«لم أكن أتصور يوما أن أعيش الشرارة الأولى للربيع التركي، إنها مشاهد لن تمحى من ذاكرتي» هذه هي خلاصة حديث الأخت لبنى بغدادي العاملة بمجموعة الاتحاد الاشتراكي ليبراسيون والتي شاءت الظروف أن تعاين أحداث ساحة التقيسم الأسبوع الماضي بتركيا. لبنى البغدادي التي كانت تقيم بفندق ALKOCLAR KEBEN تروي للجريدة مشاهداتها حيث تقول «.. كان ذلك صباح يوم الجمعة الماضية كنا نتواجد بالفندق نتناول طعام الإفطار متأخرين حوالي الساعة العاشرة صباحا فتناهى إلى مسامعنا أصوات طلقات مجهولة وصراخ وجلبة، انتفضت وأطللت من الشرفة فإذا بمجموعة من الشباب يفرون من عناصر الأمن التي كانت تلاحقهم مستعملة الأعيرة النارية المطاطية والقنابل المسيلة للدموع لم أصدق عيني ودفعني فضولي إلى النزول من الغرفة والخروج إلى باب الفندق بالرغم من تحذيرات العاملين بالفندق من الخروج بالنظر إلى الأوضاع غير المستقرة في الخارج. تسمرت أمام مدخل الفندق واستفسرت الأمر فقيل لي بأن هناك مظاهرة بساحة التقسيم تحاول السلطات منعها من التقدم وأن سبب المظاهرة هو قرار الحكومة اقتلاع أشجار بالساحة وإقامة مركز تجاري بها. كانت الأجواء جد مشحونة وعناصر الأمن تعنف بشكل فضيع المحتجين تسللنا إلى جانب الساحة فشاهدنا كيف أن القوات الأمنية تواجه المحتجين بالمياه والقنابل المسيلة للدموع ففر الجميع إلى الممرات الجانبية، وبدوري غادرت الساحة في اتجاه الفندق حيث قمت بتوثيق شريط الأحداث بالصور عبر الشرفة. تواصلت الاحتجاجات وهجوم الأمن على المتظاهرين الذين فروا في جميع الاتجاهات ومنهم من دخل الفندق الذي أقيم فيه هربا من التعنيف فلحقت عناصر الأمن بهم الأمر الذي خلق فوضى بالفندق وانتشر الهلع والخوف بين السياح لدرجة أن منهم من جمع أمتعته وطلب مغادرة الفندق. استمرت الأحداث بنفس الوثيرة وغادرنا بدورنا الفندق في اتجاه المطار ونحن في طريقنا شاهدنا التعزيزات الأمنية تتوجه إلى الساحة وشاهدنا الدبابات وهي تتقدم التعزيزات. قبل أن يذبل الربيع العربي، كانت تركيا رجب طيب اردوغان تبدو كمنارة للشرق الإسلامي، على ضفاف البوسفور، بدا أن الإسلام يتناغم مع الديمقراطية وبدا أنه بإمكان المجتمع المحافظ أن يتناغم مع التنمية الاقتصادية. لقد أصبحت تركيا نموذجا، وظهر اردوغان كزعيم لعالم إسلامي صفق له الجميع من أوربا إلى خالد مشعل أو محمد مرسي. لكن الغاضبين في ساحة تقسيم كشفوا حدود هذا الوهم. طيلة 11 سنة في الحكم, أحكم حزب العدالة والتنمية قبضته على المجتمع التركي, مترجما كل المكاسب العلمانية التي حققها كمال أتاتورك، ومحطما كل الأقليات الدينية ومقزما لدولة القانون وحرية التعبير. أردوغان يريد إرساء نظام إسلامي, كما تظهر ذلك هيمنة وزارة الشؤون الدينية التي لا تخدم سوى مصالح السنة، و إعادة إبراز الحجاب وإدانة عازف البيانو فازيل ساي بتهمة الإساءة للإسلام أو منع الخمور.. لكن المجتمع المدني التركي انتفض نهاية الأسبوع، ومن السابق لأوانه الحديث عن ربيع تركي، لكن هذا التحرك يؤكد أن المجتمعات الشرق أوسطية، المتنوعة، والمتطورة و المنفتحة على باقي المجتمعات, ليست مستعدة لتقبل هيمنة إسلامية تأكل مجالات الحرية التي راكمتها عبر السنين. إنه درس لأردوغان، لكنه درس كذلك لجميع الأنظمة التي تنتمي الى إسلام استبدادي من الميحط إلى الخليج... منذ مدة، ندد العديد من المثقفين المعارضين »بالإنحرافات التسلطية« للرجل القوي في اسطمبول والاحتجاجات, والمواجهات العنيفة التي شهدتها تركيا منذ أسبوع هي تعبير عن السلوكات التحكمية والتسلطية لرئيس الوزراء, أكثر منها غضب من الأسلمة الزاحقة لمؤسسات الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. رجب طيب اردوغان مؤسس وزعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ نونبر 2002 يتربع بدون منافس على عرش هذا الحزب الإسلامي المحافظ, الذي أصبح مهيمنا على كل دواليب السلطة في تركيا بعد أن أخضع مؤسسة الجيش. »»تقسيم هي التحرير»,« شعار ر فعه المتظاهرون. ورغم رمزية الشعار، فليس هناك أي قاسم مشترك بين ما جرى في ساحة التحرير بمصر قبل سنتين, وبين ما يجري حاليا في اسطمبول. فخلال 10 سنوات من حكم حزب العدالة والتنمية. تضاعف معدل دخل المواطن التركي ثلاث مرات، و استعملت الحكومة أوربا والآمال التي تغذيها في نفوس الأتراك، لكسر البنيات الاستبدادية للدولة الكمالية القديمة. وفي ثلاث مرات أيضا استطاع الحزب الحاكم تحسين نتائجه الانتخابية في مواجهة معارضة يسارية علمانية تفتقد للنظرة الواضحة والزعامة الكاريزمية. والحقيقة أن هذا «الغضب المواطن» هو اقرب الى حركة الغاضبين التي عاشتها عواصم غربية من مدريد حتى نيويورك قبل سنة ,أكثر منها للثوارث العربية، فالحياة السياسية في تركيا تعيش منذ أزيد من نصف قرن على إيقاع انتخابات لا أحد يطعن في مصداقيتها. وبالتالي فهذا الغضب يتغذى أولا من رفض رجل تملكه حب السلطة استطاع خلال عقد من الزمن أن يراكم النجاحات, سوآء الاقتصادية أو السياسية وحتى الدبلوماسية، وجعل من بلاده قوة إقليمية ينظر إليها كنموذج من طرف جزء كبير في العالم العربي الإسلامي. العديد من المتتبعين والدارسيين للحياة السياسية التركية يرون أن »هذا الرفض والغضب يستهدف أردوغان أكثر من حزب العدالة والتنمية، سلطة رجل يقول للاتراك بالحرف. «استهلكوا واصمتوا» وبالتالي فتركيا تعيش نهاية حقبة من خلال صعود جيل من الشباب يرفض هذا النموذج الاستهلاكي المصحوب بثقل محافظ خانق« ,فحزب العدالة والتنمية يتبنى الليبرالية المطلقة في الاقتصاد، لكنه يبالغ في استغلال القيم الاسلامية في مجتمع محافظ في غالبيته، اذا ما استثنينا الطبقات المتوسطة في المدن الكبرى. بالتأكيد، تركيا اليوم أكثر ديمقراطية مما كانت عليه قبل 15سنة, قبل اطلاق الاصلاحات القوية باسم اوربا، لكنها أقل ديمقراطية بما كانت عليه قبل خمس او ست سنوات. والسبب من بين اسباب أخرى، هو أن حلم الانضمام التام والكلي الى الاتحاد الاوربي داخل أجل معقول تبخر, فالسلطة التركية راكمت في السنوات الأخيرة المتابعات والمضايقات ضد الصحفيين والمثقفين الجريئين في انتقاداتهم للنظام او الدين أمثال عازف البيانو الشهير فازيل ساي او الكاتب التركي من أصل ارميني سيفان نيسانيان. الحكومة أقرت كذلك مؤخرا قانونا يحد من استهلاك الكحول أثار جدلا واسعا, وهو القانون الذي قدم بدهاء كنص يستجيب للمعايير الصحية الاوربية، لكن العديد من الاتراك المولعين بمشروب «الراكي» هذا انذار ومؤشر آخر على أسلمة الدولة والبلد من الأعلى من خلال النموذج الجديد لنساء الطبقة السياسية المحجبات، وهو اللباس الذي كان حتى وقت قريب ممنوعا، على الاقل في هرم الدولة، ومن الاسفل تحت ضغط الرأي العام وبالاخص في الحي. وبالتالي فإن جزءا مهما من المجتمع وخاصة الشباب في المدن، يحسون بذلك كتهديد لنمط واسلوب حياتهم. واذا كان حزب العدالة والتنمية يبقى الحزب الاول في استطلاعات الرأي حول نوايا التصويت في الانتخابات المقبلة. فإن هناك جزءا آخر داخل المجتمع العلماني والنخب القديمة الغربية التي تسمى «تركيا البيضاء» وايضا الاقلية العلوية الشيعية التي تواصل تحديها للسلطة، وهذا الجزء لا يمثل سوى حوالي ثلث السكان، وهذه المظاهرات الشعبية غير المسبوقة هي نتاج الاحباط الذي تعيشه الشرائح العلمانية التي تحس انها لم تعد قادرة على التأثير على الحياة السياسية منذ عقد من الزمن. واذا كانت الاحتجاجات الواسعة في الشارع، مثل احتجاجات 2007، لم تؤثر انتخابيا على قوة حزب العدالة والتنمية، فهل سيتغير الوضع خلال الانتخابات البلدية في ماي 2014 ,ثم في خريف 2014 بالنسبة لأول انتخابات رئاسية تجري بالاقتراع العام المباشر والتي يأمل اردوغان عبرها من تعزيز سلطته أكثر؟ وفي ساحة تقسيم، ولأول مرة، اضطر اردوغان للتراجع امام ضغط الشارع، فهل هو تراجع مؤقت وظرفي قبل العودة مجددا وبقوة ؟ يبدو أن أردوغان غير مستعد للتراجع, فقد علق بكل اللباقة المتعجرفة أول أمس قائلا,إذا كانوا يسمون من يخدم الشعب بالديكتاتور، ماذا تريدون أن أفعل. اردوغان يعتبر ان «عصابة من اللصوص» لن تثنيه وأن حكومته ماضية في مشروعها لتجديد الساحة. واصفا المظاهرات بالايديولوجية, متحديا «لو كان الامر يتعلق بحركة اجتماعية, لو كان الأمر يتعلق بتنظيم مظاهرات، في هذه الحالة، اذا جمعوا 20 الف سأجمع 200 الف واذا جمعوا 100 ألف، سأجمع مليون متظاهر من حزبي. هذه اللهجة الصارمة لاردوغان والتدخل العنيف لقوات الامن و الذي اعترف انه لم يكن مناسبا، جعل بعض الاصوات داخل حزب العدالة والتنمية تنتفض وكشفت وجود بعض الانقسامات داخل السلطة. وحسب مصادر صحفية, فإن الرئيس التركي عبد الله غول هو من أمر بسحب قوات الامن من الساحة.. واذا كانت المواجهات قد توقفت في محيط ساحة تقسيم, فإنها استمرت في محيط مكاتب رئيس الوزراء في اسطمبول. لكن الاهم هو ان حركة الاحتجاجات اتسعت لتشمل العديد من المدن في البلاد (حوالي 50 مدينة) وفي كل هذه المدن خرج الشباب إلى الشوارع رافعين ايديهم مطالبين اردوغان بالاستقالة.