عندما نتابع الحديث عن مظاهر التآمر لا ينبغي أن نغفل الانتباه إلى قضايا أخرى تتعلق بالنفط والاستبداد والديمقراطية، تحضر القضايا المشار إليها بصور عديدة في ملامح الأحداث الجارية. ويجب أن ننتبه إلى ما أشار له الباحث اللبناني فواز طرابلسي في كتابه الديمقراطية ثورة، حيث أبرز أنه لا يمكن النظر إلى بعض القضايا من زاوية علاقتها المباشرة بالثورة، ففي موضوع النفط، نحن نعرف أن الدول العربية لا تسيطر على نفطها، وأن «المشروع الأمريكي» لا يروم اليوم انتزاع تلك الثروات الطبيعية والفوائد الناتجة عنها، إنه يقوم بتوسط شركاته بتدبير النفط العربي منذ عقود. فالغرب يرتب مبادئ سياساته الخارجية على مقاس مصالحه الاقتصادية (الأسواق والنفط) والجيوستراتيجية (أمن النفط وأمن إسرائيل). ومن أجل مزيد من التوضيح، نشير هنا إلى أن الباحث المذكور، اعتبر أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية للتدخل العسكري الغربي في ليبيا، السبب الأول يتعلق بالنفط، والثاني يتمثل في مساعي الغرب في الظهور بمظهر الداعم لتطلعات الشعوب العربية إلى الديمقراطية، بعد عقود من دعمه للأنظمة الاستبدادية، والسبب الثالث هو ضمان السيطرة على عملية الانتقال السياسية والاقتصادية و السيطرة في الآن نفسه على المعارضة، خاصة وأن قسما كبيرا منها اختار التبعية بأسماء عديدة. وفي السياق نفسه، يجب أن ننتبه إلى ان هناك من يطالب سوريا بفك التحالف مع إيران ووقف إيواء قيادات البعث العراقية على الأراضي السورية، وكذا وقف تصدير الجهاديين إلى العراق، ورفع اليد على حركة حماس في فلسطين، ورفعها أيضا عن حزب الله في لبنان. ونتصور أن المطالب المسطرة أعلاه، تندرج في إطار الألغام الخطيرة في الحدث السوري، إنها تضعنا أمام جملة من القضايا المفتوحة على احتمالات تروم إضعاف مناعة سوريا، وتسهيل وَضْعِها أمام الإملاءات الخارجية. وعندما نتوقف أمام الممانعة السورية في تجلياتها المعقدة، نجد أنفسنا أمام ظواهر مركبة، حيث تنشأ كثير من اللقاءات والمناورات، ليظل الوضع في سوريا مليئا بالألغام. فالمناورات العسكرية، من قبيل المناورة الجوية السعودية التركية وهي الأولى من نوعها، والمناورة الأردنية، والمناورة البحرية الثالثة في الخليج والتي تضم أكثر من 40 دولة، بهدف البحث في كيفيات إزالة خطر الألغام البحرية من قاع البحر، وكذا المناورة العسكرية الرابعة التي ستجريها البحرية الإيرانية. كل هذه المناورات التي تتناقلها وسائل الأخبار تكشف استمرار تعقد وتداخل الذاتي والإقليمي والدولي في مشهد الصراع، كما تكشف اختلاط كثير من الأوراق لتضعنا أمام مشهد معقد متناقض وقابل للتشكل وإعادة التشكل، وذلك بحسابات لا تتمتع دائما بالدقة والوضوح. ويبلغ الاختلاط أوجه في التصريحات والمواقف التي يطلقها مسؤولون أمريكيون بهدف إصابة أهداف متعددة ومتناقضة، مثلما هو عليه في بعض مقالات دونيس روس التي يشير فيها إلى «أن الشعب الأمريكي صار متخوفا من الحروب، ويصر على التركيز على القضايا الداخلية والاقتصادية وليس على الشؤون الخارجية، ويوضح في سياق المقال نفسه أن « الوضع في سوريا معقد للغاية ولا يوجد خيار مثالي(...)، وقد أقنعتني أحداث الأشهر ال 26 الماضية بأن التدخل هو الأجدى، هذا الصراع سيستمر في التنامي بكل عواقبه السيئة، إلى أن يميل ميزان القوى ضد الأسد وحلفائه الإيرانيين و»حزب الله» والروس». إن ما سطرناه من عناصر في ضبط مآل الحالة السورية لا يقلل من قيمة مشروع الإطاحة بالنظام، بحكم مشروعية هذا الحل من جهة، ولان النظام لم ينجح لا في تحقيق الإصلاح، ولا في وقف التردي الحاصل. ويقدم الجدل السياسي المتواصل حول الوضع السوري، ما يمكن أن نعتبر نموذجا للتآمر المباشر، لكن هل نستطيع أن ننفي حاجة السوريين إلى الإصلاح؟ ثم ما هي أدوار المعارضة السورية في لعبة التآمر؟ ثانيا : الثورات العربية مؤامرات أم مناورات؟ ركبنا في المحور السابق جملة من المعطيات المشخصة لجوانب من المؤامرات المفترض أنها حاصلة في سجلات الحدث الثوري، وقد أشرنا إلى بعض حدود مبدأ التآمر، وعملنا على استيعاب منطقه ضمن مقتضيات صراع المصالح في التاريخ. وننتقل في المحور الثاني لتقديم تصور مختلف عن السابق، تصور يفتح الحدث الثوري على ممكنات أخرى في التصور والتفاعل والفعل. وننطلق في تركيب هذا التصور، من فرضية نُقرُّ فيها بإمكانية المساهمة في بناء ما يساهم في مَنْح الحدث، مواصفات معينة مرتبطة بفضاءاته في أبعاده المركبة، حيث تنحل ثنائية التآمر والمبادرة الذاتية المتآمرة، أي المعولة على الخارج انطلاقا من الداخل، لينفتح الحدث على جدلية تاريخية يصعب التفكير فيها بمنطق وحيد. ننطلق في المحور الثاني، من مبادئ ترتبط بسياقات الحدث في تشابكها وتناقضها وتداخلها، ونتصور إمكانية بلوغ ما نصبو إليه، وخاصة عندما يعمل الفاعل السياسي الوطني على توظيف الشروط المناسبة لبلوغ طموحاته. ونبلور في سياقات تحليل هذا المحور، ما يسعف بإمكانية تجاوز الثنائية المركزية في الموضوع الذي نفكر فيه، وذلك بالاعتماد على التفاعل السياسي المرغوب فيه، أي التفاعل الذي يستجيب في نظرنا لما نفترض أنه مناسب للطموحات التاريخية للقوى الإصلاحية والديمقراطية في مجتمعنا. نؤكد على هذا بحكم أن الانفجار كان مفاجئا، وعرف الشارع العربي في المنطلق فاعلينَ جددا، إلا أنه لم يكن غريبا ولا بعيدا عن تطلعات المجتمع ولا عن مبادرات نخبه وفاعليه في المجال السياسي والمدني. ورغم اختلاطه لاحقا، فقد كان وسيظل بمنطق التاريخ قابلاً لإمكانية التدخل وللمناورة وحساب المصالح. نستند في إبراز مشروعية مقاربتنا على مبدأين اثنين، نرى أنهما يتيحان لنا فهماً أكثر تاريخية لما جرى ويجري في مجتمعاتنا : المبدأ الأول : الثورات العربية والتمهيد لبناء شرعية سياسية جديدة. تعد سنة 2011، مفصلا تاريخيا نوعيا في التحولات التي عرفها المجتمع العربي، في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة. فقد ظلت البلدان العربية تعتبر البلدان الأقل تغييرا، في اتجاه توطين المشروع الديمقراطي في أنظمتها السياسية. صحيح أن أغلب المجتمعات العربية عرفت في تاريخها المعاصر، مبادرات وديناميات لإسقاط الأنظمة الحاكمة، إلا أن ما حصل بتتابع، وبكثير من الجرأة والفعل الخلاق، في أغلب ساحات المدن في المجتمعات العربية، يعد تتويجا لعقود طويلة من مراكمة الاحتجاجات، والتي عرفت تصاعدا مكثفا في العقدين الأخيرين، وخاصة في كل مصر وتونس والمغرب، إضافة إلى أشكال عنف السلطة، التي كانت تُمارس في أغلب الدول العربي. إن الثورة من أجل الديمقراطية تظل مجرد طريق، بكل ما تصنعه أفعالها داخله، من مراحل انتقالية تطول أو تقصر. أما بلوغ عتبات المجتمع الديمقراطي، فإنها قد تحتاج إلى مدى زمني أطول، للتمكن من توطين دعائمها وآلياتها ومؤسساتها في المجتمع. كما تظل في حاجة إلى ثقافة جديدة، تتيح للمجتمع القطع مع مختلف الآثار السلبية، المترسبة من عهود الطغيان التي عمرت طويلا. ولا يعتبر نجاح الانتقال الديمقراطي بعد الثورات أمراً مؤكداً. والأمر المطلوب اليوم، لتحصين الفعل الثوري ومكاسبه، يتحدد في لزوم الحرص على احتضان شرارات الانتفاض في أزمنة الانتقال. لعلنا نتمكن بواسطتها من عبور القنوات الموصلة إلى دروب ومنازل الديمقراطية. وهذا الأمر مرتبط أشد الارتباط بتجارب الفاعلين السياسيين، ودرجات وعيهم بمسلسل القطائع، التي أنتجتها الثورات. وكذا مستوى تمثلهم للثقافة الديمقراطية، التي عملت أجيال من المثقفين والمصلحين، على نشر مبادئها وقيمها في فكرنا المعاصر. إن الشعوب العربية التي أسقطت الطغاة في تونس ومصر وليبيا، مطالبة بتركيب ما كانت تفتقر إليه في العقود الماضية. وقد يكون مطلوباً منها اليوم، بلغة أحد الدارسين مهلة للتأمل، ذلك أن الثورة والديمقراطية مفهومان مختلفان، وإن كان مرتبطين في فعل التغيير القائم. صحيح أن الثورة لا يمكن أن تنتج بالضرورة الديمقراطية، لكن لا أحد يُنكر مآثرها المتمثلة في زحزحة الطغيان. وفي هذا الأمر ما يصعب وصفه، أما التخوف من ورطة صعود الإسلام السياسي، فإنه يغفل أن التاريخ حمال أوجه، وأن مغالبة أوجهه المحاصرة للتقدم تتطلب مواصلة تعزيز قيم الحرية والعقل في مجتمعنا، كما تقتضي في الجبهة السياسية مواصلة تعبئة المجتمع لاحتضان قيم الحداثة والتاريخ.