كانت طنجة مدينة دولية وما زالت. نخطئ إذ نقول إنها مدينة تعيش على النمط الإسباني. اللافتات وواجهات المحلات و أسماء الشوارع وبعض المواقع تحمل أسماء إسبانية. لكن الروح المتوسطية تسكنها أيضا. روح أوسع من المعطف الإسباني. البديل المعجمي الأجنبي للغة الناس و لهجتهم هو الإسبانية، لكن فرنسا و اللغة الفرنسية حاضرة، قوية و متجذرة. دليلي في هذا القول/الانطباع هو مكتبة فرنسية . la librerie des colonnes اسمها «مكتبة الأعمدة» تقع المكتبة في شارع «باستور»، أمام فندق «رامبراند». يحيط بها من اليسار مقهى بارز بكراسيه المطروحة على القارعة، ومن اليمين ممر صغير، متوسط الإضاءة، عميق، مستطيل تشتد فيه الظلمة في طرفه الآخر. صاحبة المكتبة امرأة فرنسية في الخمسين أو أقل. رشيقة، بسيطة الملبس على طريقة الفرنسيين حين يكونون يزاولون أعمالهم. تتحرك بخفة داخل المكتبة، مثل عمود صغير متحرك، تساعدها شابة مغربية و فرنسيان، هذه هي أعمدة المكتبة الداخلية، إضافة إلى الأعمدة الخارجية التي تؤطر باب الدخول. وهو باب أحمر، لامع ولا يفتح إلا إذا دفعته بقوة تشبه الهجوم. أثار انتباهي على الواجهة الزجاجية مجموعة من الكتب الفرنسية: كتاب على غلافه «هيرمان هسه» يدخن، وكتاب آخر لمحمد شكري عنوانه «جان جوني في طنجة»، و كتاب من صنف كتب الجيب عن الشاعر الفرنسي الأكتع «بليز ساندرار». بقيت أتطلع إلى صورته على الغلاف و هو يدخن، عمره لا يتجاوز الأربعين، يده التي بترت في الحرب، كتب عنها في ديوانه «من العالم أجمع»، وقد قال عنها إنها قطعت وذهبت لتستقر مع النجوم. القصيدة كتبت على باخرة، ولبليز عادة السكر على البواخر، على موائد حولها مسافرون عاديون. ولدت فيّ واجهة المكتبة خواطر أدبية كثيرة، بل الصحيح هو أنها أشعلت فيّ نارا أدبية قلما تشتعل داخلي، أو أنها لا تشتعل إلا صبّ عليها زيت على النار الخافتة. بعد ذلك دخلت لإطفاء النار. هالني الترتيب الجميل للمكتبة. استقبلتني الفرنسية بابتسامة ومرح طالبة المساعدة و الإرشاد. قلت لها إنني سأقوم بجولة، فالمكتبة أراها لأول مرة، رغم أنني كنت أمر بجانبها دون أن أنتبه. قامت بجرد للأجنحة، وهي قليلة، جناح فيه إدوارد سعيد، وجناح للرواية الفرنسية، وجناح للعلوم وتاريخ الأدب، أثارني فيه كتاب «عن التاريخ السياسي للأدب»، وجناح للنقد الأدبي، وعليه عدد قليل من الكتب. درس هذه المكتبة هو الآتي: عدد قليل من الكتب، لكن مرتبة و مصنفة بروعة وجمال. ترتيب القليل مما لديك، و إخراجه بالمعنى الفني للكلمة. تلك أيضا هي حضارتهم منذ القدم: ترتيب عدد قليل من المصنفات العلمية وتصنيفها مما أدى إلى ازدهار المناهج. أما نحن في حضارتنا العربية الإسلامية فقد ورثنا كما هائلا عجزنا عن ترتيبه ومنهجته، مما ساهم في تأخر ظهور مناهج البحث العلمي. في الجانب العميق من المكتبة يوجد فرنسي ينظف اللوحات و يعيدها إلى مكانها. ألم أقل إنهم يقومون بإخراج مستمر لفضائهم، دون تعب. و الفرنسية طالعة نازلة على سلم متحرك بواسطة عجلات سلسلة. وعند كل نزول تلقى نظرة على الباب لاستقبال الزوار وتقديم خدمات الإرشاد إليهم. بعد أن أخذت مجموعة من الكتب، اقتربت مني وقادتني إلى أريكة مستطيلة من المخمل، وهي توجد في كل مكان من هذا الفضاء الصغير و الجميل، ودعتني إلى الجلوس لتصفح الكتب و الاطلاع على مضامينها. اشتعلت النار مجددا، لكنها نار الحسرة على مكتباتنا الخاصة بالكتاب العربي، إنك عندما تدخلها تشعر أن القيمين عليها يريدون طردك، أو ضربك حتى، أنت أيها القارئ الذي يتمنون انقراضه. أما المصيبة الأخرى، التي تنضاف إلى مصائبنا العديدة، هي انتشار المكتبات المتخصصة في الكتب السلفية. اشتريت كتابين من «مكتبة الأعمدة»، شاكرا المرأة الفرنسية على هذا الفضاء الجميل، والشابة المغربية التي لا تقل أدبا ومهنية عن عموم المشتغلين بهذه المكتبة الصغيرة، وهذا سر اتساعها. فزوروا «مكتبة الأعمدة». /