هذا الملف عن دار النشر «مرسم»، صدر، في طبعة فاخرة، كتاب «التبوريدة: فن الفروسية المغربي»، الذي وضع نصه الأصلي باللغة الفرنسية الصحفي اللامع والكاتب المتميز الطيب حذيفة، والذي زينته صور فوتوغرافية فنية التقطتها عدسة الفرنسي باتريس غيريتو. وتضمن الكتاب أيضا ترجمة لنصه إلى اللغتين الإنجليزية والعربية. وبالإضافة إلى المقتطفات التي انتقيناها لهذا الملف، يتطرق الكتاب إلى حضور الفرس البربري والتبوريدة في مجالات الأغنية المغربية العريقة والعصرية، والفنون التشكيلية والتصوير الفوتوغرافي... الطيب حذيفة العرض الفروسي الموسوم، في جغرافيته، بالكلمة الملائمة «التبوريدة»، أي فعل إطلاق البارود، يحمل، بالفرنسية السليمة، التسمية غير الدقيقة المشتقة من الإسبانية «الفانتازيا»، التي تشدد بالأحرى على طابعه اللعبي. وهو ما يتبناه، على سبيل المثال، قاموس «لو روبير» الذي يصف هذا الفن الفروسي بأنه «تسلية لفرسان عرب ينفذون، وأفراسهم تعدو، حركات متنوعة، مفرغين بنادقهم وصائحين بأعلى صوتهم.» إن التبوريدة مماثلة، حقا، لعرض مسرحي متقن الإخراج، ومن الجلي، أيضا، أن شخصياتها، رجالا ودوابا، تنخرط في اللعبة لدرجة عدم التمييز، بشكل دون كيشوتي، بين الواقع والخيال. في هذه الخاصية المزدوجة ل»سباق البارود» هذا، حسب توصيف أوجين دولاكروا، يكمن ربما سر الافتتان الذي تمارسه التبوريدة، بالتأكيد، على المتفرجين الذين يشاركون، أيضا وآليا، في تشخيصها عبر توجيه الخطب لمواكب الفرسان بصوت مرتفع وإطلاق الزغاريد، تلك الأصوات التي كانت تحتفل بالعودة المظفرة للمحاربين. التبوريدة، استنساخ لعبي للمعارك القديمة وسط نطاق محدد، طوله مائتا متر (المحرك)، تمتطي تشكيلة مكونة من عشرة إلى عشرين فارسا (سربة) أفراسها التي تخُب، أولا، ببطء ورصانة، ثم تعدو مسرعة بتدرج. بحركة بهلوانية، يُدير الفرسان بنادقهم في الهواء، إلى أن يأمرهم المْقدم (1) بإطلاق النار. وبمجرد التنفيذ، يعودون إلى نقطة الانطلاق، راضين على تأديتهم للواجب. أطوار التبوريدة لا تخلو من التذكير بمراحل سيمفونية موسيقية تُستهل بحركة متمهلة السرعة، وتُسترسل بثانية معتدلة السرعة تليها ثالثة جد سريعة، قبل أن تنتهي بخاتمة مدوية. ويلزم العازفين، كي لا يقترفوا خطأ تنافر أصوات عزفهم، ضبط أدائهم قبليا، وهو يباشرونه، عن طيب خاطر، طيلة أسابيع قبل العرض، رغم أن لا شائبة تشوب حسن تفاهمهم. ويعزف كل عضو من السربة على آلة هي الحصان، ذلك الكائن الحي، الموهوب جسمانيا، القادر على التحمل، الماهر، القوي، الذكي، المعطاء والرقيق الإحساس. وليس المطلوب فرض الذات بالقوة، التي هي تافهة قطعيا، بل التفاهم بذكاء مع حيوان عبر منحه إمكانية التعبير بالشكل الأفضل والأيسر. مما يتطلب، من جهة، مروضا يجيد الترويض، ومن جهة أخرى، دابة قابلة للتدريب على يد مروض يتقن عمله. هذه السمة الأخيرة تتجسد، بامتياز، في الفرس البربري (2)، وهو ما يفسر إعطاءه الأولوية في التبوريدة. - - - -1) يعني هذا اللقب حرفيا الشخص الذي يحظى بالأسبقية. -2) صفة بربري تحيل على المغرب العربي برمته بوصفه بلاد الأمازيغ الكبرى، علما أن هذه السلالة تسمى محليا الفرس البَلْدي- م. التبوريدة بصيغة نون النسوة من إيجابيات تكاثر التظاهرات المستضيفة للتبوريدة حاليا، أنها تسمح لنا بتعميق معارفنا حول خفايا هذا الفن الفروسي، وأيضا بمراجعة يقينياتنا إزاءه. نعم، تقضي العادة أن يطلق الفرسان النار في اتجاه السماء عند اختتام العدو، لكننا نكتشف أن الصحراويين يوجهون البارود نحو الأرض. ونعتقد أن الخيالة يمتطون ذكور الخيل فقط، لنصاب بالذهول حين نعرف أن فرسان آيت باعمران يركبون إناث الخيل لا غير. لشرح الأمر، يقول»مقدم» السربة: «كان أسلافنا ينتصرون في المعارك بهذه الوسيلة. الأعداء كانوا يستعملون ذكور الخيل، لكنها كانت تشَب وتسقطهم أرضا بمجرد احتكاكها بالإناث.» أجل، لكل وقت حكمه! ثم، أو ليست التبوريدة حكرا على الجنس الخشن؟ هي فكرة شائعة أخرى يجب إقبارها إذن، ومعاينة انبثاق التبوريدة النسائية تكفي لإقامة صلاة الجنازة عليها ، علما أن كل جهة في المغرب تتوفر الآن على سربة نسائية. أما رائدات اقتحام هذا الحصن الرجولي، فهن فارسات فرقة المحمدية. وتروي الأميرة للا أمينة، رئيسة الجامعة الملكية المغربية للفروسية، ضمن الشريط الوثائقي القيم «متمردات الأطلس» لعثمان الصقلي، حكاية إنشاء أول فرقة نسائية مغربية للتبوريدة بالمحمدية سنة 2005. ذات يوم، التمست شابة أنيقة ومهذبة من الأميرة استقبالها، وخلال الاستقبال، شرحت أنها سليلة مربي خيول وأنها مولعة بالتبوريدة، ولع مشترك مع صديقات ممارسات كذلك، كاشفة عن أغلى أمنية لها ولزميلاتها: المشاركة في تظاهرات مخصصة لهذا الفن. وقد ساعدت الأميرة الشابات لتحقيق رغبتهن، مما سيجعل نساء كثيرات يقتدين بهن، ويقتحن وقفا كان محرما على بنات حواء. جهةَ المتفرجين منذ استعاد الفرس البربري حظوته وذروة لياقته، لم تبق التبوريدة حكرا على المواسم الزراعية. لقد شدت الرحال إلى تظاهرات عديدة مثل أسبوع الفرس بالرباط، الذي أبدع تقليدا ممتازا يتمثل في تنظيم مسابقة بهية للتبوريدة في إطار جائزة الحسن الثاني لفنون الفروسية التقليدية المرموقة؛ والبطولة السنوية للتبوريدة المنظمة بالرباط أيضا والمتميزة بالتنافس الشريف؛ ومعرض الفرس بالجديدة الذي انطلق في 2008. ينعقد هذا المعرض في رحاب حلبة الفروسية الأميرة للا مليكة، وتعتبر فعالياته مديحا للحصان بفعل إشادتها بجماله وهيبته، كما بفضائله «الأخلاقية». تتمحور هذه الفعاليات برمتها حول هذا الحيوان الأسطوري، حاملة في طياتها معارف قيمة عنه، سواء كانت معارض تشكيلية، أو عروضا لفنون الفروسية، أو فرجة من صنف آخر أو استعراضات لعدد الأفراس، دون إغفال حصص تقديم أجناس الأحصنة والندوات المختصة بعلم الخيل. وإذا كان هذا الرصد مؤشرا على كم أنشطة المعرض الهائل، فإن التبوريدة تظل، بشكل محسوس، النشا ط الذي يتابعه الزوار بنهم فريد، بل إن تعطشهم إليها غير قابل للتروية، مما يقودهم إلى المطالبة بالمزيد من العروض. الأطفال أيضا لا يخلفون موعد التبوريدة اليومي، حتى ولو كان المقابل هو أضخم هامبرغر في العالم، كما أن رائحة البارود تفتنهم حد الثمالة، على غرار الأكبر سنا. ونظرا لخبرته، يتسلى الجمهور بجدية مقيما أداء السربات، ومانحا إياها النقط، ومؤنبا كل فارس لم يطلق النار بتزامن مع زملائه. وليست الحلبة بمفردها خشبة الفرجة، بل إنها تنتقل كذلك إلى المدرجات والخيام المخزنية والأمكنة المحاذية «للمحرك»، وهي فرجة ساحرة لأنها تمزج مظاهر الابتهاج الطافحة بالجمل الخشنة، تجليات الحماس بالمبارزات الكلامية، وكنموذج على هذه الأخيرة، نذكر بالملاسنة التي تندلع عادة بين قبيلتي دكالة وعبدة بسبب خلاف موغل في القدم حول بئر وهمية. أجل، إنها البهجة على إيقاع أصوات عدو السربات، وسط سحب الدخان وحجاب الغبار السميك التي تخترقها زغاريد النساء. فرسان بأزياء بهية، وأفراس بعُدد متألقة إن التبوريدة لعبة بالفعل، لكنها لعبة تؤخذ على مأخذ الجد نظرا لارتباطها بهيبة وكبرياء وعزة نفس القبيلة المشاركة. أما تقييم أداء كل سربة، فيحدده التحكم الفردي الجواد والانسجام الجماعي، إضافة لأناقة ملبس الفرسان وجودة عدة الدواب. وبالفعل، فالمضمون والشكل متكاملان لأن المظهر المليح يضفي على التبوريدة مسحة رشاقة إضافية ويضاعف جاذبيتها. لذا، وباستثناء زرقة جلابيب الفرق الصحراوية، يظل البياض الناصع سيد «المحرك»: بياض الجوخ الذي يكسو الفارس، وبياض سرواله الفضفاض، وعمامته التي تتغير طريقة لفها حسب القبائل وقميصه ذي الياقة المتصلبة (التشامير)، بالإضافة أحيانا لبياض «البلغة» المرتفعة التصميم. ويضع كل فارس حزاما سميكا وغمدا مخمليا بداخله خنجر معقوف (الكمية)، ويتوشح بجراب جلدي بداخله آيات قرآنية، كما يحمل بندقية تقليدية طويلة (مكحلة) ذات أستون مزين بدوائر فضية وعقب منقوش ومرصع بالعاج والصدف. أما عدة الدابة، فهي أكثر لمعانا من «الزي الرسمي» للفارس لأنها مكونة أساسا من الأنسجة النبيلة. فالسرج يلفه ثوب حريري مطرز؛ والحزام الجلدي الذي يربطه إلى الفرس مفصص بنسيج الساتان المطرز؛ والرباطان الجلديان، اللذان يشدان الركابين المصنوعين من النحاس أو من المعادن المصهورة إلى السرج، مكسوان بأوشحة حريرية؛ والرسن مزركش. ورغم أن مكونات أخرى لعدة الفرس أقل زينة، فدورها مهم، ومنها الغمامتان الواقيتان لعيني الحصان من الرمل والدخان، والسجاجيد المكدسة بعناية تحت السرج لضمان راحة الفارس، وكذلك المقبض المرتفع وظهر السرج الخشبي المكسو بالفرو، هما يوفران للراكب التوازن الجيد وحسن الإمساك بدرع السرج. ترتبط التبوريدة على الدوام في ذهنية المغاربة بالمواسم، تلك التجمعات الاحتفالية الدورية التي يتجاوز عددها في المغرب سبعمائة موسم، والتي تنقسم إلى مواسم دينية محضة تلتئم حوالي عيد المولد النبوي، وأخرى زراعية بحصر المعنى تقام بعد الحصاد. وفي الواقع، فالبعد الديني حاضر في كلا الصنفين، نظرا، على الأقل، لإقامتهما بجوار ضريح أحد الأولياء، لكن المقدس يهيمن في أحدهما ويتوارى في الثاني. وإذا كانت الأنشطة الدنيوية محظورة في المواسم الدينية، فهي تسيطر في الزراعية. أجل، فعقب ثلاثة فصول من الكد الذي قد لا يؤتي محصولا أحيانا، يشعر الفلاحون بحاجة ماسة إلى الانفلات من أوزار اليومي، ولذا، فهم يغتنمون فرصة انعقاد المواسم للتمتع بأنواع الترفيه والتسلية. لكن الفرجة التي تشبعهم فعلا بالحبور، وتستهويهم إلى درجة الإدمان كما لو أن الأمر يتعلق بمشروب مسكر، ليست سوى التبوريدة. وللتأكد مما سلف، تكفي زيارة مولاي عبد الله أمغار، الواقع على بعد عشرة كيلومترات من الجديدة في اتجاه الجنوب الغربي، في الوقت المناسب. فهناك ينعقد، سنويا، أكبر وأهم موسم زراعي مغربي، موسم تعتبر التبوريدة فرجته التي لا بد منها. بمجرد شروع حرارة الشمس المحرقة في الاعتدال، تنطلق التبوريدة بفرسانها المتدثرين بزهو وأحصنتها المسرجة بتألق، وساعة قبل البدء، تغص أجناب «المحرك» عن آخرها بالمتفرجين، ليضطر المتأخرون منهم إلى اللجوء للأسوار أو الأعمدة الكهربائية. تجري وقائع التبوريدة في مناخ شبيه بأجواء الهذيان، إذ يتحمس الجمهور، ويهيج، ويصيح بقوة ويغني بأعلى صوته، بل إن الغشية قد تلم به أحيانا. وكلما مرت «سربة»، إلا ورافقها فيض من الزغاريد الحادة، وزوبعة من الدخان والرمل الممزوجين بالغبار الأغمر. وفي اليوم اللاحق، سيتحدى ذات الجمهور الحرارة المفرطة، وأحيانا رياح الشرگي، ويعود إلى نفس الفضاء للتلذذ بفرجة لا تنضب جاذبيتها إطلاقا. ولع التبوريدة يجري في شرايين المغاربة يوحد تقديس التبوريدة الرجال والنساء. وتقول مريم الخولي، الفارسة الفاتنة المنتمية لفرقة المحمدية، واصفة وَجْدها هذا: «امتطيت حصانا لأول مرة في سنتي العاشرة، وأدين لأجدادي بتعويدي الأولي على ركوب الخيل وبعشقي لها. كنت خائفة، لكن إلحاح جدي جعلني أطلق رصاصاتي الأولى في سن الحادية عشرة، أفزعني دويها قليلا، لكنني لم أعد أخشى الأسلحة النارية منذ ذاك. إنني أنتمي، في الواقع، لعائلة يرث أبناؤها وبناتها النزوع إلى التبوريدة أبا عن جد.» وحسب بنقاسم بنعودة، المتمتع بهيئة شابة وشامخة رغم بلوغه عقده السادس، فالتبوريدة ليست تسلية أو رياضة، بل علة الحياة: «هي جزء لا يتجزأ من حياتي، وأنا عاجز على الاستغناء عنها. أحيانا، تغويني فكرة الإقلاع عنها بسبب شح الإمكانيات، لكنني لا أستطيع ذلك. الأمر يتجاوزني، والسعادة لا تغمرني في غيابها.» هذا ما يقوله الممارسون إذن، علما أن المتفرجين يرددون، من جهتهم، غزلا مماثلا. هكذا، يعترف الفلاح الموسر حسن: «أجهل السبب، لكن ارتعاشات مبهجة تدب في عمودي الفقري كلما انطلق الفرسان.» ويقر رابح، الحضري القح البالغ سن الخامسة والعشرين، بأن التبوريدة مبرر عدم تخلفه عن موسم مولاي عبد الله، وذلك كيفما كانت الظروف: «لا أحس بأنني أشاهد فرجة، بل بأنني أشارك فيها، كما لو كنت الفارس والفرس، مما ينتج ارتفاع نسبة الأندريلانين لدي ويطيل عمري». أما تصريح امرأة أربعينية رشيقة ذات هيئة بورجوازية ثرية، فلم يكن متوقعا: «أنا عاشقة شرهة للموسيقى، ومن المعلوم أن الموسيقى العظيمة تتفرد بكونها تخلق للمرء ماضيا لا علم له به. هو ذا بالضبط الأثر الذي تولده التبوريدة لدي، إذ تنقلني إلى قارة ملؤها الأناقة والحماسة والإخلاص، إلى عصر أحيى مؤقتا خلاله طوال عرضها، عصر أتمنى قضاء حياتي في رحمه. لذا، ونظرا لإقامتي بالرباط، أقطع مسافات طويلة لحضور هذه الفرجة، أو بالأحرى لعيشها.» التبوريدة تردم الهوات الناتجة عن الفوارق السوسيو - مهنية كما يتبين من الشهادات السالفة، فالتبوريدة، بالنسبة للممارسين والمتفرجين على حد سواء، فردوس اصطناعي من العسير مغادرته، فردوس يعود إليه المرء متى استطاع. وهي تمنح للبعض أحاسيس لا توصف، وللبعض الآخر متعة لا نهائية تفرزها جلجلة عدو الخيل وأريج البارود. أن يكون الفرسان والجمهور العاشق مولعين، بنفس درجة التأجج، بموضوع الرغبة الغامض هذا، معطى تتفرع عنه تساؤلات عدة. في محاضرة بمعرض الفرس سنة 2008 عنوانها «الفرس في الثقافة المغربية: أمثال وأقوال مأثورة تعكس تقاليدنا»، قدم مصطفى الصغيري أحد عناصر الجواب: «تمثل الفروسية تحويلا لاتجاه غريزة الحرب لدى البشرية كلها. وبما أنها تجسيد لمشهد حربي بحجمه الطبيعي، فالفانتازيا أو التبوريدة طقس تنفيسي لفئة اجتماعية برمتها. وتأثيرها على الممارس وعلى مجرد المتفرج متطابق تقريبا، وهو يتيح لكل واحد إمكانية التطهير من شحنة التوتر والعدوانية والقوى السلبية المراكمة طوال أيام. فطريا وفي سياق ظروف عادية، تُفرغ هذه الشحنة في اتجاه الآخرين عن طريق تصرفات حقودة وعدوانية، أي خصومات قد تتفاقم لتتحول إلى حروب قبلية. وبقدر ما تؤبد التقاليد، في هذه الحالة، التمرين على الشجاعة والقوة والمهارة الرياضية، بقدر ما تمكن من ممارسة الحرب كلعبة عبر تغيير اتجاه طلقات البنادق، علما أن المحاكاة هذه جلية لأن حجمها يطابق الحجم الطبيعي للحرب.» وإجمالا، فالتبوريدة تمتلك وظيفة تنفيسية، أي تطهيرية، مثلها مثل التراجيديا اليونانية التي أضفى عليها أرسطو هذه الوظيفة. ففي الحالتين معا، نكون في حضرة اللعب: حلبة تصبح ساحة وغى، وأحد الأعيان زعيما، وبنادق الاستعراض أسلحة نارية، ومجموعة ناس تركب خيلا فيلقا من سلاح الخيالة، إضافة إلى فرسان يطلقون النار على عدو خيالي. وحده غياب الطبول والأبواق يحول دون اكتمال الوهم، لكنه غياب يعوضه لغط الجمهور وهتافه المحتفي بالظفر. «الفروسية لعبة متعددة المشاركين، تمارس ضمن حركة جماعية منسقة تلقائيا، يكتب مصطفى الصغيري. يفتتح عشرة فرسان ونيف السباق كما لو أنهم يواجهون عدوا خياليا، وذلك في غياب الأغاني والموسيقى، إذ لا ترافقهم سوى زغاريد النساء وصيحات الجمهور. تسرع الأفراس شيئا فشيئا إلى أن تبلغ أقصى سرعتها، ويحدث هذا تصعيديا لينتهي السباق بإطلاق النار في الهواء بشكل متواقت. بعدها، وكأنهم في غشية جماعية، يتنهد المتفرجون والخيالة في انسجام تام، تعبيرا عن الرضا والفرح، بينما تهيمن رائحة البارود والكبريت تحت السماء المتلبدة بالغبار والرمل، مؤشرة على انتهاء الفرجة.» وبغض النظر عن المجاز الجنسي الدفين الذي يبدو، منطقيا، عديم الصلة بموضوعنا، فالتبوريدة تتجلى على شاكلة تفريغ نفساني محرر، مرتبط بتخريج ذكرى أحداث مكبوتة ذات بعد جماعي. وهذا ما يفسر، بدون شك، جاذبيتها اللاشعورية المتسامية على التمايزات الاجتماعية والاختلافات والنزاعات، على غرار التراجيديات اليونانية التي كان الجمهور، يتفرج عليها، باختلاف انتماءاته الفئوية، في التحام ووحدة تامين، قبل أن ينصرف كل واحد منه إلى حال سبيله. «إنني، بفعل نشأتي في البادية وإذا صح التعبير، مسعور بالتبوريدة. كنت مواظبا على حضور عروضها، شرط أن تقام على بعد مسافة تقل عن خمسين كيلومترا، ذلك أن والدي كانا مهووسين بها أيضا. وكنت شخصيا أرتعش أثناء العروض، أنسى نفسي وأقتسم حماسي مع بقية المتفرجين رغم عدم معرفتي بهم. أما الآن، فمسؤولياتي السامية تجعل المنظمين يعتقدون أن من واجبهم إيجاد مكان لي وسط شخصيات في نفس وضعي، شخصيات تكبت عواطفها بسبب التحفظ أو المركز الوظيفي. أنا مستعد اليوم لدفع الغالي والنفيس مقابل الانسلال وسط العامة وإطلاق العنان للتعبير عن تحمسي.» هي ذي الشهادة التي أسر بها كاتب دولة فضل عدم الكشف عن هويته. ويدل ما سلف، ببلاغة، على أن الولع بالتبوريدة يسقط رفعة المنازل المكتسبة من الاعتبار، وأنه يردم الهوات الناتجة عن الفوارق السوسيو-مهنية.