فكأن الفقيه الريسوني الخبير المقاصدي و عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ،يطالب بأن نطمئن على صحته المعنوية السجالية ويؤكد لنا أنه بمنأى عن الخمول ، و سيعود مرة أخرى ليُشاغب في الحلبة .. فبعد الجولة التي انتقد فيها وزير الأوقاف أحمد التوفيق الذي ألقى درسا رمضانيا حول ثوابت المغرب و أشار فيه إلى الشجرة التي أظلت البيعة كما جاء في نص الآية...فأخذ عليه إدراجها في سياق تفسيره للبيعة ومقارنتها مع إمارة المؤمنين بالمغرب. و بعدما أتبعها بجولة أخرى مُصدرا بيانا يرد من خلاله على تصريح إدريس لشكر- (الكاتب الأول لحزب الاتحاد الإشتراكي) القائل « الحكومة تواجه مشاكل المواطنين بالحلال و الحرام»- مُشيرا إلى أنه سمع مرارا بعض صغار الملحدين و اللادينيين يقولون كلاما شبيها يهاجم مبدأ الحلال و الحرام... ها هو ذا يفتح جولة جديدة مخلفا من و رائه هذه المرة ،تصريحا جريئا و انتقادا دونيا في حق الفقيد المفكر محمد عابد الجابري ( و هذا في معرض خطاب له أمام طلاب علم في دولة قطر ) . و لا يُتوهّم فيما سيأتي ،أن هذا التصريح هفوة حُكم عابر مرّ مع سقْط الكلام و كان مُناسبا في حينه لتقويم شباب مازالوا في مراحل التكوين الشرعي و ردّهم ردا لطيفا لجُبّة مذهبه العقائدي ، بل نؤكد بداية : هواستنساخ لسلوك تقليدي احترازي عريق مُسطّر في متون الفقه ، يروم دوما تبخيس آليات المنطق و الفلسفة و نزع عنها شرعية الاشتغال في الدين، فقها و عقيدة ، و اعتبار استعمالها و تفعيلها لدى البعض « في الحالات القصوى» مروقا و زندقة . الداعية الجمعوي أحمد الريسوني لم يتورع إذن بوصف- هكذا- الفقيد الجابري بمحدودية الإطلاع أولا ،و انتفاء المنهج ثانيا ، ثم ناقذا إياه ، معتبرا أن منظومة التراث الأصولي لا أثر للقطيعة فيها ، و لاسيما لدى العلامة الأندلسي أبي إسحاق الشاطبي وعزا هذا النقص - لامزا بابتسامة تشي بالمكر الفقهي -، إلى اختلاف بيّن في مجال التخصص. و كأن هذا المجال (طبعا بفهمه الكلاسيكي الضيق ) عليه أن يُقيّد الفقيد و الباحث عبد المجيد الصغير (الذي همز بالمناسبة في لقبه) و يُلزمهما مسجونين داخل شعبة الفلسفة. فإذن كأنه في انتقاصه من أدائهما العلمي أمام المشارقة و وصفه بالمحدود ، خلُص شخصيا إلى أن أهل الفلسفة من أبناء بلده ، لم يصلوا فيما أنجزوه ، من أبحاث تراثية و بآليات نقدية حديثة، إلى مستوى تلك الإحاطة الدقيقة بكل التفاصيل و الحيثيات الثاوية داخل علوم الفقه و خاصة فيما يسمى بنظرية المقاصد, و كأن كل هذا المنجز الضخم الذي أبدعوه بجهد البحث وقلق الإشكال و عناء التفكير المتواصل ما كان عليه إلا الوقوف عند سياج الفلسفة و تخومها و التزام ا لحياد المطلق إزاء التراث الديني و العلوم النقلية. نعلم سلفا ، أن مفكرين استثنائيين من طراز الجابري لم يسْلمُوا من النزعات الأصولية الهجومية التبخيسية التي مازالت تسرح و تجول في مناخاتنا الثقافية بدون رقيب . فصارت الآن، كما توقعنا من مدة ، تؤرق أكثر فأكثر راهن الفكر الحداثي اليوم . و لتقريب الصورة ، يأتي الإجراء التبخيسي المعمول به في تلك البقاع مرارا بهذه الشاكلة : ----- :يتم توظيف الندوات و الملتقيات و برامج الفضائيات في المشرق كمنصة متحركة لتمرير المغالطات و رمي سهام النقد تحت ذريعة العودة إلى مصادر التراث و إلى الجدية التأصيلية فتُرسل الدعوات لكل الجهات للتعبئة -----: فتبدأ تتهاطل أحكام مهزوزة تسطيحية حُبكت بألاعيب الخلط و التهوين، و ينتصب استعلاء متعجرف لم يتجشم عناء معاينة حتى نصوص من يستهدفهم ؛ نقف فيه بسرعة على تقريع ذاتي و سهولة في التخريج للتخلص من الخصم ، بتوهم استمرارية متصلة ، لا يشوبها انقطاع ، من السلف إلى الخلف ، متغلغلة في دهاليز الماضي؛ و ما هو عند التمحيص إلا تهافت متسرع، يتغيّا بكذا صنيع، حجب مشاريع فكرية نهضوية جد متماسكة و يحاول بالتصريحات الشفوية السهلة (و لو من باب ذر الرماد على أعين الدعاة الشباب ) إزاحتها إلى الظل في انتظار أن تُقبر ...لكن هيهات الغريب أن بسبب العادة السيئة في عدم مقاربة المؤلفات بموضوعية (خاصة مشروع الجابري الذي جاء في أجزاء عدة و متسلسلة كرونولوجيا) وبالتالي عدم اقتحام شبكة كثافتها التأويلية و الإستئناس بجدة مفاهيمها ، تبقى الأفهام التي لم تصل إلى درجة استيعاب و هضم الإشكاليات المعرفية الحديثة حائرة ، تقتات من مزق ما قيل و مما يُلاك في المجالس إياها المعروفة بسمة التلقين و الحفظ. و هذا ما سقط فيه الفقيه الريسوني و يُستبان من جوابه المسجل على الشريط حين حشر الجابري و عبد المجيد الصغير في حكم واحد و دون أي حرج و بسهولة لا يُحسد عليها ،مختزلا هكذا و بقصور فادح مؤلفات متنوعة و غير متجانسة في المنهج و الطريقة ، و متضاربة في رؤيتها و تعاطيها لإشكالية الفكر المقاصدي (مند بداية تدوين أصول الفقه وصولا إلى أوجه حقبة في الأندلس و تحديدا عند الإمام الشاطبي صاحب كتاب الموافقات الشهير، الذي أبرز تقاسيمها و أصلها بعد ما كانت متناثرة تعيش جنينيا عند الأوائل ) إلى «نموذج» و احد و هوية متشابهة في المعالجة . فركنها إلى زاوية التقزيم و المحدودية .وا حسرتاه خلفية هذا الانتقاد المقتضب و الكسول فكريا ،( لأنه لم يطّلع ويُدقّق بما يكفي من الأهلية العلمية) الصادر من الفقيه أحمد الريسوني ..تقوم على مواقف مشابهة مبثوثة في عتمات القرون الوسطى و برزت مباشرة بعد انتهاء فترة تدوين علوم النقل من فقه و حديث و تفسير و في ظل احتقان سياسي و اجتماعي مُستعر كان فيه الكل، و من منطلق ايديولوجي مذهبي معين يسُوس و يدافع عن بضاعته بقتالية لا تفتر، حتى بلغتنا شرارتها اليوم نحن ورثة أزمنة هذه المناطق المغبونة ... إذن مواقف مطبوعة بظاهرة نقض وتبخيس المنطق في التراث، شهد التاريخ الإسلامي منها أشكالا نجدها في متون بعض الإخباريين و الفقهاء...هجوم شرس و حملات شديدة على المنطق و المنطقيين الذين يتمرسون بصناعته البرانية المنحدرة من بلاد الشرك «اليونان» و تحريم تعاطيه و تعليمه و التحريض على من تسول له نفسه استنباته و ادخاله كآلة استدلالية بمقدمات و حدود تعين المجتهد في استنباط نصوص النقل ( القرآن و السنة)... و للتمثيل فقط نحيل على نموذجين : الفقيه ابن الصلاح و ابن تيمية الحراني المفكر الفقيد الجابري (هذا الرجل النزيه فكرا و خُلقا ) لم يُخف أبدا الأبعاد الوظيفية و الإيديولوجية لمشروعه الإبستيمولوجي التاريخي الكبير في قراءته للتراث الإسلامي. و يتجلى هذا واضحا لكل خبير مُلمّ بمنجزه الضخم في الكيفية التي يجمع بها بين اهتمامه الأصلي بالفلسفة الإسلامية و انشغاله بفلسفة العلوم الحديثة . طريقة تقوم أساسا على جعل الابستيمولوجيا تمدنا بمفاهيم و آليات إجرائية تعيننا على الحفر و التنقيب في التراث ( وهنا تسَمَّرَ المهماز الذي يوجع البعض) برؤية معاصرة و استثمار عناصرها الايجابية في تطلعاتنا الحالية . و من هنا استلهم الفقيد الجابري مفهوم القطيعة (هذا المصطلح الأدائي المحض، يبدو أنه أفزع مرشد الإسلام الحركي فأيقضه من سُباته ) للتخلي عن الفهم التراثي للتراث و إحداث قطيعة مع بنية العقل القديم و تسليط الضوء على منظومات معرفية تشكلت في حقب- من بينها أصول الفقه-لايجاد في ثناياها و جوه فكرية استثنائية مارست الفعل العقلي و النقد الابستيمولوجي داخل ميدانها بامتياز. فكان من ثمرات هذا الكشف الطويل النفس، العمل الفقهي الألمعي ،و الجديد كل الجدة لصاحبه الإمام الشاطبي :كتاب الموافقات ...و نترك الكلمة للفقيد الجابري في هذا المقتطف القصير ليُبيّن لنا أهميته - ( حتى و لو كانت هناك اعتراضات نسبية محترمة من طرف سالم يفوت و عبد المجيد الصغير, لكن أكاديمية صارمة حتى النخاع )--- فيجعل جانب التجديد و الابداع في منهج الشاطبي في : ((تطوير ثلاث خطوات منهجية تعرفنا عنها سابقا : الخطوتان الاوليان سبق أن مارسهما قبله كل من ابن حزم و ابن رشد و هما: الاستنتاج (القياس الجامع) و الاستقراء. أما الخطوة الثالثة فقد برزت عند ابن رشد خاصة و تتمثل في التركيز على ضرورة اعتبار مقاصد الشرع فابطال القياس الفقهي و احلال الدليل أو القياس المنطقي محله.....و يأتي الشاطبي ليستلهم التطبيق الرشدي للخطوة المنهجية الحزمية و يدشن مقالا جديدا تماما في المنهج الأصولي قوامه « أن كل دليل شرعي مبني على مقدمتين»)) بنية العقل العربي 1986 وسيحلل الجابري طويلا ملاحظة ذكية للشاطبي أن أصول الفقه التقليدية ظنية بينما يجب أن يكون العلم قطعيا مبنيا على الكليات التي هي عبارة عن مبادئ صورية إلخ...... الجابري مات, لكن مشروع قراءة التراث الإسلامي الذي دشنه لعقود سيرسخ قويا بفكره، حتى يظهر البديل ....و أهمس في أذن من يريد أن يتَّعظ: ليس بأساليب الاستسهال و التمريغ يُقوض الصرح ...فهيهات * كاتب و باحث [email protected]