تنقسمُ المصادر القديمة وكتب السّير والأخبار، في مسْألة ترتيب مختلف زوْجات الرّسول: فهناك من يرتّبهنّ بحسب تسلْسلهنّ في الارتباط بالرّسول، بغضّ النظر عمّا إذا هو من اختار الارتباط بهنّ أمْ لا، كما نجد عند البلاذريّ في «أنساب الأشراف»، على سبيل المثال، وهناكَ من يتّبع تسلسل النّساء اللواتي اختارهنّ بنفسه، ثم يعمدُ في النهاية إلى إفْراد باب من قبيل «عدد النّسوة اللائي وهبْن أنفسهنّ»، كما هو الحال عند ابن إسحاق في «سيرته»، أو عنْد ابن سعد في «طبقاته»، حيث يخصّص بابا يسمّيه «ذكْر من خُطب النبيّ (ص) من النساء فلم يتمّ نكاحه، ومن وهبتْ نفسها من النساء لرسول الله»، بعد أنْ يخصّص بابا آخر لستّ نساء سمّاه «ذكر من تزوّج رسول الله من النساء فلم يجمعهنّ، ومن فارق منهنّ، وسبب مفارقته إيّاهنّ». وعوض هذا التّرْتيب الثاني، المبنيّ على «طبيعة» و»ظروف» زواج الرّسول، آثرْتُ أنْ أتّبع التسلسل الزّمنيّ، أوّلاً لارتباط زيجات الرّسول بسياقات تاريخيّة وسياسيّة وقَبَليَة متتالية، وثانيا للتفاعُل اللحظيّ والآني لباقي الزوجات مع «الوافدة الجديدة» سلْبا أو إيجابا. يرتبط كلّ هذا الكلام بالزّوْجة الرّابعة، غزيّة بنت دُودان بن عوف بن عمرو، المعروفة بأمّ شريك، والتي كانتْ واحدة من النساء اللواتي وهبْنَ أنفسهنّ للنبيّ. وكلّ ما نجده مبْثوثا في التراث هو أنّ غزيّة هذه كانتْ، كانتْ قبل الرّسول عند أبي العكر، واسمه مسلم بن سمي بن الحارث الأزدي، من بني ميْدعان. وهو حليف بني عامر بن لؤي، فولدتْ له شريك بن أبي العكر، فكنيتْ به. وأنها كانت تدخل على النساء بمكة، فتدعوهنّ إلى الإسلام. وبعد طلاقها على وجْه الخصوص، تفرّغت لدعوة النساء خاصّة للدخول في الدين الجديد. وإذا كانت بعض الروايات، مثل رواية البلاذري، تقرّ بأنّ الرسول قبل بها واتخذها زوجة له، فإن البعض الآخر، يعتبر أنّ غزيّة وهبت نفسها للرسول، غير أنه لم يتزوّجها، ولم يردّها. لتردّد كان عنده من الأنصاريات. وفي هذا الشأن يذكر الحاكم في «المستدرك عن قتادة: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إني أحبّ أنْ أتزوّج في الأنصار، ثم إنّي أكره غيرتهنّ، قال: فلم يدخل بها». فلإعْجابها بالدين الجديد، إذنْ، والذي دعتْ النساء إلى الدخول فيه، وإعجابها بصاحب الدّعوة «عرضت نفسها على النبيّ، وكانت امرأة جميلة فقبلها» فقالتْ عائشة: «ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير»، قالت أمّ شريك: «فأنا تلك»(...) فقال «وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا (الأحزاب، 50). فلما نزلتْ هذه الآية قالت عائشة :»إنّ الله يسارع لك في هواك»، (انظر: أسباب النزول، للسيوطي، والطبقات لابن سعد، والكشاف للزمخشري). وبرغْم الآية والوحْي النازل، قالتْ عائشة: «كنتُ أغار على اللاتي وهبْن أنفسهنّ للنبيّ وأقول أتهبُ المرأة نفسها للرّجل؟، فلما أنْزل الله ترجي من تشاء منهنّ وتأوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك(سورة الأحزاب، الآية 51) . وعن أبى جعفر عليه السلام قال: «جاءتْ امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلعم، فدخلتْ عليه وهو في منزل حفصة، والمرأة متلبّسة متمشّطة، فدخلتْ على رسول الله صلعم، فقالت: «يا رسول الله إنّ المرأة لا تخْطب الزّوج، وأنا امرأة أيّم لا زوْج لي منذ دهر ولا ولد، فهلْ لك من حاجة ؟ فإنْ تكُ فقد وهبتُ نفسي لك أن قبلتني»، فقال لها رسول الله صلعم: «خيْرا»، ودعا لها». وكانت هذه الدعوة جزْءا لا يتجزّأ من القدسيّ الذي يرتبط بالدنيوي، في علاقة الرسول بنسائه: علاقات الزواج والتزويج تتمّ دائما بمباركة من السماء. من هنا، كما تورد كتب الأخبار والسير، كان الرسول دائما ما يردّد العبارة التالية: «ما تزوّجت شيئاً من نسائي ولا زوّجت شيئاً من بناتي إلا بوحْي جاءني به جبريل عن ربّي عز وجلّ. («عيون الأثر في المغازي والسير» لابن سيد الناس، باب أزواجه صلعم). غدا: حفصة بنت عمر بن الخطاب، الوجه الآخر لعائشة بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو. و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،. في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس. و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان. لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير. القدس، في فندق الملك داوود، يوم الجمعة 19 نوفمبر 1965 : نزلتُ إلى إسرائيل في ختام إقامة مُضنية في العربية السعودية. فالمضايقات الدينية في وطن الوهابية، و نفاق النخب الحاكمة، يصعُب تحملهما بالنسبة لمسافر عابر مثلي. فالمشروبات الكحولية ممنوعة بشكل صارم، لكنها تصب فائضة في القصور و الإقامات الفخمة الأخرى، و النساء، كل النساء مُجللات بالسواد من الرأس إلى القدمين، يتم استبعادهن من الحفلات المخصصة خصيصا للرجال. و هن ممنوعات من ممارسة معظم المهن ممنوعات من قيادة السيارات، و تتم معاملتهن كقاصرات فهن إما تحت وصاية آبائهن أو أزواجهن أو أشقائهن. بيد أنه في الحفلات الخاصة التي يُدعى لها بعض المحظوظين النادرين من غير السعوديين، فإن سيدات المجتمع ترتدين فساتين كبار المصممين، و هن متزينات متعطرات. و قد كانت هذه السيدات، و أغلبهن يحملن شهادات من الجامعات السعودية ، البريطانية أو الأمريكية، تُعبرن عن إحباطهن بكلمات مغلفة. بيد أن الحياء يغيض عند عتبة الباب في أغلب المساكن، في بلد يُعتبر فيه مستوى استهلاك أشرطة الفيديو البورنوغرافية من أعلى المستويات في العالم أجمع. و هو ما لا يحول دون الميليشيات (المطاوعة) المكلفة بالحفاظ على الآداب الحميدة (جماعة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.م) من التجول في دوريات و عصيهم الغليظة في أيديهم، لإجبار التجار على إغلاق محلاتهم للتوجه فورا إلى المساجد لأداء صلواتهم اليومية. حزينة هذه البلاد التي لا يجد فيها الأجنبي و لا السعودي، أي وسيلة للترفيه إذ أن قاعات السينما و المسارح و المقاهي و النوادي ممنوعة بحكم القانون. لهذا، فقد غادرت السعودية بارتياح كبير من أجل التوجه إلى إسرائيل حيث تنتظرني تجربة سيئة بشكل آخر. فبينما كنت أتناول فطوري في قاعة الأكل بفندق الملك داوود، و هو الفندق الكبير الذي يرتاده الأجانب فقط تقريبا، هرع عدد كبير من النوادل نحوي آمرين إياي أن أُخمد سيجارتي. «إنه السبت»، نبهوني بسحناتهم المتجهمة. رفضت الانصياع لهم بأن قلت لهم أني لست يهوديا مطبقا. ألح رئيس الخدم مهددا بدعوة مدير المؤسسة ، بل الشرطة إن اقتضى الحال. احتججتُ على ذلك مُشيرا إلى أني لا أوذي أحدا، بما أن القاعة فارغة في هذه الفترة من الصباح.فأجابني بأن ذلك ممنوع من طرف الحاخامية الكبرى و أكدت عليه قوانين البلاد، و هو قانون ينطبق على اليهود و على غير اليهود. لكنه و قد علم أني صحفي لم يتمسك بإلحاحه. و شاءت الصدفة أن يكون لي في ذلك الصباح نفسه موعد في منزل السيدة «غولدا مايير» لإجراء حوار. استقبلتني ، و هي وزيرة الخارجية آنذاك، في مطبخها و سيجارتها تومض في فمها، أمام منفضة مليئة بأعقاب السجائر. فهي على الأقل لا تحترم قرار الحاخامية الكبرى. قصصت عليها حكايتي التعيسة في فندق الملك داوود قبل أن أسألها عن تعليقها على قانون جدير بالعربية السعودية، و دون أن يرف لها جفن، قالت إنها هي أيضا ليست يهودية مطبقة (هل كانت مؤمنة حتى؟) لكن التوراة، العهد القديم، كان و سيظل مرجع حياة الشعب اليهودي : «ماذا كان سيصبح اليهود في المنفى لو أنهم تخلوا عن مرجعيتهم الدينية، لو تجاهلوا هجرة العبرانيين من مصر، لو لم يكونوا يرددون كل سنة في احتفالات عيد الفصح ، أُمنيتهم في العودة في السنة القادمة إلى يورشليم (القدس)؟ و أضافت أنه بالرغم من كرهها لرجال الدين، فإنها ناضلت من أجل التشريع الذي جعل «الكاشروت» (و هو مجموع القواعد الغذائية التي رتبها الحاخامات على مدى قرون) إلزاميا في مطابخ الجيش و المدارس و النقابات. و يسهر جيش من المفتشين يوميا على فرض احترام هذه القواعد في كل الأماكن العمومية، خاصة في الفنادق و كذا على متن الطائرات و السفن. بتوديعي السيدة «مايير»، لاحظت بأن الشوارع، التي تكون مليئة بالمارة عموما، كانت فارغة تقريبا. فالمتاجر، بما فيها تلك التي تعرض البضائع الضرورية الأساسية، و المطاعم و قاعات السينما و الكاباريهات و أماكن الترفيه الأخرى كانت مغلقة، كما أن وسائل النقل العمومي متوقفة عن الحركة بينما كانت السيارات الخاصة نادرة، فيما تتوقف طائرات شركة «العال» من زوال يوم الجمعة حتى مساء السبت. قررت زيارة حديقة الحيوانات، التي قيل لي أنها مفتوحة للزائرين، لكني لم أعثر على أي سيارة أجرة كي تقودني إليها. و على كل حال، فإن السيارات لم تكن لتُغامر بالدخول إلى الأحياء التي يسكنها المتشددون من اليهود، خشية تعرضها للاعتداء. هذه المعوقات، المفروضة على ساكنة أغلبها غير مُطبق و علماني، بدت لي غير مفهومة. (خمسون عاما بعد هذا التاريخ،أصبح احترام الإسبات أكثر تحررا تحت ضغط السكان العلمانيين، لكن الامتيازات الممنوحة لرجال الدين مثل تمويل مدارسهم الخاصة، قد تزايدت بشكل كبير.) لقد نجح مؤسسو الدولة في إبعاد خطر المواجهة بين الدينيين و العلمانيين. و بامتناعهم عن تزويد البلاد بدستور، تفادوا تحديد طابع الدولة الجديدة، و باتخاذ العلمانية و الهالاخا (التشريع الديني) كمرجعين أساسيين. فرجال الدين يعارضون مبدأ الدستور نفسه، الذي يُعد في نظرهم تجديفا، لأنه لا يحل محل التوراة التي منحها الرب للعبرانيين (تماما مثل الأصوليين المسلمين الذين يدعون إلى فرض الشريعة كقانون أساسي).و بمهارة و لُطف، أدخل المُشرعون تدريجيا قوانين تحمي حرية التدين. إلا أن إسرائيل، لا جمهورية و لا ثيوقراطية، ستنبني على مزيج بين النظامين. و هكذا ظلت الهالاخا تُطبق بصرامة، في الستينات، في المجال الشخصي، كما كان الأمر أثناء الحكم العثماني ثم خلال الانتداب البريطاني في فلسطين. فالزواج بين اليهود و غير اليهود محرم، كما أن الطلاق لا يتم إلا من طرف حاخام، و في أغلب الحالات على حساب الزوجة، فالتقليد الموسوي، كما في باقي الديانات، كان ذكوريا بشكل كبير. كما يتم تدريس الكتاب المقدس و التلمود طيلة البرنامج الدراسي. فيما مَنَح رجال الدين أنفسهم حق الإجابة عن السؤال السخيف «من هو اليهودي؟»، و هو موضوع حوارات و سجالات حامية خلال الخمسينات و الستينات بينما لم يُطرح السؤال أبدا قبل إقامة دولة إسرائيل. فاليهودية، حسب حراس الدين، تتم فقط من خلال الانتساب للأم اليهودية. فالطفل من أم مسيحية ليس يهوديا و لا شرعيا، حتى لو كان أبوه و أجداده و أسلافه و هو نفسه قد تربوا في أحضان الديانة الموسوية. و تبدو عبثية هذا الاعتقاد واضحة في حالة أحفاد بن غوريون، الذين لا يُعتبرون يهودا لأن إبنه البكر قد تزوج ببروتستانتية، بينما أحفاد الزعيم السوفياتي السابق «نيكيتا خروتشوف» يهود كاملو اليهودية لأن واحدة من زوجات أبنائه يهودية. و هكذا رفضت الحاخامية سنة 1968 تزويج حفيدة مؤسس إسرائيل بيهودي طالما لم تعتنق أمها و هي نفسها الديانة اليهودية . و هو ما قامتا به ... فالقانون الديني يتسبب في وضعيات صعبة، بل مأساوية في بعض الأحيان، كما حدث لعدة آلاف من الإسرائيليين: كنت في إسرائيل حينما و جد الزوجان «ستينبرغ» - هو يهودي من أصل بولوني و هي روسية مسيحية - نفسيهما غير قادرين على دفن ابنهما «أهارون» ذي الخمس سنوات، الذي لم يكن مقبولا من أية مقبرة لأنه جثمان غير محدد الهوية الدينية، و في النهاية اضطر الزوجان إلى دفنه في أرض خلاء بدون طقوس دينية. و هناك حالة أخرى اهتمت بها وسائل الإعلام و هي حالة «ريتا إيتاني» و هي يهودية من وارسو. فبالرغم من أنها شاركت بشجاعة في حرب 1948 و خلال حملة 1956، و ناضلت داخل الحزب العمالي «ماباي» و تم انتخابها مستشارة بلدية في مدينة يهودية حصريا هي «الناصرة إليت» ، تم حرمانها فجأة من جنسيتها و من جواز سفرها بعد حوالي عشرين عاما على هجرتها إلى فلسطين: فقد اكتشفت وزارة الداخلية بأن أمها كانت بروتستانتية و بالتالي لا يمكنها الاستفادة من «قانون العودة». و هو القانون الذي تم تبنيه مع تأسيس دولة إسرائيل، و الذي يمنح الجنسية الإسرائيلية تلقائيا لكل يهودي «يعود إلى أرض أجداده». و كان على «ريتا إيتاني» أن تعتنق اليهودية رسميا سنة 1966 كي تستعيد جنسيتها و جواز سفرها... في بداية الألفية الثانية، كان مهاجر روسي لإسرائيل من كل إثنين غير يهودي بالنسبة للحاخامات، لأنه لم يكن يتمتع بميزة الانحدار من رحم أم يهودية، و في بعض الأحيان لم تكن له أي علاقة باليهودية. و قد أثار قاض بالمحكمة العليا، هو «حاييم كوهين» فضيحة في يوليوز 1963 حين صرح عاليا خلال مناظرة: «من السخرية المرة للأقدار أن نفس الطروحات البيولوجية و العنصرية التي نشرها النازيون، تُقدم اليوم كقاعدة للتعريف الرسمي لليهودية داخل دولة إسرائيل». و أمام الاستهجان الذي تسبب فيه، قدم القاضي اعتذاره دون أن يتراجع عن موقفه. و بالفعل، و أثناء استقبالي سنتين بعد ذلك، أعاد تأكيد تصريحه في العمق قائلا: «لن أغير رأيي. فبعض قوانيننا - خاصة المتعلقة بالزواج المختلط - لها طابع عنصري، و مع ذلك فليس لدينا خيار، فالعواطف المتناقضة و قوة المعسكر الديني تجعلنا نُخاطر باندلاع حرب أهلية إذا ما دخلنا في اختبار قوة».كان تفسيره - و هو نفس التفسير الذي يقدمه القادة الصهاينة كمبرر- خاطئا بشكل جلي. ألم يكُن يعرف بأن مجموع الأحزاب الدينية لا تمثل في تلك الفترة سوى 10 أو 15 بالمائة من الجسم الانتخابي، و أن أعضاء هذه الأحزاب لم يكونوا كلهم متشددين مستعدين - حتى لو كانوا قادرين- لشن حرب أهلية؟ باختلاف انتماءاتهم، و هم في الأغلب الأعم، إما ملحدون أو غنوصيون أو غير مطبقين، أبرم القادة المؤسسون للصهيونية و لدولة إسرائيل، نوعا من التحالف مع الأحزاب الدينية منذ 1947 ، قُبيل قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداهما يهودية و الأخرى عربية. و مع ذلك، فإن بعضهم كانوا يصف الدين الموسوي بأنه «رجعي» أو «عتيق». فلماذا قبلوا إذن، بالإضافة إلى عدد من قواعد «الهالاخا»(مجموع القواعد الدينية اليهودية) السماح بإنشاء مدارس دينية (يشيفوت) - بالموازاة مع المؤسسات العمومية- و تمويلها بشكل كريم من طرف الدولة؟ لماذا جعلوا من تعليم التوراة أمرا إلزاميا في كافة المدارس الابتدائية، العمومية أو الخاصة؟ لماذا جعلوا من العهد القديم ركنا ركينا للأيديولوجيا الصهيونية؟ لماذا ألح الزعيم الصهيوني «حاييم وايزمان»، و هو الملحد المعروف، لدى السلطات البريطانية - لكن بدون نجاح- كي تستند صياغة تصريح بلفور بشكل واضح إلى العهد القديم؟ و هي الرغبة التي تحققت بعد ثلاثين عاما في إعلان الاستقلال سنة 1948، الذي اعتبر فلسطين في مُجملها «إريتز إسرائيل». من البديهي أن التحالف بين التوراة و الصهيونية كان ضروريا لضمان مشروعية الدولة اليهودية. بالنسبة ل»ثيودور هرتزل» ، مؤسس الحركة الصهيونية، كانت الأمور مختلفة. فقد ثار ضد «عقلية الغيتوهات» و كان يتصور دولة علمانية، متسامحة و تقدمية، مبنية على ثقافة يهودية هلامية كان هو نفسه غريبا عنها. لم يكن يعتبر من الضروري أن تكون العبرية هي اللغة المشتركة لمواطني الدولة اليهودية المقبلة. و هذا ليس بمستغرب إذا ما علمنا بأن هرتزل كان نتاج العقلية المتفتحة في بلده الأصلي، النمسا، و لم يتلق تربية دينية و لم يُلقنها لأي من أبنائه. و الغريب، أنه لم يكن يشعر بأي علاقة خاصة مع فلسطين و كان لا مباليا بالموقع المحتمل للدولة اليهودية المقبلة. كان همه الأساسي هو تزويد إخوانه في الدين بملاذ آمن، أينما كان، يجعلهم في منأى عن العداء للسامية (التي شهد فصلا منها في قضية دريفوس بفرنسا) و عن التمييز (كما عاشه في بلده الأصلي) و عن الاضطهاد أو المجازر في بعض الأحيان كما حصل في روسيا القيصرية و في بولونيا. لقد بدأ باتخاذ كثير من الترتيبات بهدف الحصول على مكان للاستيطان ?قبرص،سيناء, أوغندا، الأرجنتين ? لكن بدون أن تكلل جهوده بالنجاح. و أمام إخفاقه و بتأثير من الصهاينة المتدينين، قبل في النهاية بأطروحة فلسطين ، «أرض الأسلاف» و شرع لذلك في حوار استمزاجي مع السلطان العثماني عبد الحميد. أخفقت محاولته مرة أخرى. ثم بسط آماله على بلاد الرافدين، حيث ستنهض دولة العراق بعد بضع عشرين عاما. و هكذا لم يتوجه، صاحب فكرة الدولة اليهودية، سوى مرة وحيدة و فريدة إلى فلسطين في إقامة قصيرة، تفاجأ خلالها، باكتشاف سكان أصليين، الفلسطينيين أو «العرب» كما كانوا يُسمون في ذلك العهد. و لا تشذ لامبالاة «ثيودور هرتزل» بأرض الميعاد عن لامبالاة اليهود بها طوال تاريخهم. و مهما بدا ذلك غريبا، فإنه منذ القديم خلال العهود الفارسية و الإغريقية-الرومانية، بل قبل سقوط دولتهم المستقلة سنة 63 م، اختار العديد من العبرانيين - أغلبية حسب بعض المؤرخين- العيش بشكل حر خارج حدودهم. و في كل المرات التي تعرضوا فيها للاضطهاد كانوا يلجأون إلى بلدان أخرى غير فلسطين. فقد تسبب البوغروم (كلمة روسية تعني المذابح و النهب، وشاعت كاصطلاح مقتصر على ما تعرض له اليهود من اضطهاد في أوربا الشرقية في وقت تاريخي معين.م) مثلا في روسيا و بولونيا في نزوح كثيف نحو الولاياتالمتحدة، فحسب إحدى التقديرات نزل مليونان و نصف مليون يهودي إلى نيويورك فيما بين 1881 و 1914، بينما اختار أقل من 70 ألفا فقط الاستقرار في فلسطين. و جاء تصريح «بلفور» للحكومة البريطانية سنة 1917، الذي وعد اليهود «بوطن قومي في فلسطين» فلم يتسبب إلا في هجرات ضعيفة نسبيا، أما شعور الزعماء الصهاينة بالإحباط. و لم تبدأ الهجرة اليهودية لفلسطين ? و بقاع أخرى- في الارتفاع إلا في بداية العهد الهتلري في ألمانيا، و خاصة لأن الولاياتالمتحدة أغلقت أبوابها أمام ضحايا النازية. و بعد إنشاء دولة إسرائيل بكثير، و في بداية الستينات، اختار أغلب يهود الجزائر الاستقرار في فرنسا. و حتى سنة 1985، اختار 90 بالمائة من اليهود السوفييت الرحيل إلى بلدان أخرى غير إسرائيل، إلى أن أصبحت الرحلات الجوية تتم مباشرة من موسكو إلى تل أبيب بدون الهبوط في فيينا، و هو الهبوط الذي ألغتهُ الحكومة السوفياتية بإلحاح من السلطات الإسرائيلية. و هذا يعني أن الارتباط الروحي المفترض مع أرض الميعاد لم يكن يجد مُقابلا له في تشبت بديهي ب»أرض الأسلاف». و قد سبق ل»ثيودور هرتزل» أن اكتشف ذلك، ملاحظا أن الأغلبية الساحقة من مُداينيه (المنتمين لنفس دينه) كان لهم تعاطف قليل أو منعدم تماما مع الحركة الصهيونية الوليدة. و الواقع أن معاداة الصهيونية لدى اليهود كان منتشرا في نهاية القرن التاسع عشر و بداية العشرين مثلما هو منتشر الآن التعاطف معها. و لأسباب من اليسير استيعابها، فقد كان يهود أوربا الغربية المتشبعين بقيم عصر الأنوار، متشبتون بمكتسبات التحرر، و بمواطنتهم التامة، مثل يهود أمريكا الذين كانوا يتمتعون بحقوقهم كاملة. و في المقابل كان يهود أوربا الشرقية و أوربا الوسطى، المضطهدون، ينقسمون إلى ثلاث فئات: المتدينين الأورثودوكس الذين ينتظرون الخلاص مع ظهور المسيح، و المتعاطفين مع الأحزاب الثورية، بولشفية و منشفية، التي تعدهم بالمساواة الكاملة، و الفئة الثالثة هم أتباع «البوند»، و هي حركة اشتراكية ذات ثقافة «يديشية» في روسيا و بولونيا التي كانت تطالب فقط بالاستقلال الثقافي في المناطق ذات الأغلبية اليهودية، و كانوا يعارضون الاستيعاب معارضتهم للصهيونية التي كانوا يعتبرونها «رجعية». و انتهى الأمر ب»البوند» إلى التحالف مع البولشفية غداة ثورة أكتوبر، لكنها تعرضت للإقصاء في العشرينات و الثلاثينات. في ذلك الوقت، لم يكن المعادون للصهيونية يوصمون بالعداء للسامية و لا ب»الحقد على الذات»، بينما كانت الأوصاف التحقيرية مخصصة للصهاينة، الذين كانوا يُتهمون ، من بين أمور أخرى، بالتعامل مع أعداء السامية، بما أنهم يدعون معا، إلى مغادرة اليهود لأوطانهم الأصلية. الحلقة المقبلة: التوراة التي لا غنى عنها (2)