«الكلمات المجنّحة ريحاً وألماً بهيجاً هو ما يملي شساعة الخُطى وإن ضاعت السبل»، هكذا تحدث ذات يوم الشاعر محمد بوجبيري، وينطبق هذا الحديث بالفعل عن الإصدار الجميل للصحفي العربي رياض لكتاب يرسم فيه ومن خلاله مجموعة «جيل جيلالة» عبر المسار المتميز للفنان مولاي الطاهر الأصبهاني. «لعل العربي رياض لم يقطف إلا زهرة يتيمة في رياض المغرب الفنية». يخبرنا الشاعر المتمرد الجميل إدريس أبو زيد في تقديمه للكتاب، لكن الزهرة تفوح منها الروائح الزكية رغم الأشواك الشائكة. كتاب وثيقة... كتاب شهادة... كتاب رحلة في الزمكان... كتاب الذكرى والذاكرة والمذكرة... كتاب الأصالة وتعدد الفروع، كتاب التواصل مع التاريخ الفني العميق والنبيل، كتاب الشمعة التي تحترق لتضيء الآخرين، كتاب ينقلنا إلى مسافات الزمن التي تغري بتموضع الكلمة في قعر الإنصات والاقتراب من الجسد وصورة الحياة الفنية ووجوهها وتقاطع وجوهها.توهجت نيران الأعماق وتحدث مولاي الطاهر بالقلب والوجدان والمشاعر الجياشة، وعبرت روحه الرحبة خيول الأبد القصي في الكائن. مولاي الطاهر يرفض التزويق، بل ينظر إلى العالم كما هو منذ طفولته المفعمة بالغموض والسرية والانتظار، «كان والدي السي عباس رجلا مرحاً ومتحضراً ومتفتحاً إلى أقصى حدود» ومن شابه أباه بالتبني، فما ظلم! كان ولعه بالفن والموسيقى والطرب الجميل، وهكذا فابن البط عوام...! اكتشف أن أمه الحقيقية هي الأخرى، وأن أباه الحقيقي هو الآخر، وتمزقت العواطف بين الجهات في درب الفران المشتعل بالإبداع اليومي... لب الموضوع وعمق المضامين يتشكلان بقوة في استعادة الذاكرة وصيانتها وتقديم بعض الصور المزعجة التي تُنسي الحاكي عناصر الحكي الأساسية. يستحضر السرد الذاكرة والنسيان بأصوات متعددة وصمت بضمير المتكلم والغائب. كانوا في العالم الذي في العالم الذي شيدته المجموعة، عالم رائع بحق، بعيداً عن كل تفاهات الخصوم والأعداء، عالم أجمل من كل العالمين، وأجمل من كل الفضاءات مجتمعة... مجموعة قوية بتواضعها وآلاتها وأصواتها وجديتها وكلماتها تؤمن بالطموح وتكسير الحواجز رغم صلابتها لتصل أصداؤها إلى السماوات والأرض، ولن تحول الرياح التي تهب في الجبال دون وصول أصواتها بالكلام المرصع الذي لم يفقد المذاق. كل شخصيات العمل مركزية يجمعها بنيان مرصوص وتجمعها لغة التمرد النبيل: عبد العزيز الطاهري، عبد اللطيف الجواي، إبراهيم أوجباير، أحمد بنمشيش، عبد الكريم بناني، محمد شهرمان، عبد العزيز الزيادي، عبد اللطيف شگرة، محمد الدرهم، عبد الرحمان باكو، محمود السعدي، سكينة الصفدي، حميد الزوغي، عبد الكريم، حميد بن شريف، حسن برادة، محمد مجد، عبد العظيم الشناوي ... و... الطيب الصديقي الذي غير مسار البطل... هذه الشخصيات وأخرى تتحرك داخل فضاءات متعددة ومتباعدة: دار الشباب بباب أگناو، جمعية شبيبة الحمراء، نادي كوميديا، لتنتقل المجموعة لوحدها عبر أنحاء المعمور، من الجزائر إلى الكويت، من طوكيو إلى واشنطن، من ضيافة الحريري بلبنان إلى جميع أدغال القارة العجوز. هنا وهناك بحكي الفنان على التفاصيل والجزئيات محفوفة بالسخرية والفكاهة دون أن ينسى المستملحات التي عبرت. الهرم الكبير عبد القادر الراشدي هو أول من شجع المجموعة التي عايشت من بعد انقسامات عديدة، وذلك لم يفسد للفن والإبداع قضية، عاش الفنان مولاي الطاهر قلقاً وأحزاناً، وبقيت ضحكاته المسموعة علامة على صبره وبشاشته... قضى فترات من الفراغ واليأس، وهذا لم يفت من عضده، حالات قاسية يسلط عليها الصديق المثقف محمد عمران الضوء بنوع من الزهو والاعتزاز بالنفس، كلمات عمران صادقة في حق الصديق الذي يتبادل معه السراء والضراء... وشهادات أخرى في الكتاب تعبر كلها عن مولاي الطاهر الفنان الصادق مع نفسه ومع الآخرين... شكراً مولاي! شكراً با عروب على هذا الإمتاع، وهذه المؤانسة...