اشتهر فريدريك نيتشه كأحد أهم الفلاسفة في العالم في أواخر القرن التاسع عشر وأحد الأكثر تأثيراً في الفلسفة خلال العصر الحديث. لكن ما لا يعرفه سوى القلّة القليلة من البشر هو أن حلمه لم يكن في أن يصبح فيلسوفاً ولكن مؤلفاً موسيقياً. هذا ما يشرحه الكاتب والناقد الفني جورج لييبير في كتابه الذي يحمل عنوان "نيتشه والموسيقى". المشكلة الكبرى التي حالت بين نيتشه وبين تحقيق طموحه يحددها المؤلف بكل بساطة، أنه لم يكن يمتلك الموهبة المطلوبة. لكنه قام مع ذلك بتأليف العديد من المقطوعات الموسيقية وجعل من الموسيقى أحد المواضيع الأساسية في اهتماماته الفكرية. كان ذلك خاصّة بعد اكتشافه للموسيقي الكبير ريشارد فاغنر. وقد قامت بين الرجلين صداقة عميقة عبّر عنها الموسيقي بجملة شهيرة مفادها :" بصراحة ودقّة، أنت يقصد نيتشه بعد زوجتي، المكسب الوحيد الذي قدمته الحياة لي". لكن نيتشه الذي أقام منظومته الفكرية على مبدأ المعارضة، شبّه موسيقى فاغنر بالمخدّر. وكتب عنه بقسوة تحت عنوان "ما وراء الصالح والطالح أو حالة فاغنر". وكانت تلك تسوية حساب ظالمة، كما يكتب المؤلف. ولكنها كانت، كما يبدو، ضرورية بالنسبة لنيتشه، لولوج فضاءات فنية أخرى. ويغطي الكتاب،ولع نيتشه بالموسيقى. ويتثبت لنا في هذا الشأن،من وثائق عديدة، أنه اعتنى بالعزف والتأليف الموسيقيين، منذ مراحل عمرية مبكرة. وكانت ذائقته الموسيقية متسمة بدرجة ثقافة عالية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اشتهر نيتشه بنقده الواعي المعمق، للأعمال الموسيقية لمختلف الموسيقيين. وكان يرى في الموسيقى غذاء ومعينا روحيا يذكي مخزون الفلسفة والفهم المتأمل الحقيقي لمجريات الحياة ومضامينها. ووضح جليا، في السياق، اهتمامه بالتراجيديا، كامتداد ومنحى تجسيد لقيمة الموسيقى في حبكة العمل الأدبي والفكري، إذ تكمن في الجوهر، وتكلل وتتوج المعنى. لا بل تكسبه روحاً خاصة.