مما لا شك فيه أن الشعوب الإفريقية عامة، والمشرقية خاصة، تعاني من سوء تدبير الوقت. واعتبارا للانتماء والانتساب الترابي القاري، فإن المغرب بدوره، بالرغم من تقدمه النسبي في هذا المجال، لا يخرج عن هذا التوصيف. فشعوب القارة السمراء تصنف عموما في خانة منطق اللاعقلانية في تعاملها مع الوقت، أي أنها تعتمد المقاربة اللاعقلانية في هذا المجال Approche irrationnelle. إن ثقافتنا كأفارقة و»مشارقة» و»مغاربيين» هي ثقافة لها نظرة لا متناهية للوقت (Vision infinie) تخضع لمنطق دوري (cyclique)وخيطي (Linéaire) ملتف على الزمن. إنها ثقافة يغيب فيها رمزية العقل ومنطق الزرع والحصاد (من زرع حصد)، ويطبعها في الغالب منطق المقولة: «من يزرع الريح يجني العاصفة» (هنا يمكن اعتبار مآل الثورات المشرقية أو ما سماه المتتبعون ب»الربيع العربي» هو نتيجة لخلل كبير في ثقافة تدبير الوقت). كما يمكن أن نقول عن هذه الثقافة أنها تعبر عن تناقض واضح بين الاعتقاد بأهمية الوقت واستعماله في الواقع، حيث أن الكل يعتقد بالمقولة : «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك»، لكن في الممارسة نعيش ضياعا للوقت بشكل فظيع. وعليه، فالمخرج الوحيد بالنسبة لبلادنا للابتعاد من تهديدات الدوران في الحلقات المفرغة (كما هو الحال اليوم مشرقيا) هو الحرص بكل الوسائل الممكنة على بلورة إستراتيجية محكمة تمكن الأجيال من التحكم في الوقت وتدبيره عقلانيا. ومن أجل ذلك، بات من الضروري الاستثمار في ثقافة تدبير الوقت عند الفاعلين والقيادات والزعامات ومناصب المسؤولية المنشطة لمختلف الجماعات والمنظمات والمؤسسات: المقاولة، الإدارة، الحكومة، البرلمان، الأسر، الأحزاب، النقابات، التعاونيات، المدارس، الثانويات، الجامعات، المعاهد، الوداديات، المنظمات «الشبيبية» والنسائية و»الطفولية»،....إلخ. فبتنشئة الأجيال على إتقان تدبير الوقت، سيتمكن المجتمع من تحويل «الوقت» إلى مورد أساسي في التقدم والتطور ينضاف إلى العمل والرأسمال المالي والتقني. نقول هذا لأنه ثبت تاريخيا أن تقدم الغرب كحضارة كان أساسه ثورة شملت كل ما يتعلق بتقوية مكانة الفرد في الجماعة وخصوصا تنشئته على التدبير المحكم للوقت. لقد تمكنت مؤسسات التنشئة ومؤسسات التمثيل الاجتماعي والسياسي غربيا من ترسيخ ممارسة منطق البوصلة أو الصيغة الحرفية للبوصلة في الحياة الاجتماعية (بالاستغلال العقلاني للوقت يتمكن الفرد من تراكم المعارف والقيم، وتتضح له بالتدريج ميولاته وإمكانياته الحقيقية واتجاه حياته المستقبلية). فعكس النظرة إلى الرأسمال المالي كوسيلة، تمكنت هذه المؤسسات والمنظمات من ترسيخ قناعة كون الوقت بالنسبة للفرد والجماعة عامل إنتاج ومورد لا يخزن ولا يدخر من أجل استهلاك مستقبلي, حيث برزت في هذا الشأن مقولتان هامتان لآلان لكان Alain Lakein : «الأهم في حياة الفرد هو في نهاية المطاف وقته» (L?essentiel dans votre vie c?est finalement votre temps)، «تحكم في وقتك تتحكم في حياتك» (Maîtriser son temps, c?est maîtriser sa vie). وبذلك ساد الاقتناع في الثقافة الغربية كون الوقت هو مورد وعامل إنتاج متوفر بكمية محدودة (24 ساعة في اليوم) وأن استغلاله الجيد يمكن من الرفع من مستوى إنتاج المعارف وتراكمها وتنوع السلع والخدمات والتقنيات، ومن تقدم العلوم بمختلف أنواعها. فبالوعي برمزية الوقت وأهميته في شمال الكرة الأرضية، تطورت العلوم والتقنيات والفنون. لقد أصبح تدبير الوقت عند الإنسان الغربي عقيدة تحفزه بشكل دائم على المبادرة والبحث والابتكار. فالباحث الغربي يحرص على تدبير وقته بدقة، ويراكم المعارف بسرعة، ويساهم في تقدم العلوم ووسائل الحياة. إن مسؤوليته العلمية تفرض عليه الاعتكاف في المختبرات للإسهام في خدمة مستقبل مجتمعه وحضارته. ففي مجال الطاقة مثلا، تمكن علماء الغرب في تطوير الطاقات النظيفة وتنويع مصادرها. وفي مجال الطب والصيدلة والتقنيات الحديثة، تمكن الباحثون مثلا من ابتكار جهاز السكانير وأشعة الليزر والمنظار وغير ذلك، وبالتالي التمكن من تشخيص جميع الأمراض وجميع الفيروسات والميكروبات، ويعتكفون في المختبرات لمحاربة الأمراض الجديدة وإنقاذ الملايير من الأرواح، وبالتالي الحرص على تحقيق التطور المنشود في مختلف المجالات، ومواجهة الإكراهات الجديدة برفع التحديات الحقيقية. أكثر من ذلك، لقد ارتبط رهان ترسيخ تدبير الوقت بإتقان أنماط التدبير الجديدة كتقنيات التواصل والتفاوض والترافع، والتخطيط الإستراتيجي، وتدبير منظومات الإعلام المعلوماتي، وتدبير النزاعات، وتدبير التغيير ومصاحبته، وتدبير الموارد البشرية،...إلخ. ومن أجل إفادة القارئ في هذا الموضوع، سنخصص ما تبقى من المقال إلى التطرق إلى مفهوم الوقت، وطبيعته، وخصائصه، وطرق تدبيره. 1- ما معنى تدبير الوقت؟ عندما نتحدث عن تدبير الوقت نعني بذلك التحكم في استغلاله بالتنظيم والنجاعة والمردودية، وبإعطاء الأسبقية في الإنجاز للمهام ذات الأولوية أو ما نسميه بالأولويات Priorit . إن النجاعة في استعماله مرتبطة بطبيعة الأجوبة عن الأسئلة التالية: ماذا أفعل الآن؟، وماذا سأفعل؟ وكيف سأفعل؟. إن ترسيخ العقلانية في تدبيره مرتبطة بترسيخ اعتباره مجتمعيا كثروة وطنية أو مال ثمين أو عملة ناذرة. فعندما يضيع الفرد ساعة من وقته في أشياء تافهة غربيا يحس بالندم والحزن مقارنة مع شعوره إذا ضاعت منه أو سرقت منه 10 أورو مثلا (توازي ساعة عمل). التدبير العقلاني للوقت لن يتأتى إلا في حالة تنشئة الأجيال على الصيغة الحرفية لمنطق الساعة بمجموع عقاربها: عقرب الساعات وعقرب الدقائق وعقرب الثواني. أهمية الوقت تتجلى في كونه وعاء للأفعال ومعيارا لمقارنة الإنجازات. ففي مجال تحقيق الأهداف، يقول المرء أنني أنجزت البارحة كذا وكذا، ونقول حققت الشركة الفلانية 20 مليارا كربح في الثلاثة أشهر الأخيرة من سنة 2011، ونقول كذلك لقد خلقت الحكومة 40 ألف منصب شغل مثلا سنة 2000، ونقول كذلك لو استمر المغرب في تحسين تدبير وقته السياسي منذ سنة 2002 لتمكن من الرفع من الاستثمارات، ومستوى الشغل، ومداخيل الميزانية، ونسبة التمدرس في العالم القروي، ولتمكن من التقدم أكثر في مجال حقوق الإنسان وحرية المرأة، وحقوق الطفل،...إلخ. متطلبات التدبير الجيد للوقت إضافة إلى الحرص على ترسيخ ثقافة تدبير الوقت، التحكم الدقيق فيه على صعيد كل المنظمات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، بما في ذلك الأسرة كأول مؤسسة للتنشئة، يتطلب توفير بعض الشروط والمتطلبات منها تحسين ظروف العمل، والحرص على تقوية التواصل النافع، وتجنب الاختلاط غير المنتج وغير النافع وعلاقات التسلية المفرطة والعلاقات المشبوهة غير الرسمية، وتحسين جودة مكان العمل (الإضاءة، التهوية، الهدوء،...)، واعتماد منطق التحفيز لتفادي سرقة الوقت وإضاعته في الأمور التافهة، والتضامن العائلي والتربية على منطق المردودية وخدمة المستقبل، وتجنب النقاشات العقيمة المتعبة للدماغ والنفسية، والتركيز دائما على الأهداف البناءة ذات الأولوية، وضبط المواعيد، والتوفر على أجندة عمل ببرنامج دقيق، وضبط علاقات الصداقة والقرابة وتجنب الزيارات المفاجئة المضيعة للوقت، وتجنب «الانقطاعات» عن العمل وتربية الأجيال عليها، وتجنب المكالمات الهاتفية الطويلة التي لا فائدة من ورائها، وتجنب التعاطي المفرط مع شبكة الانترنيت تفاديا للإدمان، وتجنب الإفراط في مشاهدة التليفزيون، واستعمال الانترنيت في البحث والعلم والتواصل المثمر، وترتيب وتنظيم مكان العمل (الملفات، الكتب، أوعية المعلومات،..)، والتعود على نظام زمني للتغذية، وتجنب التعود على تأجيل عمل اليوم إلى الغد والحرص على إنجاز العمل في حينه، وإتمام المهام أو العمل بدون تأجيل جزء منه إلى وقت لاحق، وتفويض المهامات غير المهمة وجد مستعجلة، وتحديد الأهداف بدقة وتوفير المحفزات النفسية والمادية الضرورية لإنجازها، وتخطيط الأعمال وترتيب المهامات حسب الأولويات باستحضار الاستعجال والأهمية Importance et urgence ،...إلخ. كيف نصنف المهام ؟ إن تدبير الوقت لا يمكن أن يكون ناجعا إلا إذا كان الفرد في مستوى تصنيف مهاماته حسب الأهمية والاستعجال، وتخطيط تنفيذها حسب أجندة زمنية مدروسة. وفي هذا الشأن، برز مبدأ إزنهاور (Principe d?Eisenhower) الذي ربط أهمية المهامات ومستوى استعجالها ببرمجة تنفيذها. بالنسبة له هناك مهامات جد مستعجلة وجد مهمة تتطلب التنفيذ المستعجل، ومهامات غير مستعجلة وجد مهمة يجب برمجتها، ومهامات جد مستعجلة وغير مهمة يجب تفويضها، ومهامات غير مستعجلة وغير مهمة يجب عزلها جانيا. وبخصوص مواجهة المشاكل المحتملة في العمل، برز مبدأ باريطو (Pareto) أو قاعدة 20/80. لقد صنف هذا المبدأ المشاكل إلى صنفين : مشاكل أساسية ومشاكل ثانوية، ودعا باريطو إلى مواجهة المشاكل الأساسية (قليلة العدد) كأولوية لأنها لا تستهلك إلا 20 بالمائة من الوقت بينما تساهم في الإنتاج ب 80 بالمائة، بينما المشاكل الثانوية (كثيرة العدد) تستهلك 80 بالمائة من الوقت ولا تساهم في الإنتاج إلا بنسبة 20 بالمائة. كما ساهمت طريقة تحليل الوقت «أ.ب.س» (Analyse ABC)، في تطوير التعامل مع المهامات حيث صنفتها إلى مهامات جد مهمة، ومهمة، وأقل أهمية أو غير مهمة. ف»الجد مهمة» منها لا تمثل إلا 15 بالمائة من مجموع المهامات لكنها تساهم في تحقيق الأهداف بنسبة 65 بالمائة، و»المهمة» منها تمثل 20 بالمائة من مجموع المهامات وتساهم في تحقيق الأهداف المسطرة ب 20 بالمائة فقط، بينما «الأقل أهمية» أو «غير المهمة» منها فتمثل 65 بالمائة من مجموع المهامات ولا تساهم في تحقيق الأهداف المسطرة إلا بنسبة 15 بالمائة. خاتمة إن من لا يؤمن بأهمية الوقت لا يؤمن بالتقدم. فكل من ينفي الوقت ينفي التاريخ. بالتدبير المحكم للوقت يصنف المرء في خانة «التقدميين» الحريصين على ديمومة التنظيم المحكم المنتج في العلاقات ما بين الأفراد والجماعات، وبالتالي يساهم في التطور والتقدم وتحقيق المزيد من التراكمات، ويساهم في ترسيخ المزيد من المكتسبات، وفي الحفاظ على التوازن في الحياة، وضمان ديمومة الاستقرار النفسي. وعلى عكس ذلك، إضاعة الوقت ما هي إلا نتيجة مرتبطة بسوء التنظيم وفوضوية السلوكيات الشخصية. إن حسن تدبير الوقت يؤدي إلى الفاعلية والرفع من مردودية الاستثمار فيه وذلك من خلال اعتماد التخطيط والبرمجة، وتحديد الأولويات، واعتماد التفويض، وعقلنة إنجاز الأنشطة اليومية. فتدبيره في العمل اليومي للأفراد والجماعات بمنطق عقارب الساعة يحقق التقدم والتطور بالسرعة المطلوبة ويراكم المكاسب ويرسخها.