مصطفى قاعود ورث نتانياهو عن شارون وكلاهما ورثا عن قادة الحركة الصهيونية، الهروب من الخطاب السياسي، إلى المغالطات التاريخية والخطاب الديني. ففي خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك في خطابات سابقة، أبرزها خطابه أمام الكونغرس وأمام جامعة بار إيلان، مارس نتانياهو لعبة التسلق على تشويه التاريخ، مدعياً أن فلسطين ما هي إلا أرض إسرائيل. وتحدث عن علاقة «اليهود بالأرض اليهودية، أرض الآباء والأجداد»، وأشار إلى تشويه التاريخ قائلاً: «قد سمعنا عن تشويهات التاريخ، ما من تشويه للتاريخ يمكنه أن ينكر علاقة السنوات الكثيرة بين الشعب اليهودي والأرض اليهودية». حسناً لا أريد الرد على نتانياهو وفقاً لمنطق التاريخ، أولاً لأنه لا يفهمه وثانياً لأنه يعتبر التاريخ مشوهاً، على رغم أن ما من جهة عملت على تشويه التاريخ بالقدر الذي عملت عليه الحركة الصهيونية، لذا سأرد عليه وفقاً لمنطق الرواية التوراتية، التي أسرت الغرب منذ القرن السادس عشر، مع ادعاءات الصهيونية غير المسيحية التي ابتدعت فكرة «شعب الله المختار»، بهدف التخلص من اليهود وإبعادهم عن أوروبا، ولكن بطريقة مفيدة عبر تحويلهم إلى «شعب وظيفي»، يفاد منه بالمشروع الاستعماري الغربي، ثم إن الله لا يختار شعوباً بل يمنح أمة فضلاً أو خيرية مشروطة ولا تضعها فوق البشرية، فخاطب الله أمة الإسلام بقوله «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر»، أي شرط هذه الخيرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندما قال لبني إسرائيل: «إني فضلتكم على العالمين» كان ذلك أيضاً بشروط أخلوا بها حتى عندما كان موسى حياً بينهم، فهل هذا يضعهم فوق العالمين إلى يوم الدين؟. وبالعودة إلى موضوعنا الرواية التوراتية التي لا يفهمها نتانياهو، نقول إن ليس فيها مصطلح الشعب اليهودي ولا الأرض اليهودية، ولا تعترف بمصطلح «يهودية الدولة» التي يريد من العالم أن يعترف بها، فوفق تلك الرواية وعندما نجحت القبائل العبرانية في القرن الثاني عشر قبل الميلاد بالتسلل إلى فلسطين، رفضت فكرة الشعب اليهودي والدولة اليهودية المركزية، وأصرت على النظام القبلي، حتى أنها وفي إطار توزيع الأراضي التي تم الاستيلاء عليها، حرمت قبيلة «لاوي» القيمة على الدين اليهودي من أن تكون لها أرض خاصة بها كباقي القبائل العبرية، أي أنها بشكل أو آخر نبذت الديانة اليهودية وفكرة «يهودية الدولة». وسوف أفصل في ذلك، فقد توزعت القبائل العبرانية المتسللة على شكل بؤر استيطانية متناثرة بين المدن الكنعانية التي لا تنكر التوراة حقيقة وجودها وأسبقيتها وملكيتها للأرض، فجاء في «سفر التثنية 6/10 -12» أن الرب يخاطب موسى عليه السلام بالقول: «إني سأسوقك إلى مدن عظيمة لم تبنها وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وآبار محفورة لم تحفرها، وكروم زيتون لم تغرسها». إذاً لم يذهبوا إلى «أرض خربة هجرها سكانها» كما ادعت الحركة الصهيونية عندما جاءت إلى فلسطين، بل هي أرض معمورة كما جاء في التوراة أيضاً في الحديث عن جواسيس يوشع بن نون الذين أرسلهم لاستكشاف فلسطين، تماماً كما فعل ملوك أوروبا بإرسالهم الرحالة لاستكشاف فلسطين من وجهة نظر توراتية تمهيداً للمشروع الصهيوني، فقد أبلغ الجواسيس يوشع بن نون «إنها أرض تفيض لبناً وعسلاً، ومدنها حصينة عظيمة جداً». طبعاً ذلك بفضل أهلها إذ أقام الكنعانيون حضارة متقدمة وعظيمة جداً، وشكا العبرانيون منها ومن قوتها وامتدادها أكثر من مرة وفي أكثر من موضع في التوراة، وكانت تلك الحضارة في ما بعد سبباً مقنعاً يفسر ذوبان واندماج الكثير من العبرانيين المتسللين من أصل قبلي وبدوي، فلم يتمكنوا من مقاومة بريق تلك الحضارة. والحقيقة أن الرواية التوراتية تجافي الحقيقة وتغالط نفسها عندما تعتبر الهجرة العبرانية إلى أرض كنعان نوعاً من الغزو، في ظل وجود تلك المدن المحصنة والمدججة بالعربات الحديدية كما تقول التوراة، فيصح على تلك الهجرة مصطلح التسلل أكثر من مصطلح الغزو، وأخذ هذا التسلل شكل البؤر الاستيطانية تماماً كما حدث عام 1882 وما تلاه من تغلغل للمشروع الاستيطاني الصهيوني، والدليل على ذلك أن تلك العمليات استغرقت حوالى خمسين سنة، منذ عام 1250 ق م وحتى عام 1200 ق م. وفي ذكر جواسيس يوشع بن نون أيضاً يتضح أن ما سهل عمليات اكتشاف الجواسيس لنقطة ضعف، هي غياب الوحدة الإثنية على أرض فلسطين، فقد ورد في «سفر العدد 13/38 – 29» ووفق توصيف الجواسيس: «العمالقة ساكنون في أرض الجنوب والحثيون واليبوسيون والعموريون ساكنون في الجبل، والكنعانيون ساكنون عند البحر وعلى جانب الأردن». وفي هذا النص حقيقتان الأولى هي أن تلك الأقوام هي صاحبة الأرض ولا وجود لمصطلح «الأرض اليهودية، أو أرض إسرائيل»؛ والحقيقة الثانية أنه ورغم نقطة الضعف هذه، فشل العبرانيون في إحراز نصر عسكري حاسم، ودخلوا فلسطين عن طريق عمليات التسلل والتجسس والتخريب وإثارة الفتن، والزواج حتى من العاهرات، إذ تذكر التوراة «أن يوشع بن نون عندما دخل أريحا أحرق كل من فيها بأمر من «يهوه» ما عدا العاهرة رحاب (سفر يوشع 6/21/24) التي تزوجها في ما بعد لأنها كانت تساعد جواسيسه». وكل ما ورد في سفري القضاة ويوشع حول توصيف التواجد العبراني في أرض كنعان، يخلص إلى أن هذا التواجد ما هو إلا شكل من أشكال الاستيطان المبعثر، لقبائل وأسر ظل أفرادها لاجئين مشردين بين الكنعانيين، لدرجة أنهم لم يحافظوا على لهجة موحدة لهم، إذ سرعان ما تأثروا باللهجات الكنعانية، وذلك مثبت أيضاً في التوراة، خصوصاً في ذكر الصراع بين قبيلة إفرايم العبرية التي استوطنت شمال فلسطين، وبين سكان جلعاد من قبائل «رؤوبين وجاد ومنسى»، وكلها قبائل عبرية متناحرة وفي هذا الصراع هزمت قبيلة إفرايم. وقد ورد في «سفر القضاة» أنه «كلما كان يدعي أحد من أفراد قبيلة إفرايم أنه من جلعاد كان يطلب منه أن ينطق بكلمة شبولت أي سنبلة فإن فشل في ذلك بسبب اللهجة كان يذبح». فهذه القبائل أو الأسباط كما تسميها التوراة، علاوة عن عجزها في السيطرة على الأرض الكنعانية وإتيانها بأي فعل حضاري يذكره التاريخ وعلم الآثار، كانت متصارعة متناحرة ومصرة على الاستقلالية القبلية، ولم تتكون في يوم من الأيام على شكل «شعب يهودي موحد». هنا نصل إلى الاستخلاص الأهم، وهو أن الرواية التوراتية ذاتها تدحض وبشكل لا لبس فيه فكرة الشعب اليهودي والدولة اليهودية، التي يتغزل بها نتانياهو وشارون وينسبانها زوراً إلى التاريخ، وإليكم الدليل ودائماً وفق الرواية التوراتية، فما أن استكملت القبائل العبرانية تسللها الاستيطاني إلى أرض كنعان، قام يوشع بن نون بتوزيع الأراضي على الأسباط البالغ عددها اثني عشر سبطا، فخصص لكل سبط منها أرضاً باستثناء سبط «لاوي»، وهو السبط القائم على خدمة الدين اليهودي، ولاوي اسم عبري معناه «مقترن» وهو اسم أحد أبناء يعقوب عليه السلام من ليئة، وقد أطلق اسمه على إحدى القبائل العبرانية، وهي عشيرة موسى وهارون التي كانت لها الزعامة الدينية والاجتماعية على سائر القبائل، ويقال لأفرادها اللاويون ومنهم الهارونيون الذين اضطلعوا بدور الكهنة. ويرى بعض العلماء أن السبب في عدم تخصيص أرض لهم من قبل يوشع بن نون أرجعه الأخير إلى أن هذا لا يتفق مع مهماتهم الكهنوتية، ويذهب فريق آخر من العلماء إلى أن اللاويين لم يكونوا قبيلة، وإنما كانوا يضمون ممثلين لكل القبائل، وكان نظامهم الكهنوتي يشبه نظام الكهنة في مصر، في تمثيل كاهن لكل معبد. ويشير سفر التثنية إلى صراع بين الكهنة واللاويين وآخر بين اللاويين والأسباط الأخرى، وذلك لرفض القبائل المطلق فكرة التوحد تحت لواء الدين والنظام الكهنوتي، والإصرار على الاستقلالية القبلية وحتى القربانية، وعدم تقبل فكرة المملكة أو الدولة الواحدة اليهودية. ومما يروى أن يربعام الأول ملك الشمال طرد اللاويين من مملكته، تأكيداً لاستقلاليتها الداخلية، لأن اللاويين أصبحوا في مرحلة من المراحل طبقة شبه حاكمة، ولكن ظل النظام القبلي هو النظام القائم بين القبائل العبرانية، حتى في ظل ما يسمى الملكية أي في ظل حكم داوود وسليمان، إذ جرت محاولة لتوحيد تلك القبائل في نظام ملكي لم ينجح ولم يستمر أكثر من تسعين عاماً وانهار في عام 928 ق م، فبينما ضمت مملكة الشمال «يسرائيل» عشر قبائل ظلت الوحدة بينها ضعيفة، ضمت المملكة الجنوبية المسماة وفق التوراة «يهودا» قبيلتين «يهودا وبنيامين»، وكلتاهما رفضتا فكرة الدولة اليهودية القائمة على النظام الكهنوتي وأنشأت كل واحدة منها عبادة قربانية مستقلة، وطردتا اللاويين والكهنة الذين لجأ قسم كبير منهم إلى مصر وبابل، وكل ذلك طبعاً وفق الرواية التوراتية. وفي المحصلة، إذا كان قادة الصهاينة مصرين على تزوير التاريخ فهل يستطيعون إنكار وتزوير الروايات التوراتية؟ أما آن لهذا العالم أن يستفيق من التنويم المغناطيسي الذي نفذته الصهيونية بكل أشكالها ومسمياتها من الصهيونية المسيحية إلى اليهودية الدينية والعلمانية، ويدرك أن جوهر المشروع الصهيوني هو كما وصفه هرتزل «مشروع استعماري»؟.