لم تكن تلك الجمعة 24 ماي 2013 كسابقاتها في آسفي، فمنذ الساعات الأولى بدأت جموع المعزين من مختلف الفئات والأعمار تتقاطر على منزل والد المرحوم حمزة صبرو، الذي انتقل إلى دار البقاء في الساعات الأولى من صباح الاثنين 20 ماي في فرنسا، التي نقل إليها قصد العلاج من آثار الحروق البليغة التي أصيب بها وهو يؤدي واجبه المهني قبل أسبوع من ذلك في معمل إسمنت المغرب. كانت آثار الصدمة بادية على وجوه الجميع، والجو الجنائزي الذي خيم على المكان كان ينذر بأن لحظة الفراق لن تكون سهلة على عائلة الفقيد، زوجته وطفلاه الصغيران، والده ووالدته، شقيقه وشقيقاته وباقي أفراد العائلة سواء في آسفي أو الرباط أو غيرهما، ثم أصدقاء طفولته الذين ترعرع معهم في نفس الزقاق الذي أقيمت فيه خيمة العزاء، وإخوانه في الشبيبة الاتحادية والاتحاد الاشتراكي الذين قضوا معه سنوات مناضلا صادقا ذا أخلاق قل نظيرها في هذا الزمن. كاتب هذه السطور، الذي صادق الفقيد منذ 1984 وبرفقة أعز وأقرب الأصدقاء إليه منذ سنوات طويلة، صلاح الدين ألوبي ومحمد عليكان، كنا جميعا شهودا على حجم الخسارة التي أصابتنا كلنا في فقدان رجل حمل من الطيبوبة، من الحب والوفاء للناس ما لا تستطيع مفردات اللغة أن تعبر عنه. فمنذ أن صعقنا الخبر قبل بضعة أيام، ونحن نحاول أن نتزود بما تبقى من طاقة على الصبر والتحمل، نلملم شتات الذكريات والأيام الجميلة، علها تعيننا على مواجهة هذه الكارثة، كارثة فقدان أخ عزيز. الفقيد، الذي رأى النور سنة 1967، كان دوما يقدم الواجب على أي اعتبار آخر، تابع دراسته بتفان، حيث حصل على شهادة الباكالوريا من ثانوية الحسن الثاني، وبعدها دراسته العليا في كلية العلوم بالجديدة، ثم بمعهد التكنولوجيا التطبيقية بآسفي، وكان من المجموعة الأولى التي التحقت بمعمل إسمنت المغرب بضواحي المدينة سنة 1992، ومنذ آنئذ، وكما يؤكد كل الذين اشتغلوا إلى جانبه، ظل متفانيا في أداء واجبه المهني، متضامنا مع زملائه في الشغل، ومناضلا من أجل حقوقهم، وهو نفس الإحساس العميق بالواجب الذي جعله يوم الاثنين 13 ماي يتواجد في مكان الحادث المأساوي الذي سيودي بحياته، عندما وقع انفجار مفاجئ في أحد الممرات المعلقة لتسخين المادة الخام للإسمنت، مما تسبب في سقوط الأتربة الساخنة على العمال المتواجدين آنذاك بعين المكان، وإصابة عشرة أشخاص، كان الفقيد واحدا منهم، حسب ما صرح به مسؤولون في المعمل، لكنه تصريح لا يكشف بالرغم من ذلك، عن باقي تفاصيل هذا الحادث وأسبابه، لتظل العديد من الأسئلة معلقة حول إجراءات السلامة، وهل كان بالإمكان تفادي الانفجار وإنقاذ المصابين. هذه الأسئلة المقلقة، وأسباب ما حدث ذلك اليوم الحزين، كانت هي الطاغية على أحاديث جموع المعزين الذين تقاطروا صباح الجمعة الماضية على دار العزاء، وإذا كانت الآراء اختلفت حول الموضوع، فقد كان هناك إجماع على أن وفاة حمزة في ذلك الحادث خسارة لا تعوض، خسارة كان حجمها يزداد مع توالي الساعات.. وبعد صلاة الجنازة على روحه الطاهرة في مسجد المحسنين الذي ساهم وهو صغير مع أصدقائه بما ملكوا من جهد في بنائه، توجهت الجنازة إلى مقبرة بوديس، حيث قدر له أن يرقد هناك إلى الأبد، حينها بدا أن الخسارة أكبر مما يمكن أن يتصوره عقل أو يتحمله قلب .. يموت الرجال، يحدث ذلك كل يوم، لكن الذين قدر لهم أن يعيشوا حياة استثنائية، يكون موتهم أيضا استثنائيا.. إنهم يموتون بالجسد فقط، أما روحهم، أخلاقهم الرفيعة، الحب الذي ملأوا به دروب الحياة، وأضفوه على من عايشوهم، يظل خالدا.. لقد كان حمزة أحد هؤلاء، فكل ما تركه في نفوس من أحبهم وأحبوه سيبقى، سيعلو إلى السماء ويظل يرخي بظلاله عليهم، يلهم مسيرتهم ويذكرهم كل حين بأنه هاهنا، فوق هذه الأرض مر الرجل، في حياة قصيرة، تاركا تراثا بحجم الدهر كله.. رحم الله حمزة، وعزاؤنا جميعا في ابنه وليد وابنته ياسمين، يقينا أنهما سيحفظان ذكراه وسيعمران الأرض عطاء ومحبة، وصبرا زوجة الفقيد، فقد علمنا، رحمه الله، أن نواجه الشدائد بثبات وجلد، وصبرا آل صبرو، فقد رأيتم كم أحب الناس حمزة، وكيف جاؤوا من كل مكان لوداعه الوداع الأخير.. ولكم في ذلك خير عزاء.