من قال إن الاقتصاد مجرد أرقام يابسة ومؤشرات باردة تفتقد إلى إدام العبارة ودفء المعنى، أو هو مجال المنفعة بامتياز لا يتسع خطابه إلا لمعجم الثروة واستراتيجية الربح (win strategy)... غالبا ما تستغرقنا هذه الصورة، ولو أنها ليست صحيحة دائما، عندما نستحضر عالم المال والأعمال. بل نتصور أحيانا منظريه وخبراءه مثل كائنات مربعة أو مثلثة لا تستقيم لها الذروة التعبيرية إلا في حضن التكميم والمعادلة والمقايسة. وخلافا لما هو شائع، يبدو أن الاقتصاد لم يسلم، منذ كان، من حبائل اللغة وغواية الاستعارة التي تتسرب إلى خطابه، ويتوسل بقوتها الإبلاغية لتوصيف ما أشكل عليه بلغة الأرقام والنمذجات الرياضية. وإلا كيف نفسر استعمال تمثيل أليغوري من قبيل "دعه يعمل، دعه يمر " لتشخيص الخيار الاقتصادي الذي يقوم على حرية المبادرة وتحرير السوق... أو إسناد محمول "متوحشة" إلى ملفوظ "ليبرالية" للدلالة على الرأسمالية في حدودها القصوى... قبل سنوات، وأمام تدهور الموارد الطبيعية والبيئية في العالم، لم يجد الإيكولوجيون أبلغ من عبارة "الاقتصاد الأخضر" لتسويق تصورهم حول التنمية المستدامة والتكنولوجيا النظيفة... قاموس الألوان حاضر كذلك في أدبياتنا الاقتصادية بالمغرب، بحيث باتت المخططات التنموية تكتسي بألوان الطيف:"الأزرق" للسياحة، و"الأخضر" للفلاحة، وهَب أن تصطبغ الثقافة ب "أصفر فان خوخ" ، حين يصبح لها مخطط استراتيجي كغيرها من قطاعات الاقتصاد ما يُسوّغ هذه الانزياحات بمختلف مستوياتها اللفظية والدلالية، هو كون الاقتصاد ليس مجالا فقط للإنتاج المادي من سلع وخدمات ومعاملات تجارية ومالية، ولكنه فضلا عن ذلك حقل علمي بحصر المعنى وثيق الصلة بالتجربة والنشاط الإنسانيين، وبالتالي يتعالق طي شبكة من الجوارات المعرفية والتداولية حيث تتشرب أنساغُه وتتغذى أوعيتُه وتتواصل. ويكفي الرجوع هنا، على سبيل الاستدلال، إلى "ماركس" و"فيبير" وعلال الفاسي وسمير أمين و"جاك أتالي" وغيرهم ممن بلوروا توجهات ونماذج اقتصادية تستند في أنساقها إلى تصورات فلسفية أو دينية أو أخلاقية أو سياسية، تتوارى أحيانا خلف كسائها التقني وبعدها الإجرائي. للاقتصاد وجدان ثاو وجذر قيمي لا يستعيدهما/ يستدعيهما إلا في لحظات الانعطاف والأزمات والتحولات الكبرى التي تمور بها المجتمعات والأمم. ففي سياق الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعرفها العالم في السنوات الأخيرة، والتي مست تداعياتها مختلف بلدان المعمور وإن بدرجات متفاوتة، أخذ الخطاب الاقتصادي، وهو يروم بدائل للنماذج الاقتصادية التي أعلنت إفلاسها، ينفتح أكثر من ذي قبل على أوعيته المعرفية والمجتمعية ويتجه نحو جواراته الجيو- استراتيجية، لعله يضفر بما عجزت عن تحقيقه المقاربات التقنوقراطية التي تحتكم إلى منطق مانوي يقوم على احتساب ما سيتحقق من فائض أو عجز، ربح أو خسارة، في مواجهة تحديات الأزمة. وهكذا، لم يبق الخطاب الاقتصادي، الذي ينتجه المسؤول الحكومي أو الباحث الأكاديمي على حد سواء، يكتفي بوضع خطط عمل وفق مواصفات النجاعة والفعالية ومؤشرات الإنجاز فحسب، وإنما يجتهد في أن يبحث لها أيضا عن لحمة وجدانية تَرفِدها أو "إيتوس"(ethos) اقتصادي يمنحها الروح والمعنى، حتى لا تظل مجرد آليات أو تدابير عارية ومفككة. ومن هنا، التوجه المتزايد حاليا نحو إحياء وتحيين قيم سوسيو-ثقافية من الرصيد الإنساني المشترك، من قبيل التضامن والتماسك والتعادلية والإنصاف وغيرها، في صميم محاولات تَجاوز الأزمة وتقديم أجوبة قمينة بإعادة انطلاق دورة الاقتصاد العالمي الراكدة. كما انبرى الاقتصاديون لنحت مفاهيم جديدة خلاقة عبر الاستعانة بسعة الفكر وانزياح اللغة، بحيث ثمة من يتحدث اليوم عن "أنسنة اقتصاد السوق"، أو يسعى إلى إضفاء "مسحة روحانية" على التطور الاقتصادي لتشذيب بعده النفعي الآثم... وليس بعيدا عنا، سمعنا وزير الاقتصاد والمالية نزار بركة يتحدث في مناسبات عديدة عن نموذج اقتصادي يرتسي على "نمو- تضامني"، كما استوقفتنا مؤخرا دعوته إلى إقامة "اتحاد مقدس" بين الاقتصاديات المغاربية للتصدي معا لآثار الأزمة الدولية. هي عبارات، إذن، لا تخلو من إبداع وإمتاع، تأسر الذوق وتستنفر التفكير، وتشي بأن الاقتصاد الذي يقترن في لاوعينا الجمعي ب"متلازمات" الفائدة والقيمة المضافة ورأس المال، لا يمكنه أن يتشبع بحرارة الواقع وينصت إلى ذبذبات المجتمع إلا بإعادة الدفق لشريان الوجدان القادر على تبديد الشكوك، وحيث يُمكن لعبارة واحدة أن يُستعاض بها عن نظرية بأكملها، أو أن تتخلقَ منها هويةُ لنموذج اقتصادي ناشئ.