إلى عهد قريب، لم يكن بالإمكان الحديث عن حرية الضمير أو المعتقد، وذلك لسبب بسيط هو ما كانت تعرفه الحريات في بلادنا من حصر واختناق ومنع. لكن مع التحوّلات التي عرفها المغرب، وفي ظل الخطوات الهامة التي قطعتها مسيرة الإقرار بحقوق الفرد والجماعات في قطاعات متعددة، ظهر بالموازاة مع ذلك النقاش حول حرية المعتقد. ويكتسي هذا النقاش اليوم أهميته من السياق التاريخي الذي تعيشه المجتمعات العربية، وهو سياق مطبوع بالتطرق وتنامي الفكر التقليدي والخرافي ومظاهر التعصب والعنف الإيديولوجي الفارغ الذي تمارسه مجموعات وأطراف وأحزاب تتذرّع بالدين من أجل خدمة أجندتها السياسية. أمام هذه المظاهر السلبية التي تشوّش على النهوض الفكري والحقوقي والثقافي، بات فتح النقاش حول حرية المعتقد الديني، باعتبارها جزءا لا يتجزّأ من الحريات الفردية العامة، أمرا ضروريا وملحا. والأهم منه هو أن تنخرط نخبنا فيه، كلّ من زاويته ومقاربته. كثيرون هم الذين يطلقون باسم الدين الإسلامي تهما رخيصة كالردّة والكفر وتهديد «الهوية الإسلامية»، وتهديد الأمة، أو الاتهام بالتبشير أو التشيّع الخ، يطلقونها إما تصفية لحسابات سياسية أو إيديولوجية، وإما لجهلهم بتاريخ الإسلام. وفي الحالتين معا نحن أمام تصاعد، هو في جوهره تراجع، يعوق المسار التحديثي الذي ينبغي أن نكون قطعنا فيه أشواطا كبيرة. الدفاع عن حرية المعتقد هو في عمقه دفاع عن انخراط بلادنا في القيم الكونية والإنسانية لحقوق المواطن. ومن الخطأ الفادح، أو من باب السذاجة الفكرية، أن يعتبر المرء بأن حرية المعتقد من شأنها زعزعة العقائد أو تهديد البنية المجتمعية. فقوة هذه البنية وصلابتها لا تكمن في خنْق الحديث عن هذه الحرية. هذه الحرية التي نجدها متجذّرة بكل وضوح في القرآن الكريم الذي تنصّ الكثير من آياته على حرية الإيمان واعتناق الدين إلى درجة «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (سورة الكهف، الآية 29). ولا أحد نصّبه الله ليؤوّل هذه الآيات، جهْلا، لتقول شيئا آخر غير ما يقوله ظاهرها: «ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنتَ تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (سورة يونس، الآية 99)، وغيرها كثير. إنّ معركة الحرية الدينية، في مجتمعنا الإسلامي اليوم، هي أمْ المعارك كلّها، إذ بدون الانتصار فيها، يستحيل حل المشاكل الأخرى المرتبطة بها دائما من قريب أو من بعيد. إن الله أراد الإنسان حرّا مسؤولا، ولو لم يردْه كذلك لما كان كذلك. فكل ما في الكون مسخّر للإنسان، وفي ذلك تكمن كرامته، وفي ذلك يتجلى ثقل مهمته، الإنسان مكلف في الكون بمهمة «الأمانة» التي تقتضي الحرية. حرية المعتقد، إذنْ، مسألة ضميرية. ولا يعقل عقلا أن يريد امرئ لنفسه الشرّ والخسران والعذاب. فكل من يعتقد اعتقادا ما إذن، يعتبر حتما وبالضرورة أنّ ذلك الاعتقاد حق، وأنه في مصلحته. وما دام مقتنعا بأنه حقّ، فليس في استطاعته بأيّ وجه من الوجوه الحياد عنه أو تركه، ما لم يحصل له اقتناع مغاير. وإذا ما حصل له هذا الاقتناع المغاير، ترك، بالاضطرار العقلي، كما يقول ابن رشد، الذي لا يغالب أيضا، اعتقاده السابق. إن الاقتناعات كلها اضطرارية عقلا ومنطقا. فهي لا تحصل بالإكراه. فكل ما يحصل بالإكراه هو النفاق، و ليس النفاق إيمانا و ليس فيه خيرا لا للمنافق، و لا لمن اضطره أن ينافق. إن انعدام الحرية الدينية مهد النفاق و بساطه. إن الاعتقاد ليس ثوْبا يلبس منها المرء ما يشاء، ويخلع ما يشاء. في هذا العدد من «الملحق الثقافي» نفتح نقاشا أوّليّا في الموضوع من خلال مقاربات أنثروبولوجية ودينية وفكرية آملين أنْ يثير الموضوع نقاشا علميا مثمرا نحن في أمسّ الحاجة إليْه.