في محفل رهيب ودعت مراكش ومعها المغرب بكامله يوم أول أمس الخميس 4 أبريل 2013 أحد أبنائها ومبديعيها وفنانيها.. أحد الرجال الذين رصعوا الكلام بالجمال حتى أضحى أكثر قيمة من الذهب والألماس.. مراكش تستيقظ حزينة وهي تعلن غضبها من خلال تلك الرياح العاتية التي هبت عليها في الليلة التي ستودع فيها ابنها البار محمد شهرمان.. لا أحد صدق الخبر.. لا أحد أراد أن يعيش هذه اللحظة الحزينة.. لا أحد يرغب في أن يتجرع مرارة الوداع .. وأي وداع ؟؟ وداع الرجل الأنيق، الرجل الذي لا ينطق كلاما إلا وقال وشعرا.. لا يخطو خطوة إلا وأبدع إيقاعا جميلا.. لا أحد تقبل أن يغادره محمد شهرمان إلى الأبد.. كان الصمت الممزوج بالخشوع هو الذي غطى ذلك الطابور الطويل الذي يتقدمه نعش عليه الجسد الطاهر لمحمد شهرمان.. عاش في صمت.. أبدع في صمت.. تألق في صمت.. مرض في صمت.. وحُمِل على النعش إلى متواه الأخير في صمت.. وكأني بهذا الصمت تعبير عن الفعل وتحقيق للقول.. قال شهرمان في حياته: « الكلام المرصع فقد المذاق » وهاهو يجسد برحيله أن الكلام المرصع فقد بالفعل مذاقه من خلال رحيله.. فمن يرصع الكلام بعد رحيله يا ترى؟؟ بمقبرة سيدي بلعباس في عمق المدينة العتيقة لمراكش على مقربة من سيدي بن سليمان الجزولي ومن رياض العروس ومن سيدي بوعمر والزاوية العباسية وتحت ظلال قبة ضريح أبي العباس السبتي وكل الدروب الضيقة والصغيرة في شكلها والشاسعة والكبيرة في عمقها، بكل تفاصيلها وروائح توابلها الأصيلة، حيث قضى حياته عاشقا مفتونا بمعشوقته، هذه المدينة الساحرة المتألقة في سماء الجمال.. وُرِي جَسده الترى.. رأيت الحزن في كل الوجوه.. رأيت الدموع التي لم تستطع جفون العيون أن تمنعها لتكتسح الخدود كأي نهر جارف، تعبيرا عن حب كبير للفقيد شهرمان.. وعن الحزن العميق الذي يقطع الدواخل بعوامل عنف الفراق.. كنت أحمل القلم فكرت أن أوثق اللحظة بالصوت والصورة، لكن قدماي ويداي ترتعشان من شدة هول المصاب.. الذي رحل ليس بسيطا بل هو جبل شامخ يطاول عنان السماء.. تذكرته يوما وقد ولج باب مكتب جريدة الاتحاد الاشتراكي بصمت كعادته ودون أن يحدث صوتا ليجدني وصديقي الباحث عبد الصمد الكباص والزميل الإعلامي أحمد بن عيوش.. صوره.. كلامه.. حركاته.. كانت تحضر بدواخلي وأنا أغطي هذا الحدث المفجع.. خانتي التعابير.. وخاصمتني الكلمات.. فمن أعزي؟ وكيف أعزي؟.. هل أعزي نفسي؟ هل أعزي كل هذا الوطن الممتد على خريطة العشق والجمال وعمق البعد الإنساني في إيقاع فن اسمه الحياة.. حضر المثقفون، حضر المبدعون، الممثلون، المطربون، المخرجون،المفكرون، الإعلاميون من الصحافة الجادة، العامة من الناس وغابت القناتين الرسميتين الأولى والثانية، غاب المسؤولون الجماعيون دون استحضار ان الراحل كان موظفا بالبلدية، وهنا تذكرت مزاحه وتلاعبه المتقن بالكلمات فهو دائما يقول هذه ليست بلدية بل هي البلادة..غابت السلطات، لكن على حد قول الكثيرين خيرا فعل هؤلاء لأن الجسد الطاهر لا يمكن أن يحضر متواه إلا الطاهرون.. غادر الجمهور الغفير المقبرة وبقي ثلاثة شبان من أقارب الفقيد أحدهم جلس القرقصاء على مقربة من القبر شفتاه تتحركان وهو يردد أيات بينات من الذكر الحكيم بالسر.. مسحت بعيني فضاء المقبرة، رأيت القبور ولوحات بأسماء وتواريخ الميلاد والوفاة.. والسماء أبانت عن زرقتها الصافية وقبة ضريح أبي العباس السبتي و صومعة المسجد.. انسحبت ببطء.. وشهرمان ينبعث من جديد في في ذاكرتي استحضرت الكثير من ذكرياته، كلامه، شعره، عشقه، مشيته، أناقته،ذلك الحضور المنسوم بالنظرة الثاقبة للأشياء.. تذكرت أنه حتى حين يريد أن يوجه شتيمة عند الغضب يبدع في رسمها لتجد أنها في الاخير ليست شتما بل إبداعا.. وحتى وهو ميت عرف كيف يصيغ شعر موته حين أنتضم حوله كل هؤلاء المبدعين الذين جاءت كلماتهم مرتكبة متقطعة تلوى فيها اللسان وتثاقل واستعصى فيها الكلام.. وتدفقت الدموع كشلال صاخب فالمصاب جلل.. مولاي عبد العزيز الطاهيري، محمد زروال،عبد الكريم الفصبجي، عبد العزيز البوزاوي، أحمد بن اسماعيل، حسن هموش، عبد الحفيظ البناوي، عمر العزوزي، أحمد العادلي، عباس فراق، طاهور، وأجمعوا على أن الرجل كان عبقريا وفريدا وانه عانى الإهمال والتهميش وان فقدانه خسارة كبيرة للساحة الفنية المراكشية والمغربية، وطرحوا مرة أخرى وضعية الفنان وظروفه الصعبة في ظل النكران والجحود وعدم الاهتمام بالثروة البشرية التي هي مقياس تقدم الأمم.. مطلب العديد من المثقفين هو ان يحيى ضمير المسؤولين ويطلقوا اسم الراحل على شارع مهم أو ساحة كبرى ولما لا يطلق اسمه على المسرح الملكي..