نقوم بأعمال الكتابة والبحث والترجمة طوال الوقت. نساعد أنفسنا بجلد على الانضباط والصبر لبقاء ساعات طويلة أمام مكاتبنا، بين أوراقنا ومراجعنا. لا نكف عن زيارة المكتبات الخاصة والعامة. نحصل على كتب نادرة من هنا وهناك. أحيانا نحن من يبحث عن الكتب، وأحيانا أخرى الكتب هي التي تبحث عنا. لا تتعب أعيننا في البحث بين الرفوف. تتحرك الكتب في مكانها طالبة منا أخذها و إدخالها إلى عقولنا أو إفراغها على أوراقنا. و إن لم نلب طلبها هذه المرة، لبيناه في مرات قادمة. نعود إلى المكتبة و نجدها على نفس الرف تنتظرنا. تقوم بالغمزة نفسها، و إن بأنفة أكثر من المرة السابقة. لقد تغيرت شخصيتها بعد أن تخلينا عن أخذها قبل أيام. هي على حق، ونحن أيضا على حق، فزيارتنا الأولى لها، وتصفحنا لأوراقها تشبه الخطوبة. نحن وحدنا من يقوم بذلك، من مالنا الخاص، ووقتنا الخاص، و رغبتنا (عشقنا) الخاص. من يساعدنا؟ من يشحذ همتنا؟ من يدلل المصاعب أمامنا؟ الإجابة في بطون الكلمات القادمة. قرأت مؤخرا جزءا كبيرا من كتاب «مذكرات زوجة السجين» للكاتبة و الشاعرة والناشطة الحقوقية الأمريكية «آشا باديلي». يتحدث الكتاب، الذي وضع الناشر على غلافه تصنيف «رواية»، عن علاقتها و عشقها، ثم زواجها، بالسجين الأصولي المتطرف، الذي يعيش غمرة مأساة سلب الحرية لمدة ثلاثين سنة في مكان يدعى سجن الإصلاحية الشرقي في شمال نيويورك. تعرفت «آشا» على السجين «رشيد» عندما كانت طالبة تدرس العلاقة بين السود و السجن في الولاياتالمتحدة. زارت السجن في إطار البحث، أعجبت برشيد و قررت الزواج منه. من هنا نشأت قصة حب بين سجين و حرة سيعمل على تحريرها. لكن ما أثار انتباهي في هذا الكتاب هو تلك الصفحات الأولى التي شكرت فيها «آشا» كل من ساعدها في إنجاز هذا الكتاب. فكتاب كهذا لا يمكن أن يكتب إلا بجهد مشترك. فرواية تجربة شخصية جدا و المعني بها ما زال في غمرة المأساة، تحتاج إلى نوع مستمر من الدعم. تقول الكاتبة عن هذا الدعم:»إنه دعم من النوع الذي يأتيك في الساعة الرابعة عصرا و يأتيك في الساعة الرابعة صباحا». يعني فيء كل وقت و في كل ساعة، في النوم أو في اليقظة. قدمت في البداية شكرها إلى أبويها، و أختها التي أصغت و أصغت، و إلى أناس آخرين أخذوا قصتها على محمل الجد. و إلى آخرين قرؤوا مخطوطة الكتاب. و إلى حركات حقوقية تتميز ببعد النظر و القوة ووضوح الهدف. إلى شخص نصحها بجملة واحدة غيرت على ضوئها طريقة كتابتها. ثم إلى الناشرة التي كانت تشعرها دائما بأنها أكثر الناس أهمية، و أكثر الناس موهبة. مثل هذا الدعم يحتاجه كل كاتب و باحث و مترجم. لكن من نشكر نحن؟ إن قارنا الدعم الذي تلقته «آشا»، وهو دعم يتلقاه كل الكتاب في أوربا و أمريكا، بالدعم الذي نتلقاه نحن الكتاب في المغرب خصوصا، وفي العالم العربي عموما. دعم الإقصاء، وقطع الطريق، والتجاهل، و السلب، والمصادرة، والحقد، وتشويه السمعة و الإكراه...إلخ نحن لا نشكر إلا زوجاتنا و أطفالنا الذين وفروا لنا الوقت و الرعاية و التشجيع، و أشعرونا بأننا الأكثر موهبة و أهمية. و لناشرنا حين يقدر جهودنا. فلهم جميعا كل الشكر. و هاهي باقة الورد في يدي بعد زمن و أنا لا أعرف لمن أقدمها. تبدأ السيدة خالدة تعليقها على النحو الاتي: »لا يغيب اسم أدونيس عن حديث للمفكر صادق جلال العظم أستاذ الفلسفة في...«. لا يغيب اسم أدونيس عن حديثي ليس لأنني مهووس به (أقول هذا من دون أي انتقاص من تقديري لمكانته ثقافياً وشعرياً)، بل لأن في سورية اليوم ثورة شعبية على النظام العسكري - الأمني الطاغي والمستبد وعلى دولته البوليسية، والأسئلة والتساؤلات تتطاير يميناً وشمالاً عن موقف المثقفين ونجوم الأدب والفكر والفن والثقافة عموماً في سورية وغير سورية من هذه الثورة وعن دورهم في المساعدة على نجاحها أو إحباطها. ففي كل محاضرة ألقيتها عن سورية وربيع دمشق والربيع العربي، إن كان بالعربية أو الإنكليزية، وفي كل مقابلة صحافية أُجريت معي، وفي كل برنامج تلفزيوني ظهرتُ فيه، وفي كل ندوة نقاشية شاركت فيها كان يُطرح عليّ السؤال: ما رأيك بموقف أدونيس السلبي من هذه الثورة العارمة؟ أما في الجلسات الخاصة وحلقات النقاش الضيقة فكانت تتكاثر هذه الأسئلة والتساؤلات وتزداد حدة واستهجاناً وعلى لسان الجميع. في هذا المناخ، كان من الطبيعي أن أعقد مقارنة بين موقف أدونيس من الثورة الإسلامية في إيران المملوء بالترحيب والتمجيد والتعظيم، وموقفه المراوغ من الثورة الشعبية في سورية المملوء بالسلب والاستهتار والإبهام. في الحالة الأولى، تغنّى أدونيس بقم، مدينة آيات الله والحوزات والمقامات والجوامع والزوايا والعلوم القروسطية والمشاكسات الفقهية، كما لم يتغنّ بها أي صاحب قناعات علمية راسخة وأفكار حداثية صادحة قبله أو بعده. عجزت الكلمات، في تلك اللحظة، عن قول ما في »زفير أدونيس وشهيقه« من تمجيد للثورة الإسلامية في إيران ومن الاعتزاز والاعتداد بها بصفتها »كاتبة فاتحة الممكنات لشرقنا« الهامل. قارن هذا كله بتلعثم أدونيس ومراوغته وتردده وتأتأته وفأفأته وغموضه وسلبيته في القول عن الثورة الشعبية في سورية، ثورة على طغيان وعسف ودموية وفساد فاقت كلها بما لا يقاس ما كان ينسب في يوم من الأيام من جرائم ومظالم إلى شاه إيران وحكمه. إذاً، المسألة ليست هوس صادق العظم في الحديث عن أدونيس، بل مسألة حيرة فكرية وخيبة سياسية ودهشة شخصية وصدمة ثقافية من أدونيس مجلة »مواقف« وأدونيس الحرية والتغيير والثورة والتقدم والحداثة والعلمانية والمتحوّل التي لم تصمد كلها للحظة واحدة أمام ثورة بقيادة آيات الله، ولكن أُعيد التمترس خلفها فجأة بغرض تسخيف ثورة الشعب السوري على »الثابت« إلى أبد الآبدين، وبغرض الاستخفاف بها إن لم يكن إدانتها منذ اللحظة الأولى. تضاعفت الدهشة والحيرة والصدمة لمّا نشر أدونيس رسالته المفتوحة إلى بشار الأسد (»إلى السيد الرئيس«)، في شهر حزيران (يونيو) 2011 وكانت الثورة ما زالت في طورها المدني السلمي الأول، كما كان المتظاهرون والمحتجون يتساقطون قتلى وجرحى بلا مقاومة أو حماية بالعشرات برصاص قوى ما سمّي وقتها ب »الحل الأمني - العسكري« لمشكلة الانتفاضة السورية. وزّع أدونيس لومه ونصائحه ب »العدل والقسطاس« على الطرفين »المتقاتلين« مساوياً تماماً بين القمع العسكري - الأمني الدموي من جهة وبين الشعب الأعزل الثائر من جهة ثانية. وكانت الطامة الكبرى حين خاطب أدونيس بشار الأسد »بوصفك خصوصاً رئيساً منتخباً«. هل يعتقد أدونيس حقاً أن بشار الأسد رئيس منتخب؟ من انتخبه؟ متى؟ هل أدلى كل من أدونيس والسيدة خالدة بصوتيهما في تلك الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية؟ أم أن أدونيس حاول تملق بشار الأسد مخاطباً إياه بما ليس فيه أو له، لعل بشار يرعوي ويستمع إلى نصائح أدونيس ويعمل بها إنقاذاً لسورية مما أوصلوها إليه؟ هل تعتقد السيدة خالدة أن وصف أدونيس لبشار الأسد ب »الرئيس المنتخب« يمكن أن يمر من دون ضجة ونقد واستهجان أو حتى من دون اتهامات وتأويلات ذات طابع مذهبي؟ تنفي السيدة خالدة أن يكون أدونيس قد استخدم خطاباً مشائخياً قروسطياً في مقالاته السابقة (عن الثورة الإسلامية في إيران) بغرض التنظير ل »ولاية الفقيه« والدفاع عنها بمصطلح لاهوتي - شيعي عتيق، وعبر مقولات دينية صرفة مثل النبوة والإمامة والولاية والاستلهام، كما زعمت أنا أنه فعل. تقول السيدة خالدة متسائلة: »المؤكد أن العظم لم يقرأ الكلام على ولاية الفقيه في مقالاته (أي أدونيس) حول إيران، فمن أين جاء بهذا التوصيف وهل يعرف المصدر حقاً؟ أم هي بعض الإشاعات...، إذاً على أي نص استند الدكتور العظم ومن أين جاء هذا الكلام؟... فأين هو التبشير والتنظير أو شرح ولاية الفقيه كأنها استمرار للنبوة؟ وهل هذه لغة صفراء قروسطية؟ الجواب عند القارئ«. هنا أدعو السيدة خالدة والقارئ للرجوع إلى النص التالي لأدونيس والنظر جيداً في محتواه ومغزاه ومبناه حيث يشرح المعنى الأعمق للثورة الإسلامية في إيران: »وبديهي أن سياسة النبوة كانت تأسيساً لحياة جديدة، ونظام جديد، وأن سياسة الإمامة، أو الولاية اهتداء بسياسة النبوة أو هي إياها، استلهاماً، لا مطابقة. ذلك أن لكل إمامة أو ولاية عصراً خاصاً، وأن لكل عصر مشكلاته الخاصة. هكذا تكمن أهمية سياسة الإمامة، بل مشروعيتها، في مدى طاقتها على الاجتهاد لاستيعاب تغير الأحوال، وتجدد الوقائع بهدي سياسة النبوة«. (مجلة »مواقف« العدد 34، شتاء 1979، ص 158). هل لهذا الفهم الأدونيسي لمعنى الثورة الإسلامية في إيران أي حظ من حداثة أدونيس أو علمانيته أو تنويريته أو متحوّله أو ثوريته أو إبداعيته؟ أم أنه استرجاع حرفي تقريباً لمنطق الفقه الشيعي القروسطي بمصطلحاته وغيبياته؟ علماً أن الماثل في الأذهان حتى اليوم هو تكريس أدونيس نفسه ونشاطه الثقافي لتثبيت دعوته الشهيرة »للانفصال كلياً عن الماضي والموروث« و »لنقد كل ما هو سائد وشائع« نقداً يؤدي إلى »إزالتها كلها تماماً« لأنها »مملكة من الوهم والغيب تتطاول وتستمر« (انظر مجلة »مواقف« عدد 6، 1969، ص 3). بالنسبة الى إنهاء أدونيس قطيعته الطويلة مع نظام الحكم الأمني - العسكري - الأسدي، لا بد من التأكيد أن القطيعة لم تكن أبداً مع سورية نفسها أو مع الثقافة فيها، بل مع النظام المذكور ومع أجهزته الثقافية وأدواته الإعلامية وجرائده ومجلاته وأجهزة إعلامه المرئية والمسموعة والتي لم يقترب منها أدونيس لمدة نصف قرن، مع العلم أنها بادلته المقاطعة هي أيضاً وفقاً لسياسات النظام المعروفة مع الثقافة المستقلة ومع المثقفين النقديين. من هنا مصدر الكثير من القلق والدهشة في أوساط ثقافية واسعة في سورية ولبنان من ترحيب النظام بعودة أدونيس إلى دمشق والسماح له بإعطاء دروس وإلقاء محاضرات في جامعة دمشق بالإضافة إلى تلبيته دعوة لنشر مقالات أسبوعية في جريدة »الثورة« التابعة لوزارة »الحقيقة والإعلام« في سورية. هنا تتساءل السيدة خالدة: عندما يقول صادق العظم بأن أدونيس صالح النظام وكتب في جريدة »الثورة«، »ما معنى مصالحة النظام؟« و »هل الذهاب إلى بلد مصالحة؟« و »هل بدّل أدونيس أفكاره لمّا كتب في جريدة الثورة؟« لا تكمن المشكلة هنا في مجرد زيارة بلد أو محض الكتابة في جريدة من جرائد النظام، بل في الظرف الذي اختار أدونيس فيه إنهاء قطيعته المديدة مع النظام العسكري - الأمني والتصالح إن لم يكن معه كلياً فمع وزارة إعلامه وجرائدها اليومية. أقدم أدونيس على خطوته التصالحية إياها في اللحظة التي كان جيش سورية الأسد يحاصر مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين وينهمك في تدميره تدميراً كاملاً في واحدة من أكثر معارك الحرب اللبنانية شراسة وطولاً وبمشاركة قوات »الصاعقة« وميلشيات حزب الكتائب والجبهة اللبنانية. وكما هو معروف، تمّ محو المخيم محواً كاملاً عن وجه الكرة الأرضية بعد تعرض سكانه لمذابح رهيبة (المعروفة بمذبحة تل الزعتر) تفوق أعداد ضحاياها مذابح صبرا وشاتيلا المسؤول عنها الجيش الإسرائيلي على أثر احتلاله بيروت عام 1982 بعد حصار دامٍ وطويل. قام رهط من المثقفين السوريين وقتها بإصدار بيان يشجب ويستنكر الدور الذي يقوم به جيش سورية الأسد في الإجهاز على مخيم تل الزعتر والمشاركة في المذابح الجارية فيه. ونال الموقعون على البيان يومها نصيبهم من عسف الأجهزة ومن الاستدعاءات الأمنية والتحقيقات الاستخباراتية إلى آخر ذلك مما هو معروف جيداً عن سلوك الدولة البوليسية في سورية. أضيف إلى ذلك، أنه في الوقت الذي أخذ أدونيس يكتب في جريدة »الثورة«، كان الموظفون الرسميون في الجريدة نفسها يشعرون بالإحراج الشديد والكبير أمام هول ما يحدث في مخيم تل الزعتر وهم في ارتباك وحيرة من أمرهم بالنسبة إلى ما يمكنهم أن يكتبوه في اليوم التالي في تبرير ما يفعله جيش سورية الأسد بالفلسطينيين في لبنان وتسويغه والدفاع عنه. تسأل السيدة خالدة: »وهل بدّل أدونيس أفكاره لمّا كتب في جريدة الثورة؟«، قد لا يكون بدّل أفكاره، لكنه لو كتب الأفكار المتقدمة التي كان من المعروف أنه يحملها ويتبناها ويدافع عنها ويروّج لها لما نشرت جريدة صفراء مثل جريدة »الثورة« شيئاً منها. ولتُؤكّد السيدة خالدة »الفجوة« المفترضة حينها بين أدونيس والنظام، تشير إلى حادثة طرده من اتحاد الكتّاب لاحقاً جداً، تقول: »ولما طرد أدونيس من اتحاد الكتّاب السوريين (الإسم الرسمي هو: اتحاد الكتّاب العرب) لم تُكتب كلمة واحدة، لم يرتفع صوت سوري واحد... باستثناء اعتراض للمفكر الراحل أنطون مقدسي وانسحاب الكاتبين الكبيرين حنا مينة وسعدالله ونوس من الاتحاد«. لم تُكتب كلمة واحدة من أحرار المثقفين في سورية بشأن حادثة الطرد لسبب معيّن: ماذا تفعل قامة ثقافية وشعرية، عربية وعالمية من عيار أدونيس في اتحاد كهذا أصلاً؟ اتحاد يعرف كل صاحب صلة بأنه يُدار من جانب الاستخبارات العسكرية والجوية وما إليه، وعلى رأسه قزم اسمه علي عقلة عرسان بوصفه الرئيس »المنتخب« والذي دامت رئاسته للاتحاد 30 سنة بالتمام والكمال وبلا انقطاع. بالمناسبة، كتبتُ يومها في مجلة »الحرية« الاسبوعية في بيروت تعليقاً على حادثة الطرد قلت فيه: »لا يمكنني الاحتجاج على طرد أدونيس من اتحاد الكتّاب العرب في دمشق على طريقة حنا مينة وسعدالله ونوس لأنني لست عضواً في اتحاد كهذا حتى أحتج بالانسحاب منه«. لذا يكون من الأفضل للسيدة خالدة أن تفاخر بحادثة الطرد بدلاً من اعتبارها إبعاداً لأدونيس وعلامة جفاء من جانب النظام نحوه. في المقابل، زَعمَت أن مرسوماً جمهورياً صدر وإجراءات استثنائية اتخذت في سورية »لافتتاح دورة خاصة للبكالوريا كي يستكمل الدكتور صادق جلال العظم أوراقه ويتمكن من التعليم في الجامعة« (جامعة دمشق). في الواقع لم يصدر مرسوم جمهوري بفتح دورة بكالوريا خاصة بصادق العظم. في تلك الأيام كان صدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد قد أعلنوا عن حملة لاستعادة الكفاءات العلمية الموجودة في الخارج واسترجاع العقول المهاجرة إلى أوطانها. تراكمت لدى وزارة التربية في سورية وقتها أعداد لا بأس بها من السوريين الحاصلين على درجات علمية عليا ولكنهم لم يكونوا من حملة البكالوريا السورية، لسبب ما، وكانوا من خريجي جامعة الأزهر في معظمهم. ولمّا تحولت مسألة الشهادات العليا والبكالوريا السورية إلى فضيحة تربوية وإلى مادة دسمة للسخرية والتندر والنقد اللاذع في الأوساط المثقفة، قام الطيب الذكر الدكتور عدنان بغجاتي، وكان وزيراً جديداً للتربية وقتها، بحل المشكلة (بعد مداولات كثيرة ومناقشات طويلة) عبر افتتاح دورتين تكميليتين في السنة لامتحان البكالوريا، مخصصتين لحملة الشهادات العليا وحدهم. وكان الامتحان يتألف من أربع مواد فقط، سميت »مواد متممة« وهي: اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية. شاركت كغيري ومع غيري في واحدة من هذه الدورات وتمت معادلة شهاداتي وتمكنت من التدريس في كلية الآداب. لم أُعامل معاملة استثنائية أو خاصة في سورية، ما عدا منع مؤلفاتي كلياً، تماماً مثل أدونيس ومؤلفاته (راتبي التقاعدي حتى اليوم لا يتجاوز ما يعادل 150 دولاراً أمريكياً في الشهر). سيطرت قضية سلمان رشدي وروايته »الآيات الشيطانية« على المشهد الثقافي المحلي والعالمي خلال عقد التسعينات بأكمله، وكان صمت أدونيس ومجلة »مواقف« وقتها مدوياً بكل المعايير والمقاييس. كنا أمام حكم إعدام أصدره الإمام الخميني تلفزيونياً على روائي حاصل على جائزة »بوكر« مع تحريض ديني يطلب من كل مسلم أينما كان تنفيذ حكم الإعدام هذا، مع رصد مكافأة مالية كبيرة لمن ينجح في مهمة قتل الروائي. أي نحن في حضرة حكم إعدام مبرم بلا محاكمة وبلا محكمة وبلا محامين وبلا فرصة للدفاع عن النفس أمام السطوة الدينية لصاحب حكم الإعدام هذا. لم تصدر عن أدونيس في تلك الفترة كلها كلمة واحدة دفاعاً عن حرية الفكرة أو التعبير أو الأدب أو الفن أو الرواية أو حتى عن حق الكاتب في الحياة وفي المحاكمة العادلة، إن لزم الأمر. تقول السيدة خالدة بهذا الصدد: »أما انتقاد أدونيس بأنه لم يدافع عن سلمان رشدي، فكل ما كان يستطيعه أدونيس هو نشر ترجمة عربية لدفاع رشدي عن نفسه في مجلة »مواقف«، لكن عمال المطبعة رفضوا أن يصفّوا النص«. حسناً، هل تريدني السيدة خالدة أن أقتنع بأن أدونيس الحرية والتغيير والإبداع والعلمانية والعالمية لا يستطيع حقاً أن يفعل أمام قضية حرية وثقافة وأدب وعدالة بهذا الكبر والخطورة والاتساع إلاّ أضعف الإيمان، أي مجرد نشر نص مترجم لرشدي في مجلة »مواقف« لا أكثر؟ وهو النشر الذي لم يتم لعذر أقبح من ذنب. سمعتُ حكاية عمال المطبعة الإسلاميين الذين رفضوا صف مقال رشدي المترجم مما حال دون نشره في »مواقف«، سمعتها شخصياً من أدونيس في لقاء جمعنا في دمشق مع الناشر فخري كريم في صيف عام 1993، وتساءلت وقتها: هل عزت المطابع في بيروت؟ وما زلت أعتقد أن عذر أدونيس، الذي أعادت التذكير به السيدة خالدة، هو بالفعل أقبح من ذنب التقاعس والتخاذل في مسألة الدفاع عن الحرية والرواية والأدب والفن والعدالة في لحظة نموذجية لهتك ديني لكل تلك القيم والمفاهيم والمثل ودوسها تحت الأقدام جميعاً. أخيراً، هل تعتقد السيدة خالدة أن صمت أدونيس ومجلة »مواقف« عن ذلك كله كان يمكن أن يمر بلا استهجان نقدي واستنكار فكري للفجوة الهائلة بين القول والفعل، بين الشعارات المرفوعة سابقاً والمواقف الفعلية حاضراً، أو حتى بلا أي بحث عن تفسيرات مقنعة بما فيها تفسيرات مذهبية أعمق؟