«تستطيع ان تسميه نسخة او صيغة تركية من الربيع العربي ان شئت ،وقد تنعته بصحوة شباب ضاق ذرعا بالرأي الواحد المهيمن في كل مراكز اتخاذ القرار ،وقدتفسره كتعبير جامح عن تيار عارم داخل الشعب لم يعد يطيق السكوت ،وهو يرى كل يوم عزم النظام القائم، في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بزعامة طيب اردو غان على احكام القبضة الحديدية على مقاليد الامور باستحضار شرعية أرقام صناديق الاقتراع والنجاح الاقتصادي الذي حققه البلد خلال العشر سنوات الاخيرة ، ويمكنك ان تعتبره بمثابة صفارة إنذار اولية ضد كل محاولة للتطاول من طرف الحزب الحاكم على القيم المؤسسة لتركيا الحديثة، والتي ضمنت لحد الان ،في ظروف الشدة خلال فترة الحكم العسكري كما في ظروف فترة الانفراج الديمقراطي اللاحقة -اي حتى ضمن سياقات سياسية جد مختلفة -عدم الخلط بين المجال الديني والمجال السياسي، تستطيع ان تنتقل بذهنك بين هذه التوصيفات والتأويلات كلها ، اويدفعك تفكيرك الى غيرها ،ولكن الأكيد والمحقق ان شيئا ما تحرك في أعماق الناس ودواخلهم في هذا البلد، أخذ عموم المتتبعين في الخارج ، فيما يظهر، على حين غرة ، وفاجأ كل المحللين السياسيين وصناع الراي في الشرق كما في الغرب» . هكذا حدثني ذلك الشاب التركي بساحة الطرف الأغر بلندن مساء يوم الاثنين 3يونيو الجاري وانا استفسره عن ابعاد ما تعرفه الساحة التركية من احداث ،وصلت ذروتها في تلك المظاهرات الصاخبة التي انطلقت من ساحة التقسيم في استنبول ثم عمت بعد ذلك العاصمة أنقرة وباقي مدن تركيا خلال نهاية الاسبوع، والتي ظهر فعلا انها ،بالحجم الذي أخذته و المدى الذي وصلته قد فاجأت الجميع. كلام الشاب التركي لي في شرح ما يجري في بلده كان اثناء مظاهرة ضخمة نظمتها فعاليات سياسية ومدنية من الجالية التركية المقيمة في العاصمة البريطانية، تراوحت مكوناتها ،حسبما بدا لي من اللافتات المرفوعة، بين الاحزاب السياسية اليسارية المعارضة المعروفة، وتشكيلات جمعوية وحقوقيةو ثقافية اخرى متعددة. عناصر التذمر مظاهرة ضخمة غلبت على صفوفها إجمالا فئة الشباب من الجنسين ، وجدتني بالصدفة أتابع أطوارها، بعد ان جرتني الى المكان قوة الأصوات الصادحة بالشعارات، والتي وصل صداها الى ساحة سانت جيمس سكوير حيث كنت امر وقتها قاصدا مقر مؤسسة شاتام هاوس Chatham Houseالعريقة المتخصصة في الأبحاث والدراسات الدولية،باحثا عن الجديد من الإصدارات وراغبا في الوقوف على نوعية الندوات المبرمجة لديها برسم موسم الربيع الحالي . سالت شابا تركيا كان يحيط جسمه بعلم بلده, ويهز بيده اليمنى صورة مكبرة لبعض معتقلي احداث ساحة التقسيم ويرفع اصبعي يده اليسرى تعبيرا عن إرادة الصمود والنصر ,عن تقييمه للأحداث ولما تداوله الاعلام الدولي الذي ارجع سبب التذمر والاحتجاجات الى قرار بناء مركب تجاري ضخم مكان حديقة بساحة التقسيم، اتخذته احدى السلطات الحكومية ،في مدينة بدا يعز ان تجد فيها اصلا فضاءات المجال الاخضر وفق ما قيل في المواكبات الإعلامية : أجابني بحماسة، وبلغة انجليزية غلبت عليها النكهة الشرقية «لا ليس بهذه البساطة كلها ، القرار الذي يتحدث عنه الاعلام لم يكن سوى النقطة التي أفاضت الكأس ، عناصر التذمر مما يبدو كميل تدريجي للنظام نحو فرض نوع من السلطوية authoritarianism.(هكذا نطقها )بدات منذ مدة غير قصيرة ، وهي ليست في كل الأحوال وليدة ساعة قرار بناءالمركب التجاري مكان الحديقة . أفاض الشاب التركي في تفسير بعض مظاهر هذه النزعة التسلطية مستعرضا بعض حالات التضييق على الحريات العامة الذي بدا يأخذ منحى يثير القلق وكذا سلسلة المحاكمات التي تعرض لها بعض كتاب الراي من الصحفيين . وكان مما ذكره ذلك الشاب التركي وسط إيماءات الموافقة و التأكيد والدعم من طرف الشباب الذي تحلق حوله يتابع النقاش :» لا تثقوا في انهم هناك ( يقصد السلطة ) يقومون بذلك محاربة للتمييع او حفاظا على أخلاق عامة يعتبرون انهم مؤتمنون على صيانتها ، انها مجرد ادعاءات كاذبة وتلفيقات مغرضة يراد بها احكام القبضة الحديدية ، انظر حواليك لهؤلاء الشباب التركي هنا في ساحة الطرف الأغر هل ترى من انفلات ،هل ترى من ميوعة . انهم من نفس صنف الشباب المتظاهر في ساحة التقسيم في استنبول ، شباب متعلم ،متزن،مسؤول ، يفيض حماسة وغيرة على تطور ومستقبل البلاد ، ويرفض ادعاء او سعي التنظيم السياسي الحاكم احتكار الفضيلة والنزاهة والأخلاق « ، نعم نحن نعلنها بوضوح ،نحن ضد النزعة التيوقراطية التي تخفي وجهها الحقيقي مستخدمة، باحتيال ومراوغة مقولات دينية او أخلاقية، لكننا لسنا ضد التدين وما يدخل في عداده من ممارسات روحانية، كما يريد النظام ان يوهم الراي العام لتشويه سمعتنا. تركت ساحة الطرف الأغر على دقات الدبكة التركية والاصوات المتعالية بالأهازيج والشعارات الحماسية .كانت الساعة تقارب العاشرة ليلا، و في طريقي الى ميدان بيكاديلي عرجت على شارع الهايماركت الهادئ ، شارع دور المسرح الفيكتورية افكر في الخلاصات السياسية لما رايته في ساحة الطرف الأغر من تحرك عفوي تلقائي للشباب التركي من الجالية المقيمة في لندن، وما سمعته على الطبيعة وبالمكشوف، من آراء وتقييمات وتحليلات لطبيعة ما جرى بتركيا من احداث ومن تحركات من طرف الجيل المساهم في صنعهامباشرة ،وليس فقط من طرف المعلقين عليها من بعيد في القنوات الإعلامية . جاذبية أردوغان تساءلت : ترى كيف حصل هذا ؟ الحزب الحاكم فاز في الانتخابات للمرة الثالثة على التوالي وبأغلبية مريحة ، ومؤسسات التنقيط الدولية تقر بالقفزات الاقتصادية الكبرى التي تحققت في ظرف قياسي في هذا البلد في ظل الاختيارات التي نهجها اردو غان ، بما جعله قوة اقتصادية اقليمية يحسب لها الف حساب ،والمحللون السياسيون ومؤسسات التفكير الاستراتيجي على شاكلة شاتام هاوس البريطانية ومؤسستي بروكلين والكونسل أوف فوراين رلايشن الامريكيتين، تجهد التفكير لمعرفة سر جاذبية هذه التجربة السياسية الجديدة، وهذا النموذج المتفرد ، في هذا البلد المخضرم ،الشرقي، الاسيوي بالهوية، والأوروبي بالطموح ،دون ان تخفي - هذه المؤسسات -نوعا من التسليم بالنجاح مضيفة الى التسليم بالنجاح التشجيع و التنويه ، ثم ان الاستقرار اصبح في ظل كل هذا مكسبا قارا لاتطاله الشكوك ، ومنظروا الاسلام السياسي المعتدل يؤكدون ان تلاقحا خلاقا بين الدين والسياسة وجد أخيرا في بلاد كمال اتاتورك تجسيده الميداني الراسخ والواعد، بما يفك تلك العقدة القائمة و المستحكمة في العالم الاسلامي عقدة الانسجام والتواصل بين العقل والنقل. ،واذن ماذا،ماذا بعد كل هذا؟ ما الذي ينقص في واقع المشهد التركي كما يقدم نفسه للعالم اليوم ؟ ما الذي ينقص ، متسببا في كل هذه الغضبة الجماهيرية التي تزعمها الشباب ؟اي درس يمكن استخلاصه مما حصل في الساحة التركية خلال الاسبوع الاول من شهر يونيو الجاري ؟ وهل هذا الذي يمكن استخلاصه كدرس مما جرى في الساحة التركية قابل للتعميم على الأقطار الاخرى ، خاصة تلك التي تعرف مخاضات -وعناءات- التحول الديمقراطي ؟ تداعيات تفكير وأسئلة متشعبة تزاحمت في ذهني وانا اعبر شارع الهايماركت باتجاه ميدان البيكاديلي خلال مساء ذلك اليوم من الاسبوع الاول من شهر يونيو، الذي استبد خلاله الشان التركي باهتمام كل منابر الاعلام وكل وسائط الاتصال عبر العالم . المعالجات الاعلامية ،المكتوبة منها والمسموعة، في معظمها وقفت عند المسح السريع للوقائع ، مركزة على احداث العنف والشغب والاستعمال المفرط للقوة من قبل الشرطة غير منشغلة زيادة بدلالات الحدث او خلفية الصورة . ، والمسؤولون السياسيون الغربيون في معظمهم كذلك ( اذا استثنينا كيري الذي أشار بنوع من الاحتشام الىالاستعمال المفرط للقوة ) تحفظوا في اصدار أحكام قيمة او مواقف واضحة، وهكذا مثلا فان الرئيس الحالي للاتحاد الاوروبي ، عند افتتاح القمة الروسية الأوربية اكتفى، جوابا على سؤال احد الصحفيين حول الموضوع، بان لكل بلد مشاكله، ملمحا بانه ليس مطروحا ولا واجباعلى الاتحاد الاوروبي اتخاذ موقف محدد. والباحثون الأكاديميون المتخصصون في الشان التركي الذين كانت تستضيفهم قنوات الاعلام المختلفة ، بدوا مأخوذين بوقع الاحداث وتأثيراتها المخلخلة على ما كان تراكم لديهم من معرفة وقناعات بخصوص تطورات تركيا خلال العشر سنوات الاخيرة ، ولذلك فانهم حتى مع كثرة الرؤى والتحليلات التي كانوا يطرحونها، كانوا يؤكدون على تلك اللازمة المعروفةلدي الأكاديميين « من السابق لأوانه استخلاص استنتاجات نهائية». والحق انه من السابق لأوانه ،الان وبسرعة، المجازفة بتقديم استنتاجات او خلاصات نهائية تقدم تفسيرا شموليا لما حدث، في جوانبه وزواياه كلها ، ومع ذلك فلو أخذنا موضوع انتفاضة الشباب التركي من زاوية ما ترمز اليه من مطالب ترتبط بالمفهوم العميق للديمقراطية، فان دلالة الحدث تصبح واضحة وقابلة للقراءة بكل يسر وسهولة : ومحاولة قراءة دلالة انتفاضة الشباب التركي في ضوء زاوية النظر هاته أعادت الى ذهني مرة اخرى وانا اقترب من نافورة بيكاديلي سيركوس ذلك التحديد الدقيق لطبيعة البنية العميقة للديمقراطية والفكر الديمقراطي، الذي كان وضعه جون راولز John Rawls احد اكبر الفلاسفة السياسيين المعاصرين ( ) استاذ هارفارد الذي نذر حياته الفكرية الحافلة لشرح وتوضيح المنطق العميق للثقافة الديمقراطية ، منطق عميق كثيرا ما يتناساه او يتجاهله او يقفز عليه من تعود ان يري الديمقراطية مجرد أرقام اغلبيات وأقليات ، مكتفيا بهذا التحديد لا يتجاوزه . شواهد التاريخ يميز راولز بين صنفين او نموذجين من الديمقراطيين ، الأغلبيون majoritarians من جهة ، والدستوريون constitutionnalists من جهة ثانية . الصنف الاول يعتبر ان ما تقدمه صناديق الاقتراع هو الحكم الاول والاخير والأوحد الذي يعطي للفريق الحاكم اليد الطولى ، كل اليد الطولى لاتخاذ ما يراه من قرارات وتوجهات وسياسات دونما اعتبار كبير للآراء المعارضة ، اما الصنف الثاني فانه يعطي للممارسة الديمقراطية مرتكزات واسس لاتقف فقط وبصفة حصرية عند محدد الأغلبية والأقلية وحده ، في فترة او ظرفية واحدة هي بالضرورة متغيرة متبدلة بحكم طبيعة الممارسة الديمقراطية ذاتها، بل يلتفت ، دون ان يلغي قانون العدد والأغلبية والأقلية ، الى القواعد والأسس والمرتكزات التي تتضمنها الوثائق لمرجعية ،المعيارية ، التي تتضمنها وتضمنها الدساتير او إعلانات الحقوق والقوانين الاساسية التي تتوافق عليها المجتمعات كإطار عمل قاعدي basic framework وكخيرات أولية primary goods بتعبير راولز اطار عمل وخيرات أولية لا يمكن ان تعصف بها ، بالاختيار السياسي او بمزاج الافراد الحكام قرارات او توجهات . يدخل في عداد الخيرات الأولية للثقافة الديمقراطية ، بالمعنى الذي يحدده جون راولز الحريات العامة والحقوق الفردية والجماعية وما يرتبط بها من واجب الدولة في احترام وصيانة حقوق الأقلية السياسية والأقليات العرقية والدينية والتفعيل القانوني لمبدأ التسامح , وحقوق وحريات والتزامات جماعية اخرى لا تقبل النسخ او النسف لمجرد تغير مواقع الأغلبيات والأقليات . وبشواهد التاريخ ووقائعه خلال القرن العشرين يتبين فعلا ان منطق الديمقراطيين الاغلبيين حينما يترك لوحده يشتغل دون محددات اطار العمل القاعدي والخيرات الأولية للثقافة الديمقراطية فقد يفضي الى انفلاتات وانزلاقات تهدد بنسف الديمقراطية عند الأساس . وبشواهد التاريخ السياسي الجاري حاليا في بعض الأقطار العربية ،فان حركات الاسلام السياسي التي وصلت الى السلطة (مستفيدة من موجة ربيع عربي تلكات عند البداية في مسايرته ) تملكها إغراء كبير في نسف اطار العمل القاعدي والخيرات الأولية للثقافة الديمقراطية استنادا الى منطق العدد وما أفرزته صناديق الاقتراع ، مع كل المخاطر التي تترتب على ذلك بالنسبة لحقوق الافراد وحياتهم . ويبدو واضحا اليوم ان التجربة التركية التي يقودها حزب العدالة والتنمية بزعامة اردوغان التي أعطت الانطباع لوقت غير قصير وكانها في مأمن من ذلك الانزلاق الذي يصنعه الزهو الاغلبي لدي من وضعتهم الصناديق في المقدمة ، فها هي الشواهد والوقائع والمشاهدات على الطبيعة التي يكتبها الملاحظون للشأن التركي تبين ان نظام تسلطية النظام اردو غان خطى خطوات باتجاه ما اسماه الشاب المتظاهر في ساحة الطرف الأغر بالتسلطية. هل هي لعنة التشبث بالخط الاغلبي وحده في توصيف الديمقراطية وتعيين مضامينها ؟ من المؤكد. هل سيعيد السيد اردوغان في سياق اخر ، وضمن تجربة جديدة ، وبعد ثمانين سنة خطا الاستسلام لغواية السلطة غير المحدودة التي كانت قد استبدت بزعيم الامة التركية الحديثة كمال اتاتورك؟ يذكر Andrew Mango استاذ معهد الدراسات الشرقية في لندن و كاتب السيرة البيوغرافية للزعيم اتاتورك ( Attaturk دار النشر John Murray صدر سنة 1999 , ضمن فصل بعنوان ذي دلالة « The leader is always right «الزعيم دائماً على حق « كيف أمضى اواخر ايام حكمه في بداية العشرينيات من القرن العشرين مشغولا بلقاءات مع مصممي التماثيل النمساوي هنريش كييبيل وزميله الايطالي كانونيكا لوضع ترتيبات تماثيل ضخمة تجسده في ساحة التقسيم باستمبول وفي الساحة المقابلة للمتحف الإيتنوغرافي بأنقرة و . كيف ان هذه التماثيل كانت مصدر بالنسبة للبسطاء من الاتراك التقاة الطيبين الذي كانوا قد تساءلوا فيما اذا لم يكن اتاتورك بصدد التحول الى دكتاتور . ص 458. بالطبع لا قياس مع وجود الفارق ، والسيد اردوغان لم يرد على خاطره بناء مجسدات او تماثيل ولكن ، وانت تستمع الى الشباب المتظاهر في ساحة الطرف الأغر تضامنا مع أبناء جلدتهم في مدن تركيا خلال الاسبوع الاول من شهر يونيو يحدثونك عما فعلته نشوة الأغلبية في عقول الزعماء الاتراك من حزب العدالة والتنمية ،وما تحمله هذه النشوة من مخاطر ومضاعفات ، تشعر كما لو ان هؤلا ء الزعماء يودون لو صنعوا تماثيل لهم ومجسدات في عقول الناس بما لا يجعلهم يرون اكثر من الراي الواحد ، واكثر من الفكرة الواحدة واكثر من والسياسة الواحدة . دلالة انتفاضة الشباب التركي، التي فاجأت الجميع فيما يظهر كانت لها دلالة واضحة وبليغة، دلالة تحرك وانتفاضة الاتجاه الدستوري بشكل جدي واضح لا غبار عليه ، اتجاه الديمقراطيين الدستوريين الذين يريدون تقعيد القواعد ويرفضون تسويغ النزعة التسلطية جبة بالمنطق الاغلبي وحده . وبهذا المعنى يكون الشباب التركي قد أعطى درسا أساسيا لا ينطبق على تركيا وحدها ولا يفيد تركيا وحدها ، بل ينطبق على/ ويفيد كل الأقطار التي تعيش مخاضات الانتقال الديمقراطي بكل ملابساته و مصاعبه وتعقيداته.