هو يقف هناك، وحيدا، في ضفة الجمال.. جمال الموقف، جمال السلوك، جمال الكتابة والأدب.. لا يهمه كثيرا، أن يهتم العالم به حيث هو، بقدر ما يهمه تصالحه مع الشجرة، شجرة الحياة الدائمة الإخضرار، بذلك المعنى الذي يوصينا به غوته في رائعته «فاوست».. وقوته كامنة في أن له حسابا دقيقا مع الزمن. كل يحاول ترويض صاحبه، وينجح هو دائما في أن يخاتل فخاخ القبح التي يضعها له في طريقه، بأن ينتصر عليه بالمنذور للديمومة: الكتابة. الكتابة عنده، ليست طقسا جديا، بالمعنى الذي تعني الجدية التجهم. بل هي لعب طفل أمام الساعة التي تدور، والشمس التي تطلع وتغيب. مما يجعلها، في مكان ما، تخلق دورتها وزمنها، بذلك المعنى الذي يجعلها تظل مشرقة، علامة على الذي هو، والذي كان، والذي سيصير. هي شمسه التي لا تغيب كناية عنه، أنه هنا، أنه سيبقى.. لهذا السبب، تراه يكاد يعبر خفيفا بين شعاب الوقت، مثلما تعبر الأيائل بين الفجاج، واثقة الخطو، مرفوعة الرأس، مصادقة لريح الأعالي.. ثم في تفصيل ما، تكتشف كم هي كثيرة صداقاته قيمة، كم هي قليلة عددا. فلا تكاد تجده قط وحيدا في سيرانه في الحياة (بالمعنى الذي لكلمة «الساري»)، فهو ممتلئ بصداقات تجاور خطوه، تحاور روحه، تقتسم معه كأسا وخبزا، ذاك الذي اسمه المعرفة. المعرفة بالحياة والناس والعلائق والشخوص. وكثيرا ما يتجادب الخل مع الخل ذات سؤال القلق حول مصير الإنسان أمام ضعفه كإنسان، أمام عبثية شرطه ذاك، في الإمتداد السادر الهائل، اللانهائي، للوجود. لذلك ليس مستغربا، أن تجده جارا لتشيكوف، أو مسامرا لكافكا، أو في حوار صامت مع نيتشه، أو مسائلا لبول أوستر، أو يتمشى وئيدا مع بورخيس.. هذا الصباح (صباح زمن آخر في الحياة، حياة كتابته)، فتح لنا «نافذة على الداخل»، لنسعد معه بقصص جديدة، فيها تنتال اللغة الفرحة بعميق التجربة، المنتشية بالعسل الذي تعتق بما يكفي في خابية الدواخل. مما يجعلنا، ونحن نبحث عن داخل ما في النص، في ذات الكاتب، لا ننتبه سوى بعد ورطة قراءة عاشقة، أننا إنما ولجنا إلى دواخلنا نحن، تلك التي كم بقينا نجهلها، لنفاجئ بها منضوضة أمام العين، تفضح عرينا أمام تجربة الحياة. لأنه مع «التعب»، و»الحزن»، و»الوحشة»، و «البكاء»، و»الشك»، و»الصمت»، و»الظل» (بعض من عناوين قصصه الجديدة)، ننتبه أنها ذات عناوين قصتنا كهيولى عابرة في أديم الأرض. وهنا سمو مثل هذه الكتابة القصصية، التي تجعلنا، ونحن نتشربها قراءة، لا ننتبع قصة مختلقة، ك «كذبة متفق عليها بين الكاتب والقارئ»، كما يعلمنا المعلم السيد أنطوان تشيكوف، بل نتتبع عناوين قصتنا كوجود مادي حقيقي. حينها، نخاف من النص لأنه يتكلم باسمنا حتى ونحن صامتون. هل صاحب «النظر في الوجه العزيز» و «قالت نملة»، مغربي؟.. هو أعمق من ذلك: هو ابن للحياة، ابن للكتابة، ابن للتجربة الإنسانية في معناها الكينوني الممتد. وبسبب من ذلك، هو باب اعتزاز هائلة لكل مغربي. لأن الرجل، يأخدنا، بهدوء (لكن بيقين)، إلى صفاء الفعل الأبقى في ذاكرة الزمن: الحرف. والحرف معه ليس كلمة عابرة، بل جبلا ينحث بإزميل الصدق ومطرقة السؤال. بعدها ليحاول من يحاول أن يزحزح الجبل من مكانه. وأكاد أرى تشيكوف يلتفت إليه، بذات عينه المائلة المعتبة بالتأمل، ليسأله، كما سأل ذات زمن صديقه ماكسيم غوركي في برد سبيريا: كيف يمكن لهذا الجندي الذي مر جوارنا أن يقتنع أن الرجولة ليست نياشين وأزرارا لماعة، بل هي إبعاد القدم عن الوردة في الطريق؟. وأكاد أرى طفلا يعدو في براري الفرح، آتيا إليه من بلاد تازة، العالية هناك في الجبال وفي التاريخ، كبوابة حاسمة بين المغرب والمشرق (لأن كل من عبر تازة، استباح فاس من سيوف الشرق)، كي يذكره بموعد له مع قبرة. ويسأله: يا أنا، لم التعب والوحشة والحزن والبكاء والحب والفرح والصمت والظل والشك والكهف؟ (هل تقصد كهف النسور هناك؟). هل لا بد من إفاقة النائم فينا وفيك؟. أليست تعلمنا حذامي، زرقاء اليمامة، أنه «لو ترك القطا ليلا لنام»؟. أحمد بوزفور، أنت هناك، ستبقى واقفا بالذي تنحثه في الزمن من راسخ الحرف. ومجموعتك القصصية الجديدة «نافذة على الداخل» جدر آخر ممتد لشجرة كتابتك، تلك التي ستظل مخضرة إلى الأبد. هيث لك.