دخل رئيس الحكومة في حالة هدنة مع العفاريت ، ليفتح مواجهة مع الاشباح. في بادرة لا يمكن للجميع إلا أن يدعمه في مقاصدها، مادامت تهم ظاهرة الغياب غير القانوني والموظفين الاشباح الذين تكاثروا إلى أن تحولوا إلى مرض معد داخل الادارة العمومية التي لازالت تجرها الى الخلف مظاهر اللاانصاف وعدم تثمين المردودية وغياب اليات الرقابة، بشكل يعكس ازمة حكامة إدارية من مؤشراتها استشراء الفساد الإداري،التسيب، والطابع المغلق والممركز . فتتمظهر اشكالاتها بالتالي من خلال المركزية الشديدة للسلطة، التركيز على الجزئيات والنتائج وإهمال الاسباب وعمق الأشياء، ضعف او انعدام المحاسبة والشفافية وتغييب قاعدة الاستحقاق، تهميش المحدد الحقوقي، تضخم السلطة الرئاسية واحتكارها القرار والمعلومة، اضافة إلى تحكم المزاجية والشخصنة في الية الرقابة على الأشخاص. وهي مظاهر جعلت المبدعين والمجدين يصابون تدريجيا بالإحباط ويكتفون بالحد الادنى وهم يشاهدون الاشباح والغائبين بشكل مستمر يستفيدون من المرتبات والترقيات والحوافز كذلك بشكل منتظم بدون رادع او رقيب. وهو واقع لا يمكن لأي احد انكاره داخل مختلف قطاعات الوظيفة العمومية التي بات « سليخ المعزي « فيها هو القاعدة، فيما اصبحت المواظبة والتفاني والالتزام قيما مولدة للألم بالنسبة لجيوش الموظفين الذين ظلوا يراقبون هذا المشهد المختل لسنوات طويلة. والحال أن منشور بنكيران رقم 26/2012 لم يأت بفتح مبين في ظل « التفركيع» الاعلامي الذي صاحبه كما كان عليه الحال مع الماذونيات والسكنيات، اذ تعاقبت الحكومات السابقة، بما فيها حكومة الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي على بذل مجهودات لمواجهة الظاهرة من خلال نصوص تشريعية وإجراءات إدارية تجد سندها في ﺍﻟﻔﺼل 75 مكرر من ﺍﻟﻨﻅﺎﻡ ﺍﻷﺴﺎﺴﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻟﻠﻭﻅﻴﻔﺔ ﺍﻟﻌﻤﻭﻤﻴﺔ،القانونية ﺭﻗﻡ 12 -81 بشان ﺍﻻﻗﺘطاﻋﺎﺕ من رواتب موظفي ﻭﺃﻋﻭﺍﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻤﺤﻠﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﻐﻴﺒﻴﻥ ﻋﻥ ﺍﻟﻌﻤل بصفة ﻏﻴﺭ مشروعة، المرسوم ﺭﻗﻡ 2.99.1216 الصادر ﻓﻲ 6 ﺼﻔﺭ 1421 الموافق ل 10 ماي 2000 عن حكومة عبد الرحمان اليوسفي في شان تحديد شروط وكيفيات تطبيق ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺭﻗﻡ 12.81 بشان ﺍﻻﻗﺘﻁﺎﻋﺎﺕ من ﺭﻭﺍﺘﺏ موظفي ﻭﺃﻋﻭﺍﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻤﺤﻠﻴﺔ المتغيبين ﻋﻥ ﺍﻟﻌﻤل بصفة ﻏﻴﺭ مشروعة، منشور ﺍﻟﻭﺯﻴﺭ ﺍﻷﻭل الصادر عن حكومة ادريس جطو ﺭﻗﻡ 8 /2005 بتاريخ 2 ربيع الاخر 1426 ﺍﻟﻤﻭﺍﻓﻕ ﻟ 11 ماي 2005 حول التغيب ﻋﻥ ﺍﻟﻌﻤل بصفة ﻏﻴﺭ مشروعة، فمنشور ﺍﻟﻭﺯﺍﺭﺓ ﺍﻟﻤﻜﻠﻔﺔ بتحديث ﺍﻟﻘﻁﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻌﺎﻤﺔ ﺭﻗﻡ 004 بتاريخ 19 ماي 2003 الموافق 17 ﺭﺒﻴﻊ ﺍﻷﻭل 1424 حول ﺍﻟﺘﻐﻴﺏ ﻋﻥ ﺍﻟﻌﻤل ﺒﺼﻔﺔ ﻏﻴﺭ مشروعة. وتبقى القطاعات الاكثر احتضانا للظاهرة هي الجماعات المحلية والتربية والتكوين اعتبارا لقاعدة الموارد البشرية المهمة اللتي يتوفران عليها من جهة، وبسبب تحول الأولى بالتدريج إلى قطب للريع الوظيفي اثر حالة التضخم التي عرفتها مواردها البشرية بسبب ازمة الحكامة الخطيرة التي عرفتها طيلة سنوات الثمانينات والتسعينات أيام وزير الداخلية القوي ادريس البصري الذي حول وزارة الداخلية إلى رمز للأعطيات وتوزيع المراكز الامتيازات وشراء الولاءات وضبط التوازنات والاتجاهات الاجتماعية والسياسية كذلك، محولا « ام الوزارات « إلى رمز للعطالة المقنعة من خلال تضخم التوظيفات في مختلف الدرجات بدون أن تكون هنالك حاجة مؤسساتية تبررها. وقد كانت وضعية الموارد البشرية التي تعيشها الجماعات المحلية موضوع تقارير مقلقة حتى من طرف مؤسسات دولية، يتحمل المنتخبون ورؤساء الجماعات والسطات المحلية وزرا كبيرا فيها بسبب تهريبهم للمناصب المالية إلى الزوجات والبنات والأبناء والأقارب والزبانية والموالين ولمن يدفع اكثر. لتتحول الجماعات المحلية بالتدريج إلى رمز للريع داخل جسد الوظيفة العمومية، اثر ترسخ الغياب غير القانوني وتحول جيوش من الموظفات والموظفين إلى اشباح يتسلمون رواتبهم ويترقون بانتظام فيما يزاولون مهنا اخرى خارج رقابة السلطة الرئاسية للإدارة . « ملف الاشباح داخل قطاع الجماعات المحلية مأساة حقيقية وجريمة مالية بكل المقاييس، يتحمل وزرها المنتخبون والسلطات المحلية على حد سواء. فانا اعرف حالات موظفين تفننوا حتى في التحكم في آلية المراقبة اليومية للحضور والغياب. حيث يتواطؤون مع الموظف المكلف بمسك جدول الحضور والغياب، فيقوم بتسجيل حضورهم بشكل منتظم مقابل نسبة من الاجرة ، فيما ينصرفون إلى مزاولة مهن اخرى» يحكي موظف جماعي معلقا على تجذر الظاهرة. وبالتالي تكونت شبكات حتى من صغار الموظفين تحمي الاشباح والمتغيبين في ظل استحضار رؤساء الجماعات للحسابات الشخصية والسياسوية الضيقة، وإحجام السلطات المحلية عن ممارسة حقها في الرقابة على الموارد البشرية للجماعات المحلية. ونورد هنا على سبيل المثال لا الحصر حالة الجماعة الحضرية لأسفي التي تحتضن اكثر من 2000 موظف قرابة 600 منهم اشباح . كما لا يخفى على الرأي العام تفشي ظاهرة الموظفين الاشباح داخل قطاع التربية والتكوين، حيث زوجات وبنات وأبناء وأقارب المسؤولين في الوظائف المدنية والعسكرية كذلك يبقون خارج المراقبة ويستفيدون كباقي الموظفين من التدرج في السلم الاداري والمالي بشكل طبيعي. وهي حالة شاذة نبهت اليها النقابات التعليمية بشكل حاد. لتكون اول محاولة في عهد الوزير اسماعيل العلوي، إلا انها لم تراوح مكانها بسبب تجذر الظاهرة وتداخل خيوط المصالح . والحال أن وزارة التربية الوطنية وغيرها من القطاعات تتوفر على الية سنوية تمكنها من ضبط وضعية نشاط الموارد البشرية، وهو الاحصاء السنوي الذي يتم بشكل منتظم، حيث توضح فيه الادارة أن كان الموظف مزاولا لمهامه او غير مزاول. إلا أن مؤامرة الصمت حالت لسنوات طويلة دون تدبير هذه الالية بشكل شفاف ومسؤول يضع الادارة المغربية في صورة نشاط مواردها البشرية. غير أن واجب الانصاف يقتضي تسجيل حالات مسؤولين تحلووا بالشجاعة الكافية لفضح حالات الاشباح ، إلا أن ردود الفعل كانت قوية في مواجهتهم، ووجهت الية الزجر نحوهم عوض أن تستهدف الاشباح والمتغيببين والمتمارضين الذين باتوا خطوطا حمراء لا يجوز الاقتراب منها.وتبقى الحالة الاكثر استفزازا ومثارا للنقاش، هي ما ارتبط بملف «اشبال الحسن الثاني « الذين ظل الكثير منهم في مناى عن كل رقابة او مساءلة في مقابل تحولهم إلى اشباح وتغيبهم بشكل مفتوح عن العمل مستفيدين من الحصانة التي منحت لملفهم الذي ظل محاطا بهالة حساسية ملف الصحراء. فلم يكن يجرؤ اي مسؤول بمختلف الادارات او المؤسسات العمومية على استفسار الاشبال او تحريك مسطرة المساءلة ضدهم . واذكر هنا حالة احد النواب السابقين لوزارة التربية الوطنية، تحمل كامل مسؤوليته خلال الاحصاء السنوي وأعطى الوضعية الحقيقية للموظفين الاشبال/الاشباح على مستوى إدارته مما ترتب عنه تفعيل مسطرة ايقاف الاجرة عنهم والتي تعتبر طبيعية في الحالات المثيلة . إلا أن رد الفعل كان قويا، ودخلت وزارة الداخلية على الخط، وتم تحميل النائب الاقليمي مسؤولية الاجراء الذي صنف في خانة الخطأ، وانتهى المطاف بتوجيه رسالة ملاحظة إليه. فهل يجرؤ عبد الاله بنكيران على وضع حد لحالة الريع الوظيفي التي ظلت تستفيد منها مجموعة كبيرة من اشبال الحسن الثاني المشكلين من قرابة 7000 موظف تم ادماجهم داخل الادارات والمؤسسات العمومية نهاية الثمانينات، ودأب الكثير منهم ،لأكثر من عشرين سنة ، على تلقي الاجور بدون اداء المهام المنوطة بهم؟ وبعيدا عن كل اندياح نحو اختزال الظاهرة في قطاع أو فئة وظيفية معينة، فان المرجو هو ان لا يكون المنشور رقم 2012/26 الصادر عن رئيس الحكومة بتاريخ 15/11/2012 مجرد ظاهرة اعلامية. كما لا يجب أن تكون المقاربة زجرية تأديبية فقط، لان الامر لا يتعلق بمشكل، بل بظاهرة، والظاهرة تقتضي مواجهتها بتواضع، لان اقصى ما يمكن تحقيقه بالتدريج هو التقليل منها مادام الامر مرتبط بخلل بنيوي في السلوك الوظيفي لآلاف الموظفين بعضهم دوافعه مرضية واقتصادية. كما أن المغرب لا يتوفر على رقم دقيق يعكس الحجم الحقيقي للموظفين الأشباح في مختلف الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية . من جهة أخرى يبقى مصطلح الموظف الشبح غير ذي اساس أو وجود قانوني كما ان تحديد معناه تتوزعه اتجاهات. فهنالك اتجاه يميل الى اعتبار ان الشبح هو كل موظف غائب بشكل منتظم يتدرج اداريا وماليا ويتوصل باجرة بدون أداء أي مهمة مقابل تبررها . واتجاه ثان يرى ان الشبح هو كل موظف ترك مركز عمله بشكل غير قانوني. اما الاتجاه الثالث فيعتبر ان الشبح هو كل موظف يتغيب بشكل مستمر ولمدة طويلة مع الاستفادة من الاجرة. وبالتالي فان التعاطي مع الظاهرة لا يمكن أن يعزل عن الازمة المركبة التي تعيشها الادارة المغربية، والتي لا يمكن التصدي لها إلا عبر استراتيجية مندمجة تضع المورد البشري في قلب الدينامية الاصلاحية وتحقق الارتقاء بالإدارة في بعديها المؤسساتي والبشري وتراهن على الحكامة الجيدة التي تتأسس على المشاركة الإدارية التي تستحضر علاقة المواطن بالإدارة من جهة، ومن جهة اخرى علاقة الفاعل الخاص بالفاعل العمومي، المشروعية الادارية التي تقتضي ملاءمة القرارات والإجراءات الادارية مع المقتضيات القانونية والتشريعية، الشفافية الادارية التي تتمحور حول ضمان الولوج الى المعلومة الادارية من طرف الاشخاص والمؤسسات ،المسؤولية الادارية التي تخول مساءلة الخدمة العمومية من جهة، وحماية المتعاملين مع الادارة من الاضرار التي تسببها هذه الاخيرة من جهة اخرى،اللامركزية الادارية حيث يحضر مفهوم الادارة المحلية مقابلا للإدارة المركزية، على اساس التوزيع المتوازن للاختصاصات بين الدولة ووحداتها المحلية في صيغ تعاون وتكامل السلطات بالموازاة مع تفويض الوسائل والاعتمادات اللازمة. ثم اعتماد الادارة الاستراتيجية التي تتخذ طابعا استشرافيا يتأسس على رؤية مستقبلية تنبني على منهجية علمية للتقييم والتحليل والدراسة من خلال إعمال آليات التخطيط الاستراتيجي. اتمنى صادقا أن يذهب رئيس الحكومة بعيدا في اعمال القانون ووقف نزيف الموارد البشرية والمالية للإدارة المغربية، اذ اخاف أن يدخل من جديد في حالة هدنة مع الأشباح كما استكان...في مواجهة العفاريت.