال عبد الناصر». و عاد إلى إسرائيل كبطل، بعد أن تم استقباله بشكل ودي من طرف محافظ مدينة بورسعيد، فيما اعتذر الرئيس المصري عن استقباله. و بذلك تغيرت صورة الريس، الذي تقدمه الدعاية الرسمية ك»هتلر جديد»، بشكل نسبي، على الأقل في صفوف جزء من الرأي العام، بينما تصدرت الرحلة الجوية الفريدة ل»أبي ناثان» الصحف العالمية. و بعد ذلك أخذت مبادراته النضالية أشكال مُختلفة. فقد تخلى عن مطعمه و اقتنى باخرة، أرساها خارج المياه الإقليمية - كي يُفلت من أي رقابة- مُقابل تل أبيب و أنشأ عليها جهاز إرسال إذاعي سماه «صوت السلام»، ظل لسنوات عديدة يبث أخبارا و حوارات و تعاليق بهدف مكافحة الدعاية الرسمية التي كان يرى أنها لا تتماشى مع السعي للتسوية السلمية. و بسبب إصرار المُعلنين على حرمان إذاعته من أي إشهار، أعلن إفلاسه و أغرق باخرته الإذاعية في مشهد مؤثر، و واصل معركته بأشكال أخرى. و هكذا أثار فضيحة بقيادته لحملة ضد التعاون الوثيق بين إسرائيل و نظام الأبارتايد لجنوب إفريقيا العنصرية. كما قام بحملة مُوجهة للأطفال عن طريق إهدائهم لُعبا متنوعة مقابل تدميرهم للأسلحة المصغرة التي يملكونها. و خرق القانون بزيارة و مقابلة ياسر عرفات، «أكبر الإرهابيين» مرتين، و أدى ثمن شجاعته تلك في السجن عقابا له. و نتيجة لقاءاتي المتكررة معه بمر السنين، لاحظت يأسه المتصاعد في مواجهة تطور الأحداث، خاصة بعد حرب الأيام الستة.لكنه ظل متفائلا، كعادته، على المدى الطويل. و توفي بئيسا سنة 2008. و قد كان مئات الأشخاص الذين شيعوا جنازته و بيانات التأبين التي نشرتها الصحف، وأجمعت على الإشادة به و كذا الشهادات التي قدمها المسؤولون السياسيون في حقه بمن فيهم «شيمون بيريس» صاحب القانون الذي يحظر أي اتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية و الذي تسبب في عقوبات سجنية في حقه، كل هذا كان دليلا على التقدير و الاحترام الذي كان يُكنه له الرأي العام. و قبيل وفاته بفترة وجيزة رد على أحد الصحفيين الذي سأله عما يحب أن يُكتب على شاهدة قبره أجاب: «لقد حاولتُ». لم تكن الشعبية التي حظي بها «أبي ناثان» في الستينات، غريبة على التحول الذي عرفه المجتمع الإسرائيلي حينها. فدولة إسرائيل كانت منخرطة في مسلسل تبرجُز : إذ حلت صورة الرجل بالبدلة الكاملة الأنيقة، الحريص على مضاعفة مداخيله و رفاه أسرته، محل الصورة التي كانت الدعاية النمطية ترسمها للإنسان الإسرائيلي، صورة الفلاح القوي و الشاب الرياضي الأشقر، مُمسكا محراثه بيد و بالأخرى بندقية. لقد تركت مرحلة الرواد الغُزاة مكانها لمرحلة الصناعيين و التجار و المصرفيين. حل الرفاه محل عوز «العصر البطولي» لما بعد «حرب الاستقلال». لقد كف السلام عن أن يكون مثالا لكي يصبح ضرورة. و خلال خمسة عشر عاما، تضاعف عدد السيارات الخصوصية، و أصبح نصف الأُسر يملك ثلاجات، و تسع من كل عشر منها تملك مذياعا، و نبتت أحياء راقية و مساكن رفيعة و ناطحات سحاب مثل الفطر، و حتى الكيبوتزات التي عاودتُ زيارتها، و التي كانت في الماضي محرابا للتقشف، ازدانت بفيلات جميلة مكيفة، كما أصبحت تضم قاعات مطالعة عصرية و قاعات غناء و حانات و مقاصف و معاهد تجميل و مسابح رائعة. و رغم ذلك كله، فإن العديد من الكيبوتزيين غادروا هذه التجمعات التشاركية للالتحاق بالمدن، حيث مُتع الفردانية و طُعم المكاسب. تضاعف معدل النمو و الناتج الوطني ثلاث مرات منذ 1950، كما ارتفعت مساحة الأراضي المسقية بنسبة 360 بالمائة، بينما كان المدخول الوطني للفرد يضع إسرائيل في مصاف البلدان المتطورة مثل هولندا و فنلندا أو النمسا. و بفضل الإقبال الهائل للرساميل الأجنبية -400 إلى 500 مليون دولار سنويا منذ 1949 ? خصص الإسرائيليون 96 بالمائة في المتوسط من مداخيلهم للنفقات الجارية، مما جعل الوزير الأول «ليفي أشكول» يقول لمواطنيه : «إنكم تعيشون في جنة السفهاء، جنة الاستهلاك اللامحدود». و بفضل موجة الخوصصة و الامتيازات الممنوحة للمستثمرين، أصبح البلد الذي كان يتبجح بكونه من أكثر البلدان مساواة على وجه الأرض، يضم سنة 1965 أكثر من ألفي مليونير جديد. و مثل سراب، ستختفي فجأة و بقسوة هذه «الجنة». ففي خضم النشوة العامة، نادرون هم الاقتصاديون الذين رأوا نُذُر الانكماش العميق القادم الذي سيضرب البلاد بقوة، قبل بضعة شهور على حرب الأيام الستة، و الذي سيساهم في اندلاعها. كان الانكماش مع ذلك متوقعا، فالتعويضات الألمانية التي كانت تُدفع لدولة إسرائيل و لضحايا النازية ? حوالي 800 مليون دولار سنويا- كانت ستتوقف مع نهاية سنة 1966 ، و المنح و المساعدات القادمة من الخارج، خاصة من المُحسنين اليهود الأمريكيين، تقلصت بشكل ملحوظ. فقد أشار تقرير، قدم نتائج تحقيق جرى بالولاياتالمتحدة، و تم إرساله إلى «ليفي أشكول»، إلى أن الكثير من اليهود الأمريكيين «يتملصون من هويتهم اليهودية» و يندمجون من خلال زيجات مختلطة في مجتمعهم و يُظهرون القليل مكن التعاطف مع الصهيونية، بل إن البعض منهم يحتقر إسرائيل بسبب «تبعيتها للإحسان الدولي». انهار معدل النمو السنوي،منزلقا من 12 بالمائة إلى 0 بالمائة. و هبطت الهجرة إلى أدنى مستوياتها، فيما قفزت الهجرة المضادة، خاصة إلى الولاياتالمتحدة، قفزة غير مسبوقة، حيث غادر حوالي مائة ألف إسرائيلي البلاد في سنة 1966 وحدها، بسبب البطالة و الفقر الكاسحين. لقد حفرت الطفرة الاقتصادية ثغرة عميقة بين الأغنياء و الفقراء. و علاوة على هذا، كان ينتاب اليهود الإسرائيليين شعور بأنهم مهددون من الداخل: فالأقلية العربية، حوالي 300 ألف شخص، تتمتع بمعدل نمو دمغرافي أعلى من معدل المليونين و 300 ألف يهودي، و كان هؤلاء الأخيرون يخشون أن يتحولوا إلى أقلية في دولة كابدوا الكثير كي يحصلوا عليها. و رغم كل ذلك، لم تفقد الفكاهة حقوقها، فقد انتشرت في البلاد نكتة تقول أن لافتة في مطار اللد توصي آخر مهاجر بألا ينسى إطفاء الأنوار قبل رحيله... و من جهته، كان لمدير بنك إسرائيل ، الدكتور «هوروفيتز»، همومه الملموسة و الفورية، فقد صرح لي مُعربا عن تخوفه من «كارثة» اقتصادية و مالية، بأنه أوصى من دون جدوى، بتقليص النفقات العسكرية الهائلة في نظره، بما أنها كانت الأكثر ارتفاعا نسبيا من نظيراتها في مصر و الولاياتالمتحدة و الاتحاد السوفياتي و بريطانيا و فرنسا. و مع ذلك فإن هيأة الأركان العامة رفضت أي تخفيض مهما صغُر لميزانيتها، و كانت تُعد - حسب الأرشيفات التي ستُنشر بعد ذلك ? مشاريع تدخل عسكري في البلدان المجاورة، سوريا و الأردن و مصر. و حسب المؤرخ الإسرائيلي «مايكل أورين»، فإن مخطط «فوكوس»، الذي يصف بدقة طريقة تدمير الطيران المصري على الأرض، قد وُضع منذ سنة 1963. و مما لا شك فيه أن المسؤولين عن أمن أي بلاد، يضعون جميع التصورات في أذهانهم، لكن في حالتنا هذه، فإن جميع المخططات الموضوعة كانت ذات طبيعة هجومية، تخطط لاحتلال الضفة الغربية التي كانت منذ 1949 جزءا من المملكة الهاشمية الأردنية، و لاحتلال سيناء المصرية حتى ضفة قناة السويس، و لاحتلال العاصمة السورية نفسها إذا تطلب الأمر ذلك. كانت هذه التحضيرات ، مبدئيا، تهدف إلى وضع حد لعمليات «فتح» الفدائية، التي بالرغم من عداء الحكومات العربية شبه الكامل، قد نجحت ، بفضل التواطؤ السوري، في القيام بحوالي مائة عملية أو محاولة خلال سنة 1966 . و قد كانت الخسائر و الضحايا -11 قتيلا إسرائيليا- متواضعة نسبيا و لكنها مع ذلك لم تكن لتُحتمل من طرف الرأي العام الإسرائلي و لا من طرف المسؤولين العسكريين المُصممين على إنهاء هذا الكابوس. و هكذا، و في تجاوز لتعليمات الوزير الأول بالحذر،قامت وحدة إسرائيلية في نوفمبر 1966 بشن غارة انتقامية ضد قرية السموع الأردنية، مدمرة المستشفى و المدرسة و مكتب البريد و مقهى و مئات المنازل، دون منح السكان الوقت الكافي لجمع متاعهم الشخصي. و كانت العملية موجهة كإنذار لسوريا، المسؤولة الحقيقية عن تسلل المخربين الفلسطينيين، و ليس للأردن، الصديقة (السرية) لإسرائيل. و في غضبته على المسؤولين عن العملية قال «ليفي أشكول» بالعبرية : «كنا ننوي تأديب الحماة، لكننا بدل ذلك أمطرنا العروس بالضربات...» و بذلك بدأت مقدمات المواجهة بين الوزير الأول و هيأة الأركان في البزوغ. لم يكن اتخاذ قرار شن الحرب الوقائية يسيرا. فقد أخذت المواجهة بين هيأة الأركان العامة المصممة على المبادرة بالحرب و بين حكومة «أشكول» المؤيدة لحل سلمي، أشكالا مختلفة: ضغوطات، ابتزازات، شتائم، تحديات و تهديدات بالانقلاب العسكري. هذه المعركة الغريبة كانت غير مسبوقة في تاريخ الدولة الفتية، فقد كانت المرة الأولى التي يحاول فيها الجيش فرض قرار سياسي على السلطة المدنية، و المرة الأولى التي يتصرف فيها الجنرالات كطائفة. فمنذ الشهور الأولى لسنة 1967 ، شرع الجنرال «إسحق رابين» رئيس هيأة الأركان، المدعوم من طرف زملائه، في التحرش بالحكومة كي يحصل على الإذن بشن هجوم واسع النطاق ضد سوريا، بل الإطاحة بالحكومة البعثية في دمشق، التي كانت تُعتبر المسؤولة الوحيدة عن الأحداث الحدودية. بيد أن «ليفي أشكول» قاوم ذلك معتبرا أن من شأن مبادرة مماثلة أن تثير غضب الاتحاد السوفياتي، صديق سوريا و حاميها، و أن تُعبئ العالم العربي، و على رأسه مصر، ضد إسرائيل. و أضاف الوزير الأول بأن حوادث الحدود لا تبرر، في كافة الأحوال، رد فعل بمثل هذه القوة ، بما أنها لا تهدد وجود إسرائيل. وافق الجنرالات على مضض، إلا أنهم اعتبروا أن التدابير الاستفزازية التي اتخذها عبد الناصر في النصف الثاني من شهر ماي لا يمكن أن تظل بدون رد قاس، و إلا فإن قوة الردع الإسرائيلية ستفقد مصداقيتها بشكل خطير. و اقترحوا شن هجوم يقضي على الجيش المصري و ربما على النظام الناصري نفسه. و لم تكن مبرراتهم ظاهريا تنقصها الحصافة: فحشد القوات المصرية على تخوم سيناء، و إغلاق مضايق تيران أمام السفن الإسرائيلية، كما أن ميثاق الدفاع المشترك المبرم بين عبد الناصر و سوريا، و الذي امتد إلى الأردن فيما بعد، و التضامن (الشفوي) المعبر عنه من طرف العديد من الدول العربية «الشقيقة»، تشكل تصعيدا قد يقود العالم العربي إلى البدء بالهجوم. أما الجنرال «ياريف»، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، فقد كان يبعث يوميا بتقارير مثيرة للمخاوف: تحليق طائرات مصرية فوق المنشآت النووية لديمونا مقدمة لقصفها، تزايد عدد القوات المصرية على الحدود، إعلان حالة الاستنفار لدى الجيش المصري ، تحديد تاريخ بدء الهجوم، تزويد القوات المصرية بأسلحة كيماوية و مُشعة. كانت هذه التقارير تصور الكارثة و هي تطرق الباب... و كرجال سياسة، ظل «ليفي أشكول» و وزراؤه حذرين متشككين في مصداقية معلومات يزودهم بها أشخاص يعرفون حميتهم الحربية. و لم يكونوا مخطئين، إذ تبين فيما بعد أنهم كانوا موضوع حملة تعتيم كبرى. و قد أكد الجنرال رابين نفسه ذلك في حوار خصصه لي في فبراير 1968 ، بعد ثمانية شهور على الحرب، و هو ما أحدث دويا كبيرا في إسرائيل و في الخارج. ففي هذا الحوار، المنشور على الصفحة الأولى من «لوموند» ، قال رئيس هيأة الأركان الإسرائيلية بصراحة واضحة : «لا أعتقد أن عبد الناصر كان يريد الحرب.فالوحدتان اللتين أرسلهما إلى سيناء، في 14 ماي، لم تكن قادرة على شن هجوم ضد إسرائيل.كان يعرف ذلك و نحن كنا نعرفه أيضا...كان يخدع». و الواقع أن مدافع الدبابات المصرية كانت مغروسة في الرمل و ليس في وضع القصف، و هو وضع كلاسيكي لتبليغ العدو رسالة بعدم وجود أي نوايا حربية لديها. و مع تبريره للحرب الوقائية لإسرائيل، أكد رابين من جهة أخرى بأن عبد الناصر لم يكن ينوي إغلاق مضايق تيران. كان يعلم أن إسرائيل ستعتبر هذا الإغلاق عملا موجبا للحرب، لكنه اعتقد أن من واجبه القيام به بعد أن قام «يو ثانت» بسحب جميع قوات الأممالمتحدة من سيناء، بما فيها تلك المرابطة على مدخل المضيق. و قد أكد هذا التحليل عدة مسؤولين إسرائيليين كبار بعد الحرب. فقبل رابين، صرح الوزير الأول «ليفي أشكول» في أكتوبر 1967 لصحيفة «يديعوت أحرونوت»: «كان الانتشار العسكري المصري في سيناء انتشارا دفاعيا». و اعترف جنرالات و سياسيون آخرون على مر السنين بأن عملية تعتيم قد تمت من أجل تبرير الحرب «الوقائية». و هكذا صرح مثلا «مناحيم بيغن»، زعيم اليمين القومي سنة 1982 بكل وضوح : «حشود القوات المصرية لم تكن تدل على أن عبد الناصر يريد الحرب... لنكن نُزهاء مع أنفسنا، فنحن الذين قررنا أخذ المبادرة في الاشتباكات». و قد كانت عدة أسباب تُحفز «صقور» القيادة العليا الإسرائيلية: كانوا يريدون الثأر لإخفاق حملة سيناء سنة 1956 ،بعد أن اضطر الجيش اليهودي إلى التراجع رغم نصره العسكري، و اغتنام الخطوات الخاطئة لعبد الناصر من أجل تدمير قواته المسلحة و الإطاحة بنظامه، خاصة و أن الزعيم الأول للعالم العربي كان يُعتبر العدو الأكثر خطورة للدولة العبرية. و رغم كون حرية الملاحة في المضايق ليست بالأمر الحيوي، كما كانت تزعم الحكومة الإسرائيلية، فقد كان من الضروري رفع تحدي الريس. في ظل هذه الظروف، تم رفض الاقتراح شبه الرسمي لمصر بأن تسحب قواتها من سيناء ? و بذلك تعيد حرية الملاحة في مضايق تيران ? مقابل التزام إسرائيلي بعدم مهاجمة سوريا. فقد كان العسكريون مُصَممين على المواجهة. الحلقة المقبلة : حين خيمت ظلال الانقلاب العسكري على إسرائيل