الاعتراف بالواقع فضيلة، وهذا ما يرفضه بعضهم. الواقع يقول إن الحرب في الصحراء المغربية انتهت، وأن ليس هناك ما يدعو إلى التصعيد مجددا أو التلويح بها... إلا إذا كان المطلوب ابتزاز المغرب والسعي إلى استنزاف اقتصاده. الدليل على أن هناك واقعا جديدا ترفض «بوليساريو» الاعتراف به، وهو انكشاف أن القضية التي تنادي بها لا علاقة لها بالصحراويين بمقدار ما أنها مرتبطة برغبة جزائرية في لعب دور على الصعيد الإقليمي. فالجبهة المذكورة ليست سوى أداة جزائرية تستخدم في عملية ابتزاز للمغرب. لا وجود لشيء اسمه «بوليساريو» من دون الجزائر التي قرّرت الذهاب إلى النهاية في المواجهة مع المغرب من أجل تأكيد أنها قوة إقليمية لا وجود لمنافس لها في شمال أفريقيا. قبل أيّام، احتفلت «بوليساريو» بالذكرى الأربعين لتأسيسها في مخيمات «تندوف» في الجزائر حيث البؤس سيّد الموقف. كان في استطاعتها أن تفعل ذلك في ظلّ السيادة المغربية ورعايتها من دون أي ازعاج أو حرج من أي نوع كان، وفي مدينة العيون نفسها، كبرى مدن الصحراء المغربية. كان في استطاعتها أن تفعل ذلك في أجواء من الحرّية، بدل اللجوء إلى التهديدات ولغة السلاح ومشاركة الجزائر في الاستثمار في البؤس لأغراض لا علاقة لها بمصلحة الصحراويين. كان ذلك ممكنا في حال كانت «بوليساريو» حريصة فعلا على مصالح سكّان الصحراء المغربية ومستقبل أبنائهم. تدّعي الجبهة أن هناك «قضية صحراوية». الغريب أن الجزائر تلتزم هذه القضية من منطلق أنها مع «حق تقرير المصير» للشعب الصحراوي. ليس هناك من يمكن أن يكون ضدّ حق تقرير المصير لأيّ شعب كان. لكن السؤال الذي يظل يطرح نفسه باستمرار يتلخص بعبارة واحدة: أين يعيش الشعب الصحراوي ، ومن هم الصحراويون الذين تتبنّى الجزائر قضيتهم؟ الجواب بكل بساطة أن الصحراويين موجودون في كل الساحل الصحراوي، من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر. هل يمكن إنكار أن عددا كبيرا من الموريتانيين صحراويون؟ هل يمكن تجاهل أن جزءا من الجنوب الجزائري منطقة صحراوية؟ لو كانت الجزائر حريصة فعلا على حقّ تقرير المصير للصحراويين، لماذا لا تقيم لهم دولة في الجنوب الجزائري؟ لماذا لا تطالب الجزائر بأن تكون موريتانيا دولة الصحراويين؟ هناك استخدام في غير محلّه ل«حق تقرير المصير»، وهو حقّ بكل معنى الكلمة. لكنّه حقّ يُراد به باطل. هذا كلّ ما في الأمر. لا هدف ل«بوليساريو» سوى جعل سكان الصحراء المغربية ومن يعيشون خارجها، ممن في استطاعتهم العودة إليها بكلّ حرية، يشعرون بالبؤس واليأس. لذلك، نجد دائما، أن هناك من أهل الصحراء من يريد العودة إليها للعيش في ظل السيادة المغربية كمواطن يتمتع بكلّ حقوقه وفي ظلّ دستور عصري يحكم الحياة السياسية في المغرب ويتحكّم بالعلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة كلها. ليس سرّا أن «بوليساريو» جرّبت اللجوء إلى السلاح منذ استعاد المغرب صحراءه بفضل «المسيرة الخضراء» خريف العام 1975... وذلك بعد خروج المستعمر الأسباني منها. طوال تسع سنوات، أي بين 1975 و1984، حاولت «بوليساريو» بدعم جزائري مباشر وبمباركة سوفياتية (من يتذكّر الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة؟) ومساعدات ليبية أمّنها السعيد الذكر، العقيد معمّر القذّافي، السيطرة على الصحراء عسكريا. خسرت الجزائر حرب الصحراء، خصوصا بعدما استطاع المغرب تأمين حماية «الجزء المفيد» من المنطقة. تمكّن المغرب من إقامة سلسلة من الجدران في الصحراء أمّنت حماية لها من اعتداءات «بوليساريو». لم تقتنع الجزائر، إلى الآن، بأن الحرب انتهت. استمرّت بها ديبلوماسيا. هدفها واضح كلّ الوضوح ويتمثل في إقامة دولة «صحراوية» تدور في فلكها، في منطقة الصحراء المغربية، تؤمن لها ممرّا إلى المحيط الاطلسي. كلّ هدف الجزائر هو الوصول إلى وضع الدولة المتوسطية والأطلسية في آن، على غرار ما هو عليه المغرب. بكلام أوضح، تسعى الجزائر إلى أن تكون القوة الإقليمية المهيمنة في شمال أفريقيا، وذلك بدل الاهتمام بشؤونها الداخلية ومشاكلها المعقدة التي لا يمكن أن تحلّ من دون التخلي عن عقدة الدور الإقليمي. يظهر، من خلال الخطاب الذي خرجت به «بوليساريو» في الذكرى الأربعين لتأسيسها، أن الجزائر لم تتعلّم شيئا من تجارب الماضي القريب. لم تدرك الجزائر أن حرب الصحراء انتهت وأن المغرب انتصر في تلك الحرب. الأهمّ من ذلك، أن الجزائر لا تريد أن تأخذ علما بأنها خاضت، بين 1988 و1998، تجربة مرّة طوال عقد من الزمن مع التطرف الديني والإرهاب بكلّ أشكاله. لا تريد الجزائر أن تأخذ بالاعتبار أن الحرب على الإرهاب جزء لا يتجزأ من التعاون الإقليمي الذي في أساسه التعاون مع المغرب، بدل العمل على إضعافه بكلّ الوسائل المتاحة ، بما في ذلك الأداة المسماة «بوليساريو» ومن على شاكلتها من منظمات وتنظيمات وجماعات. لم يعد سرّا أن هناك علاقات مريبة بين «بوليساريو» وعصابات التهريب وكلّ ما له علاقة بالإرهاب والتطرّف في منطقة الساحل الصحراوي. هل عن طريق دعم «بوليساريو» تريد الجزائر خوض الحرب على الإرهاب الذي يستفيد حاليا من الفوضى الليبية والتونسية؟ في الذكرى الأربعين لقيام «بوليساريو» يمكن استخلاص بعض العبر: العبرة الأولى أن هناك لعبة وحيدة في المدينة. اسم هذه اللعبة مشروع الحكم الذاتي الموسع الذي طرحه المغرب للصحراء. العبرة الثانية أنه لا يمكن الرهان على البؤس المتفشي في مخيمات تندوف من أجل تغذية الحقد على المغرب. العبرة الثالثة أنّ ما يسمّى «قضية الصحراء» هي مشكلة مغربية جزائرية يمكن أن تحلّ بين الدولتين الكبيرتين بما يحفظ مصالح كلّ منهما من دون الإساءة إلى أي صحراوي، بل بما يؤمن الحياة الكريمة لكلّ من يعتبر نفسه صحراويا. المهمّ أن تبلغ الجزائر التي استقلّت في العام 1962 حالا من النضج السياسي يجعلها تترفّع عن الصغائر والتفكير السطحي، بما فيها الاعتقاد أن عائدات النفط والغاز يمكن أن تجعل منها قوة إقليمية. ما يجعل منها قوة إقليمية يتمثّل في المشاركة في الحرب على الإرهاب والتطرّف من جهة، ومقدار قليل من التواضع من جهة أخرى. وهذا يعني ، بطبيعة الحال، إدراك أنه لا يمكن أن تكون الجزائر في مواجهة مع الإرهاب داخل أراضيها وفي تواطؤ معه خارجها... من أجل ابتزاز المغرب لا أكثر. كثيرون جرّبوا ذلك قبلها ، وفشلوا.