منذ اسبوع احتفل الشعب المغربي بتقديم وثيقة الاستقلال 11 يناير 1944، هاته الوثيقة التي تشكل مناسبة هامة لاستحضار الدروس واستخلاص العبر واعترافا بجهود وتضحيات ممن سبقونا من رواد الحركة الوطنية من الرعيل الاول حيث كانت تتجلى فيهم سمو الاخلاق ونكران الذات، وستظل هذه الذكرى علامة بارزة في مسار الحركة الوطنية كما انها تؤرخ لمدى الالتحام الوثيقتين بين العرش والشعب والذي شكل دوما قوة متلاحمة وراصة دفاعا عن الوطن والدين واللغة. واليوم تحتضن مدينة أبي الجعد، هذه المدينة التاريخية التي نعتز بالانتماء اليها، هذه التظاهرة العظيمة التي ستتناول فيها موضوع: النضال السياسي والمقاومة في مدينة ابي الجعد 1930 - 1953 الى جانب دور التعليم الحر في تنمية الشعور الوطني والحفاظ على اللغة العربية ومقوماتها. وبهذه المناسبة لا يسعنا إلا ان نتوجه بالشكر الجزيل الى كل من المندوبية السامية لقدماء المقاومين وجيش التحرير,جمعية ابي الجعد للتواصل والعمل الاجتماعي,الاساتذة الأجلاء المشاركون,والى كل الذين ساهموا من قريب او بعيد في تهييئ هذا اللقاء الهام وبالاخص اللجنة المحلية لقدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير بمدينة ابي الجعد، متمنين في نفس الوقت أن تعم الفائدة من العروض القيمة التي سيلقيها السادة الاساتذة والتي بدون شك ستجعل شباب ومثقفي هذه المدينة يطلعون على جزء هام من تاريخ مدينتهم كما تذكرهم بالرعيل الاول من ابائهم واجداهم الذين صنعوا تاريخ هاته المرحلة من تاريخ المغرب الحديث. .. لقد كانت البذرة الأولى للحركة الوطنية في مدينة ابي الجعد على يد احد اقطاب الفكر السلفي المتحرر المرحوم بوشتى الجامعي سنة 1937 حينما زار مدينة ابي الجعد ونزل ضيفا على صديق الدراسة وقتها في مدينة فاس المرحوم الحاج محمد السموني »الفقيه العالم« وقد كانت فرصة مناسبة ليجتمع فيه الفقيه الجامعي بالطلبة الذين كانوا يدرسون وقتها عند الفقيه السموني، ألقى فيها محاضرة قيمة ركزها على شرح الآية الكريمة: »يأيها الناس,إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم«« وكانت مناسبة لتبادل الجميع وجهات النظر والتطرق الى ما يعيشه المغرب وقتها، كانت بالفعل، بداية لانطلاق حركة سياسية وعلمية في نفس الوقت، حيث كلف المرحوم الحاج محمد السموني بالإشراف على مجموعة من الدروس كان يلقيها في مسجد »سيدي صالح« يرتادها مجموعة من الطلبة، حيث كانت تدرس مجموعة من الدروس كانت موزعة كالتالي: حصة صباحية. حصة زوالية. حصة مسائية.الصباح الباكر الزوال بين العشاءين«. وكانت المواد المدرسة تتوزع ما بين: الفقه اللغة العربية النحو علم البيان السيرة النبوية الموطأ صحيح البخاري... دون أن ننسى حلقات علمية أخرى كانت تعقد في مسجد مولاي سليمان يشرف عليها الأستاذ المرحوم الفقيه التناني. وقد ساهمت هذه الدروس في خلق مجموعة/ ثلة متنورة لعبت أدواراً هامة فيما بعد في نشر العلم والمعرفة خارج مدينة أبي الجعد، وقد استمرت هذه الدروس الى منتصف الخمسينيات... هاته الثلة من الطلبة ستكون فيما بعد أي في سنة 1947 النواة الأولى للمدرسة الحسنية، والتي كان المرحوم الحاج محمد السموني »الفقيه العالم« أبرز مؤسسيها ومديرها والمسؤول على تسييرها... هاته المرحلة وما عرفته، سواء على مستوى الوعي الوطني أو المعرفي والتربوي مهدت لما حدث سنة 1944، هذه السنة وبالضبط يوم 11 يناير عرفت تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال. وقد انخرطت مدينة أبي الجعد في هاته الحركة، حيث لعب أحد أبناء أبي الجعد دوراً هاماً فيها وهو المرحوم الحاج عبد الواحد الشرقاوي فقد اتصل بالفقيه السموني مبعوثاً من طرف اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، وبعد دراسة معمقة للوضعية الراهنة في المدينة والظرفية التي يعيشها المغرب، وبعد استشارة مجموعة من الفاعلين الأساسيين في المدينة، وقع الاتفاق على عقد اجتماع داخل متجر الفقيه السموني، وذلك يوم الخميس في الساعة 8 صباحا لتلقي التوقيعات، تدعيماً للوثيقة المذكورة والمطالبة بالاستقلال. لقد كنا مجموعة من الطلبة الصغار وقتها الى جانب الفقيه السموني في ذلك الصباح الباكر، وهو يوم السوق الأسبوعي، حيث يرتاده التجار من جميع أنحاء المغرب من أجل التسوق، وقد كان الفريق المسؤول عن هاته العملية يتكون من: الفقيه العالم السموني الشرقاوي. محمد بن عبد الله الشرقاوي. امحمد بن خلوق. الفقيه سي حمزة. بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الوطنيين اعتذر عن عدم ذكر كل الأسماء كلها لكثرتها وحتى لا أنسى بعضاً منها... لقد كان المنادون داخل السوق يحثون المواطنين على التوجه لمتجر الفقيه السموني العالم لتوقيع وثيقة المطالبة بالاستقلال. وقد امتلأت ساحة النجارين بمئات المواطنين كل يحاول أن يكون سباقاً إلى التوقيع، ولم تمض إلا ساعة حتى حضر المراقب المدني صحبة مجموعة من المخازنية وحاصروا بالقوة مكان التجمع، وبعد مناوشات وسجال بين المراقب والفريق المسؤول، انتزع المراقب الوثيقة وأخذها معه، إلا أن بعض الوطنيين التحقوا به بمكتبه، وألحوا على استرجاع الوثيقة بعدما اتصل شخصياً بالإضافة العامة. وقد أعاد لهم ما أرادوا حيث تمكنوا من الحصول عليها وبعثها إلى مركز حزب الاستقلال بالرباط، صحبة المواطن المرحوم الحاج بوبكر الشرقاوي. هاته العملية لم تمر بسلام، إذ بعد أيام على حدوثها، عقد المراقب جلسته الأسبوعية لمحاكمة »رؤوس الفتنة«، كما كان يقول، والذين اعتبرهم المسؤولون عن كل ما حدث. وهكذا صدرت الأحكام على كل من: الفقيه السموني ب 6 شهور. محمد بن عبد الله الشرقاوي 8 شهور. امحمد بن خلوق 10 شهور. الفقيه سي حمزة 12 شهراً.نفوا بعدها إلي خارة مدينة أبي الجعد. لقد كان الاستعمار وقتها يعتقد بأنه بعمله سيضع حداً لتطلعات المواطنين و »يدخلهم في رؤوسهم«، كما قال أحد المتعاونين معه. ولكن العكس هو الذي حصل. فقد شجعت الباقين على الاستمرار في النضال من أجل حصول المغرب على حريته واستقلاله وهذا ما حدث بالضبط, حيث عرفت المدينة مظاهرات هامة بمناسبة اغتيال الشهيد النقابي فرحات حشاد (1952/12/5) كان رد الفعل الاستعماري قويا وعنيفا اعتقل فيها عددا كبيرا من سكان المنطقة بكاملها، وكان حظ البادية كبير جدا. وهنا لابد من الاعتراف بالدور الكبير والشجاع الذي لعبته المدينة وخصوصا النساء .. في الدفاع عن حوزة الوطن وكرامة المواطن. والذي انتهى باستقلال المغرب. ثم جاء نفي محمد الخامس على يد الطغمة الاستعمارية سنة 1953 (20 غشت)، وكانت مدينة أبي الجعد والناحية على موعد مرة أخرى مع القدر, حيث خرجت عن بكرة أبيها تستنكر ما وقع، وتقاوم بكل ما لديها من قوة، وقد كان الثمن غاليا مرة أخرى, حيث اعتقل الكثيرون وجز بهم في السجون.. مما أعطى زخما قويا للحركة الوطنية ولتجدرها والانتقال بها من النضال السياسي الى المقاومة المسلحة. فكانت أحداث 20 غشت 1955 والتي أطلق عليها »ثورة الملك والشعب« وكثير من الإخوة الحاضرين معنا اليوم والذين أعرفهم جيدا عاشوا هاته الفترة وشاركوا في المظاهرات وفي المعارك الساخنة التي دارت بين المتظاهرين والمخازنية وأعوان الاسعمار وبعض الفرنسيين المدججين بالسلاح، معركة غير متكافئة حيث أطلق الرصاص على المتظاهرين، وكانت الحصيلة المزرية استشهاد 19 مواطنا منهم 10 من مدينة أبي الجعد و9 أو أكثر من مناضلي القبائل المجاورة للمدينة, بالإضافة الى أسماء شهيدات من العنصر النسوي، إضافة إلى الجرحى والمعتقلين الذين قاربوا الألف منهم 700 تقريبا من البادية، وهنا لابد أن أشير إلى أن البادية مع كامل الأسف لم ينصفها التاريخ ولم ينصف رجالاتها، لقد ساهم الكثيرون منهم في نشر الوعي الوطني وفي المقاومة المسلحة رغم صعوبة العمل في البداية ولم يكتب لهم حتى الحصول على بطاقة مقاوم، وماتوا وهم فقراء، ولا نملك في هذه المناسبة إلا أن نقف لهم إجلالا وتكريما و احتراما لما قدموه لهذه المدينة من تضحيات جسام. وبعد كفاح مرير ونضال مستميت توجت هاته المرحلة برجوع الملك محمد الخامس وعائلته الملكية، وكان يوما مشهودا في تاريخ مدينة أبي الجعد وفي ربوع المملكة، حيث أعلن بشكل رسمي عن نهاية عهد الاستعمار وبزوغ فجر جديد من الحرية والاستقلال و بهذه المناسبة لا ننسى الدور المميز والحاسم الذي اطلع به أحد أبناء هاته المدينة وهو الأستاذ محمد بنعبد الله الشرقاوي أطال الله عمره امتدادا لما قام به والده المرحوم بنعبد الله الشرقاوي أحد الذين أطروا أحداث 1944 وما تلاها، حيث ساهم الابن بشكل كبير في نشر الوعي الوطني وتأطير المقاومة المسلحة ومدها بالدعم الكامل, سواء داخل المدينة أو على مستوى الوطن بكامله، ويمكن لمدينة أبي الجعد أن تفتخر بأن أحد أبنآئها البررة شارك مع مجموعة من الوطنيين الشرفاء في محادثات ايكس ليبان« التي انتهت بإعلان استقلال المغرب ورجوع ملكه الشرعي الى أرض الوطن.. لم يكن الوطنيون منشغلون فقط بالعمل السياسي, بل كان همهم كذلك منصبا على الجانب المعرفي والتربوي ونشر الوعي بين المواطنين، ومكافحة الجهل والشعوذة، وهكذا أنشأوا مدرسة حرة أطلق محمد الخامس عليها »المدرسة الحسنية« سنة 1947 والتي لعبت دور الريادة في نشر العلم و المعرفة في مدينة أبي الجعد و نواحيها، كان المرحوم الفقيه السموني مديرا عليها ومشرفا على تسييرها الى جانب مجموعة من الوطنيين الذين تطوعوا للتدريس فيها بدون مقابل أو تعويض بسيط جدا، حيث كان تدرس بها كل العلوم العصرية و العلوم الدينية واللغوية. لقد وفرت هاته المدرسة للمغرب الى جانب المدارس الأخرى أكفأ الأطر تكوينا وعلما ونزاهة، قضاة ومهندسين وأطباء ومحامين وأساتذة، وعلى امتداد رقعة الوطن تجدهم منتشرين في كل مدينة يحظون بالاحترام والتقدير. وبهذه المناسبة أهيب بكل الأطر البجعدية على اختلاف مشاربها وعلى كل الغيورين علي مدينتهم أن يساهموا في استرجاع المكانة العلمية التي كانت تتمتع بها مدينتهم حى تصبح من جديد مركز أشعاع علمي وثقافي داخل المدينة وخارجها.