كانت فكرة مناظرة السلفيين وملاقاتهم في ساحة الحوار الفكري والسياسي، تهدف أساسا إلى محاولة الإنصات المتبادل، ورفع الوحشة التي كانت تباعد بيننا، نحن معشر الحداثيين الديمقراطيين، وبين هذا التيار الديني الذي وُصف بالتشدّد والغلو، والذي خرج بعض زعمائه لتوّهم من السجن بعد ما يقرب من عقد من المعاناة التي ساندناهم فيها ووقفنا ضدّ منطق السلطة في الاعتقال والتعذيب، وكان موقفنا نابعا من إيماننا بحق كل واحد في التعبير عن رأيه حتى ولو بلغ درجة كبيرة من التشدّد والغلو في الدين، لأنه يبقى رأيا شخصيا قابلا للنقاش ولا يكتسي أية قدسية، كما كان موقفنا مبنيا كذلك على ثقتنا في مصداقية مبادئنا وقيمنا الديمقراطية التي تجعل الاختلاف أساس دينامية التاريخ والمجتمع. كان لحواراتنا ومناظراتنا مع السلفيين والتي تهرّب منها عدد من المثقفين بسبب عدم ثقتهم في جدواها كان لها هدف وطني هو إدماج هذه الفئة من الفاعلين الإسلاميين في الحياة السياسية والثقافية للبلاد، وعدم تركهم في عزلة تكون لها نتائج وخيمة. كما كان لهذه الحوارات والمناظرات هدف بيداغوجي هو تمرين السلفيين على مبادئ الحوار مع الغير على أساس الاختلاف في المرجعية والانتماء، الاختلاف الذي يمكن أن يبلغ مداه دون أن يثير حفيظة الوعي السلفي الذي تشكل بطريقة انطوائية جعلته يُستفز عند أبسط تعبير غير مألوف في أدبيات السلفيين وأسلوبهم في التفكير والعمل . ولهذا كنت مثلا ألحّ على أن ألفت انتباه هؤلاء إلى أن صورة المغرب لا تتطابق مع الفكرة التي كونوها عنه: أنه مجموعة دينية منسجمة بإطلاق، وأذكرهم بأننا مجتمع يعيش مخاض تحولات عديدة، وأن في المغاربة المؤمن وغير المؤمن، وأن الدّين ليس هو نمط التديّن، وأن الدّين شيء وتوظيفاته شيء آخر، وأن كلّ نصّ يخضع لقراءات، وكل قراءة لا تحكمها فقط ضوابط فقهية قديمة بل أيضا شروط تاريخية لا مجال لتجاهلها، وأن الشخصيات الدينية كالصحابة والقادة العسكريين والخلفاء هم شخصيات تاريخية أيضا وليسوا كائنات نورانية. واستطعنا أن نزيل جزءا من الحواجز النفسية التي كانت تفصل بيننا متجهين نحو خلق مناخ وطني ملائم للحوار السلمي، حتى نجنب بلدنا ويلات الفتن التي وقعت فيها بلدان مجاورة، ومازالت تغرق في وحلها بلدان أخرى. كان أدب التناظر فنا يتغلغل في النفوس بالتدريج، ويعطي للطلبة نماذج راقية من تصريف الخصومة الفكرية والسياسية، إلى أن تدخل أحد السلفيين ممن يعانون من احتقان نفسي كبير نعرف مبعثه وأسبابه، ليطلق العنان لقاموس السبّ والشتم المعهود، مع ركاكة وإسفاف في اللغة، وسوء أدب وفظاظة، ويغرق القارب منتقيا كلمتين نطقنا بهما، قام بإعادة تشكيلهما على مقاس مآربه الخاصة، وتبعه في ذلك من تبعه، وهكذاانتقلنا دفعة واحدة من الحوار والتناظر إلى التحريض والقذف والتشهير، من التفكير إلى التكفير وتفريج المكبوت، ومن تبادل الآراء ومقارعة الحجج إلى التهديد والوعيد،، فكان أن عادت حليمة إلى عادتها القديمة. المشكل في هذه النازلة أن الشّخص المعني يتحدث نيابة عن المغاربة وكأنه لا يعلم أن من الناس من لا يرى الأمور بنفس منظاره، وهو يجزم ويحسم لوحده دون أن يعمد إلى مناقشة الفكرة التي أدلينا بها وغرضنا الإصلاح لا الإساءة، سواء أصبنا أو أخطانا، وموضوع حديثنا المواد التربوية المدرّسة لا شخص النبي، وهو يعتقد أن مراده يخفى علينا، بينما في تفكيكنا لرسالته العنيفة أكثر من اللازم، تبين أن معضلته لا تتعلق بغيرته على شخص النبي أصلا، وإنما تكمن في ما بقي في نفسه من نقاش سابق لنا لموضوع شجرات الأنساب، والتي لم نجد لها أساسا في مفهوم المواطنة الذي نتبناه، وليعذرنا الشيخ إن لم نعظمه على حساب غيره أو نفضله على الناس، لأننا لا نراه إلا واحدا منا، وإن أضاف إلى اسمه ألقابا لن تزيده شرفا، إن هو لم يعمل صالحا ولم يترك أثرا يحترمه به أبناء جنسه. خلاصة القول أن بين أدب المناظرة وهوس التكفير والتحريض والتشهير بونا شاسعا، وأن الذين مارسوا الإرهاب والعنف اللفظي لا يمكنهم في نفس الوقت أن يجلسوا إلى موائد الحوار والمناظرة، لأنّ الضدّين لا يجتمعان. وإلى حين أن يحزموا أمرهم ويختاروا بين الاثنين، نتمنى لهم الهداية وحسن المآل.