في أواسط التسعينات، قبل انتخابه رئيسا للجزائر (يوم 27 أبريل 1999)، عبر عبد العزيز بوتفليقة (وهذا معطى ينشر لأول مرة)، في لقاء خاص مع شخصية سياسية مغربية مرموقة ومحترمة، بالعاصمة الجزائر، دام أكثر من 3 ساعات، عن قلقه الشديد من الخطر الذي يتهدد مستقبل بلد المليون شهيد، الذي ليس التطرف ولا التنافس الإقليمي مع الجيران (خاصة ليبيا القدافي حينها) سوى تفصيل ثانوي أمامه، بل خطر التقسيم. وأمام اتساع حجم الإستثمار الجزائري في مجال التسليح، والذي تجاوز 8 ملايير دولار، وهو رقم ضخم جدا في كل القارة الإفريقية، ولا يتجاوزه عربيا سوى حجم الإنفاق السعودي على التسليح (تجاوز 52 مليار دولار) وإسلاميا حجم التسليح الإيراني (28 مليار دولار)، فإن السؤال الذي ظل يتردد على الكثير من المحاميل الإعلامية، هو: لمن تتسلح الجزائر؟. وأول الأجوبة، التي ظلت تتوارد، اعتبارا لطبيعة التنافس الإقليمي، هو أنها تتسلح لمواجهة المغرب. وهذا جواب يفتقر تاريخيا، للكثير من أسباب الرجحان، ذلك أن ما ظل (وأكيد سيظل يحكم في المستقبل) العلاقات بين الرباطوالجزائر، أمنيا واستراتيجيا، هو منطق الدولة. وأن الخطة الجزائرية تجاه المغرب، لا تخرج عموما، عن منطق التدافع، الذي يتم بالوكالة من خلال دعم كل مصدر تراه صالحا لترجمة تلك الجملة الشهيرة للرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين (بوخروبة)، التي تفيد بضرورة «وضع حجرة في بلغة المغرب»، لتشوش عليه في مشيه في طريق التقدم والنماء. ولعل أكثر مجالات التراب الجزائري تأمينا عسكريا هي حدوده مع المغرب، بفضل التنسيق اليومي مع مؤسساته الأمنية، وعلى أعلى مستوى، درءا لأي سوء فهم أو أي اختراق قد يسيئ للمصلحة الأمنية المشتركة بين البلدين. بدليل المعرفة المسبقة بين العاصمتين، لأي تحرك عسكري تدريبي خاصة في مجال الطيران العسكري في حدود البلدين. وقد يفاجئ البعض أن الخطر الحقيقي الذي ظل يتهدد الجزائر، آت من حدودها الشرقية مع ليبيا ومن حدودها الجنوبية مع مالي. قليلا ما ننتبه في هذا الباب، أن أسخن الملفات الحدودية، بسبب إشكال ترسيم الحدود، تلك التي تجمع الجزائر وليبيا، وأنه إلى اليوم، لم ترسم تلك الحدود بشكل نهائي، خاصة جنوب مدينة غدامس الحدودية بين هذه البلدان الثلاث، في تجاه مناطق مدينة «جانت» في الجهة الجزائرية ومدينة «قات» في الجهة الليبية. ورغم الإتفاق الأولي الموقع بين خبراء البلدين وقياداتهم السياسية في يوليوز 2006، الذي يرسم أشكال التعاون والتنسيق بين قوات البلدين لمواجهة مخاطر الإرهاب والتهريب والهجرة السرية، فإنه لاشئ تم الإتفاق عليه بخصوص ترسيم الحدود واستغلال الثروات بتلك المنطقة البالغة الحساسية. ولا يمكن، هنا، إغفال أن القدافي ظل رسميا يطالب الجزائر باستعادة 50 ألف كلمتر مربع من الأراضي التي اعتبر أن فرنسا اقتطعتها من الإستعمار الإيطالي سنة 1913، بسبب عدم تكافؤ ميزان القوى العسكرية بين روما وباريس حينها، وغلبة الجانب الفرنسي، وألحقتها بالجزائر وأنها بالنسبة له أراض ليبية. بالتالي، فإنه رغم اتفاق 2006، ظل نظام القدافي، يدعم جماعات الطوارق ويزايد بورقة منحها إقليما مستقلا يمتد من شمال مالي حتى غدامس مرورا بالهكار الجزائري ومدينته الكبرى تمنراست. مثلما ظل يستغل بالشكل الذي يريد الفرشة المائية المهمة بالمنطقة وكذا الفرشة البترولية والغازية، مما ظل يثير غضب الجزائر وعملت باستمرار على تطويق المشكل الطوارقي عبر مبادرتها إلى احتضان عشرات اللقاءات كوساطة منها لحل ذلك المشكل الخطير سلميا، بمنطق أن تصنع أنت الحل خير من أين يصنعه الآخرون بدلا عنك ويفرضوه عليك. ولا يزال هذا الملف الشديد السخونة والحساسية مفتوحا إلى اليوم بين البلدين. والخطوة الوحيدة التي تمت حتى الآن، هي تلك المتعلقة بترسيم الحدود البحرية مع تونس، بعد تسجيل اتفاق الحدود البرية بينهما، الذي ظل موضع خلاف طيلة عهد بورقيبة، خاصة في منطقة بير الرمان، بجهة طبرقة، بالأمم المتحدة يوم 30 دجنبر 1993، في عهد زين العابدين بنعلي. بالتالي، فإن كل المخاطر التي تتهدد الجزائر جديا، آتية من جهتها الشرقية مع ليبيا والجنوبية مع مالي، وليس من جهتها الغربية مع المغرب، رغم الملف الضخم لدعم الجزائر للبوليزاريو وإساءتها لحق المغاربة في استكمال وحدتهم الترابية بجنوبهم الصحراوي حتى الحدود الرسمية مع موريتانيا وتسليحها لصحراويي الحمادة ورعايتها لهم. وأسباب الخطر هناك، اليوم، آتية من تداخل المصالح الدولية أروبيا وأمريكيا حول البترول والغاز والمياه الجوفية واليورانيوم بذلك المثلث الممتد بين أكاديز بالنيجر وكيدال وتمبكتو بمالي ومورزوك وقات بليبيا وغدامس على الحدود التونسية وتمنراست وجانيت الجزائرية. إن المخاطر الأكبر، التي تواجه الأشقاء بالجزائر، هي أن خروج بعبع الطوارق من قمقه مجدداً في الجنوب الجزائري والليبي، وفي الشمال المالي وللنيجر، إنما يعيد إلى الواجهة غنى المنطقة بثرواتها الوازنة، التي تُسيلُ لعاب القوى الدولية العظمى، من باريس حتى واشنطن.. فالأرض تلك مخزن هائل ليس فقط للبترول والغاز في الجهتين الجزائرية والليبية، بل إنها خزان مياه جوفية هائلة، وأساساً خزان كبير لليورانيوم الغني الذي اكتشف أول ما اكتشف سنة 1969، من قبل باحثين ألمان، قبل أن يصبح النفوذ الفرنسي هو الأقوى بسبب قوة التواجد السياسي والعسكري الفرنسي في دولة النيجر. ولقد حول ذلك الإكتشاف المنجمي الهائل المنطقة كلها إلى طريق حرير جديدة، تُسيلُ لُعابَ كُبريات الشركات العالمية.. وكل الاستثمارات الكبرى في الطرق الحديثة، الممتدة على آلاف الكلمترات، التي أنجزتها ليبيا القذافي والحكومات الجزائرية، المتعاقبة، في المثلث الممتد بين تمنراست الجزائرية وأغاديز بالنيجر وسبها الليبية، إنما هو محاولات لربح موقع قدمٍ في ما يُصنع هناك من قدر اقتصادي وسياسي جديد..ولعل أكثر ما يخشاه المرء هو أن يستفيق من سُباته، ذلك المشروع الفرنسي القديم ل» المجلس الجماعي للمناطق الصحراوية»، الذي ليس في نهاية المطاف سوى جغرافية بلاد الطوارق بثرواته هذه. بالعودة إلى قضية الملايير الكبيرة من الدولارات، التي تصرفها الجزائر على التسليح، بفضل الطفرة التي تحققت خلال السنوات الأخيرة في أثمنة البترول، وارتفاع مداخيلها السنوية بالميزانية العامة للدولة كفائض، فإنه لا بد من التوقف عند نوعية ذلك التسليح ومصادره. فهو أولا لا يزال مندرجا في السياقات التقليدية للتزود بالسلاح بالجزائر العاصمة، الذي يعتمد أساسا على الصناعة الروسية، سواء على مستوى الطيران أو الغواصات أو السفن الحربية أو طائرات الهلكوبتر أو الدبابات. وأن الأسواق الدولية الأخرى، التي تحوز بعض الصفقات القليلة غير ذات الوزن إذا ما قورنت بالصفقات مع موسكو، فهي أساسا إيطالية وسويدية وإسبانية وإنجليزية بأروبا، ثم بعض قطع الغيار وبعض أنواح الأسلحة الفردية وآليات الرصد والتتبع من واشنطن، ثم حجم أكبر من الأسلحة المستقدمة من جنوب إفريقيا. بالتالي،فهي أسلحة مندرجة عموما، في باب المنتجات التقليدية للأسلحة، التي لا يتحقق فيها شرط التطور التكنولوجي، كما هو متحقق في المنتجات العسكرية الأمريكية في مجال الطيران والصواريخ والرادارات أو تلك المتحققة في بعض منتجات فرنسا العسكرية في ذات التخصصات. لأنه علينا عدم إغفال أن التسليح اليو عالميا، هو تقني أكثر منه كمي، وأن الإستثمارات الحقيقية تذهب في اتجاه الأسلحة التكنولوجية المتطورة وليس صوب الأسلحة التقليدية (ذبابات وطيران ومدفعية). وكل ذلك يترجم نوعية التكوين الأكاديمي للمؤسسة العسكرية الجزائرية، التي لا تزال تصنف في خانة المدرسة العسكرية التقليدية، لما بعد الحرب العالمية الثانية. وما يجعلها مصنفة في هذه الخانة، كونها مؤسسة منعزلة على ذاتها، لا تشارك بقوة في عمليات الحلف الأطلسي وفي عمليات حفظ السلام الدولية. وأنها مؤسسة تنبني على الرؤية الميدانية العنيفة في الحلول العسكرية (مثال ما حدث في محطة أميناس البترولية مؤخرا)، وهي لا تؤمن كثيرا بمنطق الشراكة في التكوين العسكري، اعتبارا للتداخل بين السياسي والعسكري في نظام الحكم بالجزائر، وأن عقيدة الدولة لا تزال عقيدة عسكرية بمنطق زمن الحرب الباردة. بالتالي، فإن تتبع منطق التسليح الذي تعتمده مؤسسة عسكرية مماثلة، يجعل المرء يخلص إلى أن الخصم الحقيقي الذي تخشاه الجزائر واستراتيجيوها وسياسيوها وقادتها، هو خطر التقسيم الذي يتهددها من الجنوب الشرقي. أي في أكثر مناطقها غنى بثرواتها الإستراتيجية. على القدر نفسه، الذي أصبح التهديد الإرهابي خطرا خارجيا محدقا عليها، بعد نزيف المواجهات داخليا على مدى عقد التسعينات، حتى لحظة «الوفاق الوطني» التي كان أطلقها الرئيس بوتفليقة في بداية الألفية الجديدة. وهو تهديد، بلغت ناره ومخاطره مخيمات تيندوف بين عناصر البوليزاريو، التي أصبحت جزء من شبكات التهريب الدولية للسلع والمخدرات والسلاح والبشر، المنتشرة بمنطقة الساحل المترامية الأطراف. والتسليح الجزائري بكل تلك القوة، منطقيا، هو من أجل تعزيز مكانة البلد كقوة إقليمية في شمال إفريقيا، لكن عطبها أنها قوة غير مندرجة في السياق الدولي للتعاون العسكري بالحلف الأطلسي، كما هو متحقق مع المغرب. بل أكثر من ذلك، أن الإستثمار العسكري المغربي النوعي، أهم إجرائيا من نوعية الإستثمار العسكري الجزائري، خاصة في مجالات الطيران العسكري وفي مجال الرصد والتتبع وفي مجال الوقاية وفي مجال وحدات التدخل المتخصصة. مثلما أن كثافة القوة العسكرية الجزائرية عددا وعتادا توجد في جنوبها الشرقي تجاه مالي، وفي شرقها باتجاه ليبيا وتونس، أكثر من المتواجد في الجهة الغربية على الحدود المغربية. وأن الطلعات الجوية العسكرية الجزائرية اليومية توجد في تلك الجهة الشرقيةوالجنوبيةالشرقية، التي تعتبر مصادر خطر حقيقية على أمن الجزائر، حتى لا نقول على وحدتها. في سنة 1954، كما أكد لي الراحل الفقيه البصري، في تسجيل صوتي، كان التنسيق المغربي الجزائري على مستوى حركات المقاومة وجيش التحرير، قد بلغ درجة متقدمة وصلت حد الإتفاق على انطلاق عمليات جيش التحرير المغربي وجيش التحرير الجزائري في يوم واحد هو فاتح يوليوز 1954. وأن الرجل الذي كان سيلعب دورا محوريا في ذلك التنسيق، من الجهة المغربية، هو الشهيد محمد الزرقطوني، الذي كان مقررا انتقاله إلى الشمال الشرقي المغربي. لكنه استشهد رحمه الله بتناوله حبة سم، يوم 18 يونيو 1954، لحظة اعتقاله في عملية نوعية للتتبع من قبل السلطات الأمنية الفرنسية، بين فاس والدارالبيضاء، بعد أن وقع في الأسر بسبب تشابك خيوط خيانة سبق وحددت تفاصيلها في الكتاب الذي صدر في طبعتين عن سيرته رحمه الله سنة 2000 و 2003. فتم تأجيل انطلاق ذلك المشروع التحرري المغربي الجزائري المنسق، وانطلقت الثورة الجزائرية منفردة في فاتح نونبر من نفس السنة، فيما انطلقت عمليات جيش التحرير المغربي بالشمال الشرقي يوم 2 أكتوبر من نفس السنة. واستحضار هذه التفاصيل، السبب فيه، أن اليقين المغاربي (مغربيا وجزائريا)، بسبب من التهديدات الجدية التي تطال كل المنطقة، بعد الذي حدث ويحدث في مالي وفي منطقة الساحل، وأمام خطر الإرهاب وخطر مافيات التهريب المتعدد (السلاح والبشر والمخدرات) العاملة هناك، لا يمكن أن نتفاجئ رغم كل ملامح التوتر والتشنج التي تتسبب فيها هذه السياسة أو هذا القرار بين الرباطوالجزائر، ورغم كل التوتر المصاحب لملف الصحراء المغربية الغربية، لا يمكن أن نتفاجئ في القادم من السنوات (ونعتقده غير بعيد) من تحقق تعاون عسكري مغربي جزائري لمواجهة خطر خارجي يتهدد وحدة بلداننا المغاربية كلها. لأن منطق الدولة هو السائد بذكاء حتى الآن، وهو الذي يجب أن يظل سائدا، لأن المخاطر أكبر من ما يمكن تصوره.