في هذا الحوار الذي خص به الباحث موليم العروسي جريدة «الاتحاد الاشتراكي» يبرز فيه أن النقاش حول التدين والعقيدة ينبغي أن يبتعد عن الحسابات السياسية ويندرج في الحقوق العامة للمواطن { إشكالية حرّية المعتقد في علاقتها بمواقف النّخب المغربية السّياسية والمدنية. هل هي مقاربات يطغى السياسي عليها أم المدني؟ أولا ماذا نعني بالنخب؟ هل هي النخب المثقفة؟ وحتى هذا المفهوم قد يتمطط لكي يشمل كل متعلم بغض النظر عن مستواه التعليمي وقد يقتصر على المثقفين المنخرطين بشكل أو آخر في الصراع والحوار من أجل تطوير المجتمع. لكن الأمر هنا قد يخص اساسا المتعلمين المنخرطين في الشأن العام سواء بنضالاتهم اليومية الرامية إلى جعل المجتمع المغربي يلج عصر الحداثة بالفعل أو بأفكارهم التي ينشرونها عبر كتاباتهم أو مواقفهم المعلنة هنا وهناك. أما فيما يتعلق بعمق سؤالك فلقد دأبنا في المغرب، ومن باب عقدة المؤامرة أن نرى وراء كل تحرك مدني ظل رجل سياسة أو هيئة سياسية. الحقيقة أنني لا أرى حضور السياسي بشكل صريح في المطالبة بحرية المعتقد. المطالبة بحرية المعتقد تأخذ أشكالا متعددة مرة صريحة وأخرى ضمنية. فمطالب الحركات النسائية مثلا والحركة الأمازيغية والحقوقية ومظاهر الرفض التي تبديها جماعات الشباب سواء بالتعري أو المطالبة بالإفطار العلني أو المطالبة بالحد من سلطات معينة كلها تتطلب حلولا سوف تفضي لا محالة إلى فك الارتباط بين الدين والدولة وإلى حرية المعتقد. المقاربة كما ترى مدنية بامتياز لكنها في نهاية التحليل سوف تلتقي بالسياسي. { ما الذي تغير في المغرب حتى سيطر هذا السؤال على الساحة الثقافية والفكرية والسياسية؟ كان من المفروض أن يطرح هذا السؤال خلال تحرير الوثيقة الدستورية لسنة 2011، لكن ملابسات عدة جعلت المثقفين الحداثيين والنخب التي تقول بالحداثة تخلف الموعد. ذلك أن التقليدانيين توصلوا بخبر يقول أن اللجنة المكلفة بتقديم مقترح الدستور تتهيأ للتنصيص على فصل الدين عن الدولة، فهبوا هبة رجل واحد ، وهو رئيس حزب العدالة والتنمية آنذاك ورئيس الحكومة حاليا لقرع طبول الحرب. فتوقفت اللجنة عن أن تقترح هذا الفصل، هذه هي الرواية. بالطبع هذه هي الأمثولة أو الخرافة أو الدعابة أو سمها ما شئت: كيف للجنة مكلفة من طرف أعلى سلطة في البلاد أن تخضع لخرجات إعلامية لفصيل واحد من المجتمع لا يمثل بالضرورة حتى التيارات التقليدانية الأخرى، فبالأحرى المغاربة؟ هذا سؤال سيما وأن بعض أعضاء اللجنة إياها (والمحسوبين على الحداثيين) طلعوا علينا زمنا طويلا بعد المصادقة على الدستور ببيانات يلومون من خلالها الحداثيين ويصفونهم تارة بالهامشيين داخل المجتمع وتارة أخرى بكونهم لم يضغطوا كما فعل ذلك التقليدانيون. هذا الكلام كله قد يشير إلى أن هناك تردد من طرف السلطة الماسكة بخيوط اللعبة، فيما يتعلق بهذا الملف: فهي تريد أن تسحب المجال الديني بشكل نهائي من زحمة السياسي وإخضاعه لمؤسسة إمارة المؤمنين في ظل التخلي عن بعض السلطات من طرف المؤسسة الملكية لقطع الطريق على أي تيار قد يصل إلى رئاسة الحكومة وتوسوس له نفسه في استعمال الدين لغرض ما. لأن في الأمر إشكال أنت تمنع وفق الدستور استعمال الدين في السياسة وتسمح للدولة باستعماله. فما الذي سوف يمنع إذن تيارا معينا من استعماله؟ وحتى يمكنك تفادي هذا الأمر لا بد من بلورة وظيفة معينة لمؤسسة إمارة المؤمنين لا يكون لها فيها دور تشريعي في الميدان السياسي، ولكن يكون على العكس من ذلك دور الحكم فيما بين المؤمنين على اختلاف دياناتهم. حتى يمكننا تجاوز ما يمكن أن يحدث في المستقبل سواء تدخل الدولة، كما حدث على عهد الحسن الثاني ضد مستشاري الاتحاد الاشتراكي بالبرلمان) أو تدخل تيارات سياسية لا ندري ما هي). تغير أيضا، أن فئات واسعة من المجتمع المغربي ضاقت درعا بالأطر الثقافية والسياسية التقليدية التي تحد من حريته وعبرت على ذلك ضمنيا أو بوضوح خلال مسيرات 20 فبراير وقبل ذلك بخرجات تكاد تكون انتحارية (عبدة الشيطان، مالي، المثليين، التشيع، التنصر....). أضف إلى ذلك كل المطالب النوعية والثقافية... { هل النقاش الفكريّ والسياسيّ الذي تعرفه فضاءات النقاش ، في نظرك صعب وغير متوازن أم له ملامح أخرى؟ أكيد أنه صعب وغير متوازن. ذلك أن التقليدانيين لا يتعبون أنفسهم في بناء الحجج ووضع التصورات إنهم يكررون بدون كلل ما عرفناه منذ ما يسمى في الأدبيات العربية بعصور الانحطاط من قبيل: «نحن أمة إسلامية ولا يمكننا أن نتخلى عن ذلك، ولقد وصل المسلمون إلى حكم العالم بتطبيقهم للشريعة فلماذا لا نحن؟...». هذه الحجج واهية ، وهم يعرفون أنه باسم الدين توقف العلم والبحث والإبداع، وباسم الدين أيضا رفضت مشاريع تحديث المغرب والتي اقترحها ملوك هذا البلد وظل الفقهاء يرفضونها ، ويرفضون كل جديد بحجة «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار...»، إلى أن استفاقوا ذات يوم فوجدوا أنفسهم محتلين من طرف من كانوا يسمونه الكافر. كما اكتشفوا أن هذا الكافر يعرفهم أكثر مما يعرفونه، بل أكثر مما يعرفون هم أنفسهم. النقاش غير متكافئ أيضا، لأن للفكر التقليداني الحرية المطلقة في استعمال الفضاءات العمومية التي يمولها دافعو الضرائب (التلفزة، الراديو، المساجد، الساحات العمومية وأعني بائعو الشرائط المسجلة والذين يتحولون بسرعة إلى دعاة)، بينما تقلص فضاءات الفكر الحداثي بل وتقيد هذه الحرية إذا لم تمنع: تقديم طلب مسبق، عدم الاستدعاء إلى برامج تناقش الأمور الدينية بينما يستدعى دعاة التقليد للبرامج التي تناقش الفكر الحداثي العلماني... ، وتسير الجرائد والمواقع الإلكترونية على نفس المنوال. لايفتح أبدا المجال لمثقف حداثي داخل برنامج تقليداني على قناة السادسة أو إذاعة محمد السادس لكن للتقليداني وبمقتضى دفتر التحملات يستدعى للبرامج الأخرى ممثل عن السلطة الدينية... لكن إذا نظرنا، من جهة أخرى إلى المجتمع فسوف نجد أن الغلبة لأولئك المطالبين بالحرية خصوصا إذا تأملنا المطالبات الحقوقية والنوعية والثقافية فكلها تظهر بشكل جلي أن الخلط بين السياسي والاعتقادات الدينية تحد من الحرية الفردية، وهنا نجد أن التيار التقليداني حيث يفقد سند الدولة حليفه الأساسي يكاد يغيب صوته نهائيا. حضور التيار المطالب بالحرية أقوى في نظري لكنه غير مهيكل وغير منظم لأنه يفتقد إلى بنيات الميديا. { السجال التقليدي والديمقراطي الذي يعرفه هذا الموضوع من جهة ، والثقافي و الديني والسياسي من جهة اخرى ، في تصوركم الى ماذا سيفضي من فرضيات على مستقبل المغرب ، خصوصا اذا ما استحضرنا من جديد أسئلة الربيع العربي ؟ لن يفضي الصراع والجدال اللذين أود أن يتحولا إلى حوار وسجال ديمقراطيين بكل ما تحمل الكلمة من معنى، إلا لفصل الدين عن الدولة وإلى حرية المعتقد. لقد علمتنا التجارب أنه مهما تراجعت الشعوب ومهما تقوقعت على نفسها فإنها تعود وتنطلق من جديد، إضافة إلى أن ما يحدث في عمق المجتمع على المستوى الفعلي هو تطور مادي وملموس نحو فصل الفضاءات. فالتقليدانيون يمكن أن يربحوا معركة اليوم لكنهم لو كان لهم بعد النظر التاريخي وراجعوا مواقف أسلافهم لرأوا أن المجتمعات تخلت كل مرة عنهم واعتنقت كل الأفكار التي كانوا يدينونها ويحاربونها. نعرف أن تدخل الدين في الشؤون الفردية للناس يطرح مشاكل عدة وعلى عدة أصعدة منها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي... ، ولذا فلا مناص من إعادة النظر الشاملة في هذا الموضوع. تدخل المثقفين يريد فقط أن يختصر الزمن ويربح الوقت، لماذا نؤجل إلى الغد ما باستطاعتنا فعله اليوم؟ { وهل الثقافة السياسية للنخب المغربية مسئولية في جانب كبير منها على غياب حوار مجتمعيّ واسع حوْل قضيّة حرّية المُعتقد؟ أكيد لثقافة النخب السياسية مسؤولية كبيرة في هذا التأخر، أو إذا شئت لغياب شجاعة النخب السياسية مسؤولية كبيرة في هذا الباب. كانت شجاعة الحركات الأمازيغية والحقوقية والنسائية والمطالبات الشبابية أشجع من النخب السياسية. فإلى حدود 2010 أي قبيل انطلاق «حركة 20 فبراير» لم يكن السياسيون يملكون الشجاعة للحديث عن هذا الموضوع. وحتى عندما طرحه شباب «حركة مالي» للنقاش بالشكل الذي طرحه به تجرأت بعض القوى المحسوبة على اليسار على التنديد بهؤلاء الشباب عوض فهم المسألة على أساس أنها عرض من أعراض الحالة النفسية وحالة الضيق التي يعيشها الشباب في علاقتهم مع أطر تقليدية أصبحت متجاوزة في الواقع لكن المشرع لم يفطن بعدلتغييرها. أنا لا أقول أنه من شأن السياسي لوحده القيام بذلك. أقول أنه على السياسي أن يستمع جيدا لما يروج في المجتمع وأن لا ينصت فقط للسلطة ويكيف عمله السياسي وفق ما تقوم به أي أن لا يكون عمله السياسي فقط ردة فعل على ما تقوم به سلطة الدولة. الإنصات لما يحدث في المجتمع هو ما يمكن السياسي من بلورة برامج الغد. والإنصات إلى الفئات الاجتماعية عوض التنديد بها هو ما يمكن من فتح نقاش وحوار عوض الصدام.. هذه مسؤولية السياسي وهو مقصر فيها.