تعيش عدد من البلدان العربية، التي شهدت تمردات شعبية، سماها البعض ثورات أو ربيعا عربيا، مثل تونس ومصر، أو تلك التي شهدت إصلاحا دستوريا، مثل المغرب، وكلها تتزعم حكوماتها أحزاب دينية، خطابا ومنهجا سياسيا خطيرا، يتمثل في فرض منطق الأغلبية، ولو كانت ضعيفة، على باقي المكونات السياسية. حيث تتحول الانتخابات من منهج ديمقراطي لترتيب التمثيلية السياسية، بهدف إنجاح حوار البرامج وتنظيم عملية التفاوض المستمر، إلى أسلوب حكم يرهن ويبتز باقي مكونات المجتمع، وتهديد متواصل لخلق الأزمات والتوترات، عندما تسعى القوى الأخرى، بما فيها تلك التي تشارك في ائتلافات حكومية، إلى طرح مطالبها والمناداة بتفهم وجهة نظرها. حصل هذا بوضوح في تونس، عندما طالبت الأحزاب المشاركة في الترويكا، المشكلة للتحالف الحكومي بإجراءات وقرارات سياسية، متوافق عليها، لكن حزب النهضة الديني، الذي يتزعم الحكومة، رفض، بل أكثر من ذلك، عندما حصلت أحداث في مدينة سليانة، ودخل الاتحاد التونسي للشغل، في مواجهة مع الحكومة، استغرب رئيسها، الجبالي، مبدأ انتقاده، وقال في ندوة صحافية، إن له شرعية انتخابية، ولذلك لا يمكن المطالبة برحيله. أما ما يحدث في مصر، فهو أكثر وضوحا، إذ اعتبر حزب العدالة والحرية، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، أن من يعارض سياسات الرئيس محمد مرسي، ينتمي إلى ما يسمى «الثورة المضادة»، أو كما يسمى في الشارع المصري «فلول»، أي بقايا النظام السابق. و معنى ذلك أن لا أحد يمكنه انتقاد الحكومة المصرية، وإلا فإنه سيصنف في خانة أعداء الثورة، كما حصل مع القوى المشكلة لجبهة الإنقاذ. السيف المسلول في وجه كل القوى المختلفة مع الإخوان المسلمين في مصر، هي صناديق الاقتراع، رغم أن المشاركين في الاستفتاء على الدستور لم تتجاوز نسبتهم 32 في المائة، أي أن الأغلبية الساحقة قاطعت، لكن ما يهم الرئيس المصري، أن أكثر من 60 في المائة، من الأقلية، صوتوا لصالحه. كيف حصل ذلك؟ من راقب الانتخابات؟ هذا لا يهم، فصناديق الاقتراع حكمت لصالح وأد الديمقراطية في مصر. ومتى كانت الديمقراطية مطلب الإخوان المسلمين؟ الأممية الإخوانية لا يهمها من الديمقراطية سوى صناديق الاقتراع، أي الحصول على أغلبيات، بدعوى الدفاع عن الشرع، مستغلين الدين بشكل رخيص في الانتخابات. وبعد ذلك تنتهي اللعبة، وتتم مواجهة كل المطالب الديمقراطية بمنطق الصناديق، ويعني هذا في عرف الأحزاب الدينية، أن كل معارضة باطلة، بحجة أنها تناهض «الإسلاميين»، حماة «الحقيقة السرمدية». وبالمقابل، يوصف المعارضون بكل النعوت، فهم تارة «فلول»، وتارة أخرى «عرابو فساد» أو «منحلون أخلاقيا»، إن لم يكونوا «شواذ وعاهرات». ولا تختلف الصورة كثيرا في المغرب، فالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية، تحولت إلى مبرر لفرض منطق الحزب الحاكم، رغم أن السلطة التنفيذية، التي تتشكل من تحالف حزبي، لا يبدو من خلال التناقضات الحالية، المتجلية فيه بوضوح، أنها متفقة. لقد طالب أحد المكونات الرئيسية للتحالف الحكومي، أي حزب الاستقلال، بتعديل وزاري، وهذا عادي في كل الديمقراطيات، وحدث مرات عديدة في المغرب، لكن ما راج حول الدعوة لانتخابات سابقة لأوانها، يدعو الى القلق، هل وصل المغرب الى مأزق سياسي خطير، يستدعي ذلك، أم أن هناك ابتزازا سياسيا؟ التفسير المنطقي للدعوة لانتخابات سابقة لأوانها، هو أن حزب العدالة والتنمية لا يقبل «النصيحة»، حتى من التشكيلات السياسية المتحالفة معه، فكيف يمكنه أن يدير شأنا عاما، يستدعي تفعيل دستور جديد، يتطلب الكثير من المرونة والحوار والتفاوض، لأنه ليس برنامجا حكوميا، بل مشروعا مجتمعيا، ساهمت فيه المؤسسة الملكية والأحزاب والنقابات والأغلبية الساحقة من قوى المجتمع المدني، التي وافقت على الإصلاح الدستوري. وما نتخوف منه هو أننا سنجد أنفسنا، أي في المغرب، نكرر صورة مصر وتونس، في صيغة أخرى، ولكنها مرآة لمنطق واحد، وهو أن صناديق الاقتراع، يمكن أن تكون مقبرة للديمقراطية، كما حصل في تجارب أخرى معروفة. لكن هذا قدر مؤقت، لن يدوم، لأن المسيرة التحررية للشعوب، لن ترضخ لهذا الدجل السياسي، باستمرار.