يقتضي الإصلاح الشروع أولا في إصلاح مؤسسات الدولة، وهو ما لم يتم لحد الآن مع «الحكومة الملتحية» في المغرب التي وقفت عاجزة أمام أجهزة إدارية منعدمة الكفاءة ومؤسسات مترهلة ومشلولة أو فاسدة، تحتاج بدرجات متفاوتة إلى إصلاح أو تطوير... يعود ذلك إلى انعدام الإرادة السياسية لدى هذه الحكومة، لأنها لا تمتلك أية رؤية ولا أي مشروع وطنيين. فهي لا تقوم بأي محاولة لتغيير قواعد العمل وأساليبه داخل هذه المؤسسات. ويلاحظ المتتبعون أن ما تقوم به هو مجرد محاولات لإبقاء الأمور على حالها مع تغيير أشخاص بآخرين لهم ولاء لهذه الحكومة، إذ أن هذه الأخيرة لا تسعى إلى أي إصلاح، لأنها لا تهتم إلا بالاستيلاء على مفاصل الدولة، ولا تعير أي اهتمام للمصلحة الوطنية... فهي لم تتخذ لحد الآن قرارا واحدا لصالح الوطن والشعب، بل إنها تسعى جاهدة لتطبيق شريعة صندوق النقد الدولي التي تعصف بكل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. كما أنها لا تتردد في الانخراط في هذا الظلم وغيره من المظالم إلا ابتغاء مرضاة بعض القوى العظمى علَّها تساعدها على البقاء حتى تتمكن من إضعاف الدولة سيرا في اتجاه تحقيق وهم الخلافة الإسلامية... وبما أنها تنتهج أسلوب إقصاء المجتمع، فإنه يشكل سببا في فشلها، ما سيحول دون حركتها على الأرض، ويوقف أي تواصل لها مع الشعب، حيث لا شرعية لحكومة بلا إنجاز ولا إصلاح. يشكل غياب المأسسة في إدارة البلاد عقبة كأداء في وجه الإصلاح، إذ أن المؤسسات هي التي تحدد مسار الدولة ومصيرها. فعندما تكون مؤسساتها حاضنة لكل فئات المجتمع وتوجهاته دون تمييز، فإنها تكون ناجحة. لكنها تكون فاشلة حينما تكون مؤسساتها منغلقة لا تضم إلا النخبة الحاكمة وأصحاب المصالح. ويعود ذلك إلى أنه حينما تكون المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية قائمة على التعددية، فإنها تُمكِّن جميع أفراد المجتمع وجماعاته من المشاركة والابتكار والتطوير... لكنها عندما تغلق أبوابها حماية لسلطاتها السياسية والاقتصادية، فإنها تفشل، إذ تكون النخبة هي المستفيدة وحدها، ما يؤدي إلى صراع مُهَدِّد للاستقرار... تجنبا لذلك، ينبغي سَنُّ مشاركة واسعة في القرار، مع وضع قيود ديمقراطية على السلطة المدبِّرة للشأن العام... تقتضي التنمية بشتى أنواعها دعما قويا من قِبَلِ الدولة والنخبة السياسية حكومة ومعارضة، ما يفترض وجود رغبة لدى هذه النخبة في العمل من أجل إحداث تحول سياسي ديمقراطي، الأمر الذي من شأنه أن يساعد على تحقيق الرخاء الاقتصادي، لأن المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية هي أيضا مساهمة في العملية السياسية في البلاد ومنتجة لها، بل إنها تعتمد بدورها على المؤسسات السياسية للدولة. فإذا شاركت المجموعات والأطياف والتوجهات المتعددة في العملية السياسية بشكل فعلي وفعال، وتمكنت من ممارسة أنشطتها بكل ديمقراطية، ستكون مؤسسات الدولة منفتحة على الجميع ومفتوحة أمام الكل دون تمييز، ووفقا لمعايير الكفاءة والقدرة... لكن إذا حدث عكس ذلك، وأُغلقت هذه المؤسسات في وجه الجميع، وتُركت السلطة فيها للنخبة الحاكمة والموالين لها، سيؤدي ذلك عاجلا أم آجلا إلى الفشل، وربما إلى الهلاك... يرى «دارون أسيموغلو»، و»جيمس أ. روبنسون» في كتابهما « لماذا تفشل الأمم؟: جذور السلطة والرخاء والفقر» (2012) أن الدول تكون فقيرة لأن الذين يمتلكون السلطة فيها يتبنَّون توجهات تنتج الفقر، ولا يعتمدون خيارات تساعد على التخلص منه ومن غيره المشكلات التي تعوق تقدم المجتمع، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ومن ثمة فإن السبب الرئيسي الكامن وراء الفقر وغيره من المعضلات الأخرى هو الفساد السياسي للنخب السياسية التي لا ترى إلا مصلحتها الشخصية على حساب مصالح الأفراد والمجتمع الذين تم إقصاؤهم وحرمانهم من أي مشاركة في اتخاذ أي قرار... وما يعيب عن الأذهان أو يتم تجاهله هو أن المشاركة السياسية الفعلية هي الكفيلة بحلِّ هذه المعضلة. فنخبتنا السياسية والحزبية تعتمد سياسات اقتصادية قائمة على إقصاء الآخر، وهي تعمل للسيطرة على السلطة السياسية وتهميش كل من ينافسها، كما أنها تريد السيطرة منفردة على الحقوق والفرص السياسية والاقتصادية... تقتضي مواجهة الفقر وتحقيق الرخاء للشعوب، أن تقوم الدولة بنهج سياسات تفتح مؤسساتها أمام الجميع وتقوم بتفعيل دور المؤسسات السياسية، وتُقر حرية الفكر والتعبير والعمل والابتكار، دون تمييز على أساس الولاء السياسي أو الطبقي أو الطائفي أو العرقي، إذ من شأن هذا التمييز أن يجعل البلاد تدور في »حلقة مفرغة« من الفقر والفشل، ويزج بأبناء الوطن الواحد في صراع لن ينجم عنه سوى التخلف والدمار.. وما يضمن نجاح الأمم هو العمل المشترك بين مختلف مكونات المجتمع وتياراته والتعاون فيما بينها في بناء المؤسسات، والمشاركة في تدبيرها، وضمان تكافؤ الفرص أمام الجميع بناء على الكفاءة، وتوفير شروط المنافسة السياسية الديمقراطية الفعلية، والحرص على إرساء حكم القانون... لكن لا يمكن حدوث المأسسة في مجتمعنا ما دامت القبلية والطائفية منغرستين في بنيته العميقة ومتحكمتين في مسلكياته السياسية. لذا، ينبغي حصول تغيير جذري في البنيات الاجتماعية والثقافية عبر نشر ثقافة مغايرة للنزعة التقليدية السائدة حاليا في مختلف المؤسسات، حيث سيفضي هذا التغيير إلى ثقافة جديدة ترسخ المأسسة وتصونها.