في سياق هذا المنظور الجديد، أصبحت سياسة التعمير وتهيئة المجال بالمغرب منذ 1998 تشكلان الركائز الأساسية التي تقوم عليها التنمية البشرية والرهان الأكبر الذي أخذته الدولة على عاتقها. وأمام الطابع الإستعجالي لضرورة الدفع بالتنمية البشرية والترابية إلى مستويات تمكن البلاد من تحسين موقعها ورتبتها على المستوى الدولي، يبقى من حق الباحث والمتتبع التساؤل بشأن نجاعة السياسات العمومية وإمكانية تثبيت الاستمرارية في دعم هذا التوجه في إطار دعم الانتقال الديمقراطي في شقه المؤسساتي والتنموي من خلال رفع وتيرة تأهيل وتنمية التراب الوطني. وعليه، فالجواب عن سؤال الاستمرارية يبقى ذا راهنية كبيرة. تداعيات العولمة وتأثيراتها الإيديولوجية تحتم على الدول النامية التفكير العميق في منطق الفعل العمومي السائد بإعادة النظر في دور الدولة في التنمية الترابية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي. المغرب لا يتوفر على الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات ليتبنى مبدأ تخلي الدولة عن أدوارها التنموية. بل المطلوب هو تحديث دور المؤسسات من خلال خلق الآليات الضرورية لتمكينها من تجاوز وظائفها التقليدية وانخراطها السريع في الأدوار الإستراتيجية. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا في حالة تقوية الطابع المؤسساتي للخدمات العمومية بشكل تام ونهائي. وعندما نتكلم عن المأسسة نقصد بها تطوير المنظومة القانونية وعقليات الساهرين على تنفيذ المسؤوليات العمومية بشكل لا يتيح الفرصة للشخصنة والمزاجية في اتخاذ القرارات الإدارية وتدبير الشأن العام. كما أن المغرب لن يحتمل التراجع عن المكتسبات التحديثية لدور الدولة التي أسستها حكومة التناوب التوافقي ابتداء من .1998 فالسياسة الترابية المندمجة، والتي توجت بالمصادقة على المخطط الوطني للتراب، مكنت أولا من خلق إطار محفز لإبراز الطاقات الفكرية والعلمية والإدارية، وثانيا من عقلنة العلاقات بين الفاعلين أفقيا وعموديا. فإضافة إلى إعطاء الانطلاقة لتقوية الطابع المؤسساتي للجهوية (خلق التوازن بين اللامركزية )المجلس الجهوي واللاتمركز (الولاية، والمفتشيات الجهوية)، تم إعطاء أهمية كبرى للوكالات الحضرية لتمكين الجماعات المحلية من الدعم التقني واكتساب الخبرة والمعرفة في ميدان التخطيط والتدبير الإستراتيجي. إن البداية الموفقة لهذا المشروع والذي خلق نقاشات علمية وفكرية على مختلف المستويات الترابية في إطار الحوار الوطني لإعداد التراب، واعتبارا للتوجيهات الملكية الأخيرة بشأن الجهوية، خصصنا هذا المقال لمناقشة الواقع الحالي للوكالات الحضرية وعلاقته بأشكال التمدين التي راكمها المغرب(1) مع الإسهام في إبراز الوظائف الجديدة لهذه المؤسسات لمواجهة التحديات المستقبلية (2) 1 : واقع الوكالات الحضرية بالرغم من المجهودات الكبيرة التي قامت بها حكومة التناوب التوافقي لتقوية دور الوكالات في التنمية المجالية، إلا أنه بالرغم من مرور ست سنوات من العمل التنفيذي بعد سنة 2002، أصبحنا نشعر بغموض كبير يطبع عمل الوكالات الحضرية، مع العلم أن التوجه العام للسلطة الحكومية المكلفة بالتعمير ينحو في اتجاه الرفع من عددها وجعلها تغطي جميع النفوذ الترابي للمملكة (منطق عددي). إن إعطاء الأولوية للسكن في الحكومة الحالية خلق تراجعا في دور هذه المؤسسات ولم نلمس أي تقدم في توضيح مهاماتها وأدوارها. وإلى يومنا هذا، لا زالت اختصاصاتها خاضعة لنصوص تشريعية عمومية وغامضة. إن القانون المنظم لها لا زال يتضمن عبارات عامة ولا يرقى إلى تحديد الدور الدقيق الذي يمكن أن تلعبه في مجالي التعمير والتنمية المجالية. فعوض أن تضطلع بالأدوار المنوطة بها في مجال التعمير والتنمية العمرانية، لا زالت انشغالاتها تتمحور حول وظائف تقليدية مرتبطة بمراقبة تنفيذ القوانين والسعي لضبط ترشيد استعمال المجال الحضري والحد من الاستغلال العشوائي له. إن تركيز هذه المؤسسات على المهامات المرتبطة بالمواطن مباشرة، والتي تتلخص في دراسة طلبات رخص التعمير (رخصة البناء، رخصة التجزيء، رخصة إقامة المجموعات السكنية، رخصة التقسيم، استفادة المشاريع الاستثمارية من استثناءات في مجال التعمير، زجر المخالفات، ...)، جعل حصيلة مردوديتها في المهامات الأساسية الأخرى ضعيفة مما يقلل من أهميتها المؤسساتية ويعطي الانطباع وكأن اختصاصاتها تتداخل بشكل كبير مع مؤسسات أخرى (الجماعات المحلية،السلطة المحلية، القسم الإقليمي للتعمير،...). ولمزيد من التوضيح سنقوم بجرد لبعض المهامات الأساسية ذات الوقع الضعيف على السياسة العمرانية للبلاد: * القيام بالدراسات الضرورية لإعداد المخططات الحضرية ومتابعة توجهاتها، * برمجة مشاريع التهيئة المتضمنة في المخططات السالفة الذكر، * تحضير مشاريع وثائق التعمير، * القيام بالدراسات اللازمة لمشاريع تهيئة قطاعات خاصة، وتنفيذ جميع مشاريع الصيانة العامة أو التهيئة لفائدة الدولة والجماعات المحلية أو الاستجابة لطلبات البناء العمومية أو الخاصة عندما يكتسي المشروع المنفعة العامة، * القيام بعمليات تجديد المباني وترميم القطاعات الحضرية ومشاريع إعادة الهيكلة للأحياء غير القانونية، * المشاركة في مؤسسات أخرى تتطابق أنشطتها مع مهامات الوكالات الحضرية، * التدخل في مجال تأسيس وتطوير جمعيات الملاك بشراكة مع الهيئات المنتخبة، * تقديم المساعدة التقنية والفنية للجماعات المحلية فيما يتعلق بالتعمير والتهيئة، * خلق بنك للمعلومات في مجال التنمية المعمارية والمجالية للعمالات والأقاليم الواقعة داخل نفوذها الترابي (نطاق اختصاص الوكالات يشمل عمالة أو إقليم بأكمله) مما يستوجب عليها أن تكون قادرة على بلورة تصور شمولي للسياسة العمرانية التي ينبغي نهجها إقليميا، * مراقبة تنفيذ أهداف وثائق التعمير وتطبيقها على أرض الواقع بتعاون مع جميع الفاعلين الآخرين مع تقييم المنجزات باستمرار، * بلورة وتنفيذ البرامج الجهوية لإنعاش السكن الاجتماعي ومحاربة السكن غير اللائق، * الرفع من جودة التخطيط الإستراتيجي للمدن بتمكينها من الفضاءات الضرورية (فضاءات الأطفال، نوادي للترفيه، الملاعب الرياضية، المناطق الاقتصادية، المساحات الخضراء، ...). حان الوقت لفرض إدماج فضاءات للأطفال وللشباب داخل التجزئات والأحياء السكنية لتوفير إمكانية إدماج منظمات المجتمع المدني في تأطير الأجيال القادمة. 2 : العولمة وضرورة ارتقاء وظائف الوكالات الحضارية إن إبراز خصوصية هذه المؤسسات له أهمية قصوى خصوصا في زمن الانفتاح الاقتصادي وما يتطلبه من توجيه مستمر لتهيئة وتنمية المجالات الترابية للرفع من تنافسيتها. إن هذه المجالات في حاجة إلى منطق جديد للتدبير والتخطيط يرتكز على التضامن والتجديد الحضري. إن دورها يزداد أهمية في مغرب اليوم، نظرا لما يتطلبه الوضع الراهن من تقدم على المستوى المؤسساتي والحضري والاقتصادي والمجتمعي في محيط دولي شديد التغيير في ممارساته، وثقافاته المهنية، والسياسية، والتي تعطي للامركزية واللاتركيز أهمية بالغة. إن هوية الوكالات الحضرية تواجهها إشكالية التذبذب في استمرارية تطوير مهاماتها. مما جعلها في النهاية تواجه اليوم إشكالية تموقعها الإستراتيجي داخل مجالات مؤسساتية وأخرى ترابية يعاد تركيبها من جديد من جراء تأثيرات خارجية وداخلية جديدة ضاغطة. وهذا الأمر، يفرض إعادة التفكير في هويتها ودورها بارتباط مع الأدوار الجديدة للدولة في المجالات الترابية وعلاقتها مع الجماعات والسياسات المحلية. تحتاج هذه الوكالات إلى نظام أساسي جديد يمكنها من فرض الاعتراف بها كفاعل أساسي في الدراسات الحضرية. هذا لأن المدينة المعولمة تحتاج إلى تعدد الرؤى والإشكالات المجالية في إطار تتشابك فيه الشعب العلمية (من تاريخ، وعلوم سياسية، وسوسيولوجية، وجغرافية، وأنتروبولوجية، وهندسية،...). كل واحدة من هذه الشعب تنظمها شبكة تحاليل أصلية ومتكاملة وتتفاعل فيما بينها في إطار مقاربة مشتركة تعير الاهتمام والانتباه للمسارات المهنية للفاعلين ولممارساتهم ومساهماتهم في الفعل العمومي. على الوكالات أن تتحول إلى أداة استثنائية في خدمة الجماعات المحلية والدولة بتركيز مجالات فعلها في المجالات المشتركة بين الجماعات من خلال توسيع هامش التشاور في السياسات المجالية، وارتقاء «وظيفة الدراسات الحضرية» والإسهام في خلق الالتقائية في المجهودات الرامية إلى سد الخصاص في تجهيزات الجماعات المحلية بواسطة فرق تقنية كفؤة. لقد آن الأوان لتجاوز منطق الزجر القانوني كمهام رئيسي للتعبير على قوة سلطة المؤسسة ليحل محله توسيع آفاق عمل هذه المؤسسات ليطال الدراسات العامة والاستشراف. عليها أن تلعب الدور المحوري في صنع الذاكرة الترابية وتجميع المجهودات والحد من تبعثر وتشتت الدراسات والمعطيات الترابية ومن تم تنمية قدرتها على استنتاج وتأليف وتركيب الخلاصات والاستنتاجات بشكل يطعم وينشط ويحسن إلى أبعد حد ممكن الفعل التخطيطي، والبرنامجي وكذا الإستشرافي. إن تحديات التأهيل الترابي يفرض تجاوز دور الوساطة الذي تلعبه الوكالة بين الدولة والجماعات الترابية من خلال إنجاز المخططات التوجيهية للتهيئة والتعمير وتصاميم استعمالات المجال، ومن تم إخضاع السياسات المحلية للتوجهات الكبرى للدولة. إن العمليات المتعددة لجمع المعلومات الضرورية بمناسبة إنجاز وثائق التعمير وما يوازيها من اتصالات مع مجموع الفرقاء والفاعلين الترابيين لمن شأنه أن يمكنها من بلورة نظرة شمولية للتنمية المجالية. كما من شأن تراكم الخبرات جراء تفعيل هذه الوظائف أن يجعل من هذه المؤسسات الإطار المناسب والفريد القادر على تقديم المساعدة للجماعات المحلية من خلال تعميق المعرفة في الإمكانيات الترابية. إن الحكم على سياسة عمرانية بالنجاح أو الفشل أمر سهل للغاية، يكفي القيام بإطلالة على المباني والتجزئات القائمة للتأكد مما إذا كانت تحقق متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن عنصر الجمالية. فالتشخيص العلمي لواقع المدن المغربية كنتيجة للحوار الوطني لإعداد التراب عبر عن قصور كبير في وظيفة الوكالات الحضرية. لقد تم التركيز أكثر على المهامات الروتينية (دراسة طلبات الرخص ومراقبة البناء والتجزءات). مع إهمال كل ما له علاقة بالتخطيط والتدبير الإستراتيجي للمجالات الحضرية والتجمعات السكنية خصوصا من جانب الجودة. ونعتقد أن الوظائف الروتينية تعتبر ثانوية إذا ما قارناها مع حجم المسؤولية في المجال الثاني. ويرجع هذا لكون مؤسسات موازية تشاركها في مهام الترخيص للتجزيء والبناء والمراقبة (الأقسام الإقليمية للتعمير، الجماعة المحلية، السلطة المحلية). > خلاصة إن تركيز الدولة على الأوراش الرامية إلى محاربة تراكمات الماضي (مراكز حضرية تتكدس فيها ضروب العجز والخصاص ويكتسحها سكن عشوائي يطبع المشهد ويشد الأنظار)، ومواجهة تداعيات الانفتاح على الاقتصاد الدولي، يفرض تطوير الوكالات الحضرية. إن هذه الأوراش تتطلب الخبرة والكفاءة للاستجابة السريعة والإيجابية لمتطلبات الإدارة والفاعلين لتحسين حياة المواطنين. وتشمل هذه الأوراش القطاع الاجتماعي، خاصة قطاع السكن ومحاربة الفقر والهشاشة وتعميم الخدمات الأساسية في العالم القروي. وازدادت الحاجة إلى خبرة هذه المؤسسات مع الانطلاقة الرسمية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية ببرامجها الأربعة، ولبرنامج مدن بدون صفيح، ولبرنامج تأهيل المدن،... بالطبع هذه المشاريع الطموحة، والمتكاملة، والتي خصصت لها اعتمادات كبيرة، تتطلب توفر الكفايات الضرورية لبلورة مشاريع حضرية ترقى من خلالها المدينة إلى مستوى تجمعات سياسية تتراكم فيها المعرفة والعدالة (مرآة المدينة). الدولة مطالبة بخلق القطيعة مع ما نلاحظه من فتور في مسار هذه المؤسسات المختصة. إن مجال وطبيعة تدخلاتها لا زال بعيدا عن متطلبات تحويل المدينة إلى مشروع حضري اندماجي ومتكامل الأبعاد تكون الثقافة والسياسة صاريتها. ومن أجل تحقيق ذلك، على الوكالات أن تتحول إلى جهاز متعدد الاختصاصات والخبرات بشكل يجعل من العمل الأفقي آلية لتأهيل المدن المغربية إلى مستوى يمكنها من الاندماج في الاقتصاد العالمي ومن إبراز ثقافات مهنية وإدارية جديدة. تحتاج مدننا اليوم إلى الخبرة، والمهنية، والهندسة من أجل خلق حوار عمومي ديمقراطي مستمر يشجع على المشاركة في بلورة القرارات في ميدان التهيئة والتعمير.