كيف تصمد الذات الواقعة في تماس مع التلاشي أمام إلحاح رغبة الكتابة؟ و هل هي الذات المتلاشية فعلا أم الكتابة أم التفاعل الحاصل بينهما؟ لا يقود عنوان ديوان الشاعر المغربي سامي دقاقي، الصادرعن دار النهضة العربية إلى شيء نطمئن إليه سوى حالة التلاشي المتحكم في عالم مأهول بشتى أسباب التفكك و الانهيار المتواصل و الهدم la destruction. إن الشاعر يهدم منذ هذا العنوان ثابتا متجذرا في طقوس الكتابة لأنها تستلزم رُسوّا على برّ آمن حتى تستقيم الرؤية و يتحقق الكشف ، لكن الشاعر يخرق هذا الثابت و يتجرأ عليه معلنا عصيانه لكل جاهز أو متوافَق حوله ، و من هنا تحديدا تظهر النزعة التفكيكية لسامي دقاقي مستضمرا مفهوم الهدم الذي وضعه مارتن هايدغر Martin Heidegger ويعني النقض المنهجي للبداهات التي تتماهى مع الأصول(2).و لا شك أن مغامرة بهذا الحجم من الجرأة المعلَنة منذ العنوان تضع الشاعر بداية في وضع لا يُحسد عليه، و من ثمة ترتفع جاذبية المتن لتبين الطريقة التي يصير فيها التلاشي مَعلما شعريا ينقض ما تعارف عليه الأسلاف، و يؤسس لكتابة الوجود المتلاشي. 1- تلاشي المناصات: تلتقي معظم عناوين القصائد التي يحويها الديوان في نقطة ارتكاز واحدة، و تتعلق هذه النقطة ب»التلاشي» المعلن عنه منذ عنوان الأضمومة كلها «الكتابة من نقطة التلاشي»؛فعلى حافة السرير يتلاشى الوعي في حادثة إيروتيكية ، و تتلاشى أحلام المحطَّمات على أغصان شجرة النذور أو تُدفن عميقا في بحيرة الموتى، و يمتد التلاشي إلى الطفولة متخذا شكل عراء ، و إلى النور في صيغة قتل الشمس ، و إلى العشق الذي تتلاشى على أعتابه ذوات العاشقين... (3) 2- معجم التلاشي: لا تخلو أي قصيدة داخل الديوان من ألفاظ مستوحاة من معجم التذمر و القنوط (الأموات ، القبو، يمزق، مقيدا ، الألم ، العذاب، الضحية ، منخورا ،جمجمة ، الدود، الجفاف ، جثة ، شظايا، الدم ، الرعب، تفزع...)، و يلاحَظ أن امتداد التذمر معجميا يتجه نحو تعميق الإحساس بتلاشي الاطمئنان، من أجل التأهب لمماهاة الرعب و الاستعداد لتملّي واقع الأشباح ( الأموات، الضحية، جمجمة، الدود، جثة...).غير أن الاقتصار على الألفاظ منتزعة من سياقاتها سيوقف التلقي عند مستوى أوّلي، لا يصمد أمام القراءات التي تراهن على الأنساق و البنيات Les systèmes et les structures (4)، و لا ينتبه بالتالي إلى التحول الذي يطول الألفاظ داخل سياقاتها: «لا شيء يضيع... لا شيء ينسى... إنها مسألة وقت فقط ثم تتجمع الذكريات عند النبع مشكلة أولى قطرات الشلال... «(5) يأتي هذا المقطع مباشرة بعد عنوان قصيدة «الكتابة من نقطة التلاشي»، و قد توقفنا سلفا عند بعض الإمكانيات الدلالية ل»التلاشي» التي يصل امتدادها المعجمي إلى عوالم الأشباح، و يتعزز هذا الفهم سياقيا من خلال لفظتي» يضيع و ينسى»، غير أن قراءة النسق كله تنفي الضياع»لا شيء يضيع» والنسيان « لا شيء ينسى». و مع ذلك فإن إمكانيات الضياع و النسيان قائمة لأن المسؤول عن إزالتها هو الزمن « إنها مسألة وقت فقط». و من هنا تظهر زئبقية المقطع و حيرة التحول. و بعبارة أخرى فإن المقطع تجسيد لفلسفة وجودية ، مع فارق في التأويل لأن الوجوديين أقروا بيقين واحد يتحكم في الموجودات، و هو يقين الحيرة و الشك و القلق(6)، في حين ينزع الشاعر سامي دقاقي إلى زرع بذور التفاؤل و الخصوبة، على الأقل داخل هذا المقطع: « ثم تتجمع الذكريات عند النبع مشكلة أولى قطرات الشلال...» 3- تلاشي التشكيل : لقد تعودت الحساسية البصرية العربية، كما هو معلوم، على قراءة القصيدة التقليدية وفق نظام ذي مسارين أحدهما أفقي تتم خلاله قراءة الصدر ثم العجز قبل الانتقال في المسار الثاني إلى القراءة العمودية، حيث تنتقل شاقوليا من البيت إلى البيت الذي يليه. و الواقع أن هذا النظام الذي تحكم في عملية قراءة الفضاء النصي فقد كثيرا من آثاره الأسلوبية، لأن تواتره على مدى أزمنة ضاربة في القدم جعل تلقيه مثيرا للملل و الرتابة اللذين صاحبا الذات العربية. فأمام هذا الوعي، وانطلاقا منه، عمل الشاعر سامي دقاقي على إرباك النماذج القديمة و استفزاز ملكة البصر في القارئ، و ذلك من خلال بعض التقنيات الموجهة إلى البصر تحديدا. إن الشاعر يراهن على الترجمة البصرية لما يعتور الذات من اضطراب و لايقين، لننظر مثلا إلى هذا المقطع: « الكلمات دائما.. لسان النار جسدك نقطة التلاشي التي تغيبني.. ورائي، لا أترك حروفا يتيمة»(7) بعيدا عن مضمون المقطع ، تقود القراءة البصرية إلى استخلاص شكل محدد لهذا المقطع، فطول السطر الأول في الديوان هو سنتيمترين و نصف، و قد تقلص إلى أقل من سنتيمتر واحد في السطرين الثاني و الثالث على التوالي، قبل أن يتمدد إلى أكثر من ثلاث سنتيمترات في السطر الرابع، لكنه سرعان ما تقلص إلى أقل من هذا الطول في الأسطر الثلاث المتبقية. و قد تبدو هذه الملاحظة عادية و بسيطة، و هو أمر ثابت، لكن اعتبار هذا المقطع سطحا لغليان باطني، سيجعل طول كل سطر ذا دلالة. إن سامي دقاقي يرسم تموُّج الذات الباطنة بين التمدد و التقلص، و لعل هذا المقطع أكثر ملاءمة لعنوان الأضمومة، و كأن الذات لا تستقر هادئة فتطمئن إلى ثباتها، و لا ُيقضى عليها من التلاشي أو يُخَفَّف من عذابها. إنها الكتابة التي تدفع القارئ إلى «قَبول رؤية لغته بشكل مغاير...و أن ينتبه إلى كونها تكتنز إمكانات لا تنضب و إلى أنه ذاتَه كائن لغوي، و أن كل شيء يتكلم فيه»(8). 4- تلاشي الأسطورة: تنطلق التجربة التخييلية في الشعر المعاصر من إحساس بالرغبة في التماهي مع عوالم الأساطير أو تحيينها من أجل مسايرة الإحساس الجديد و تبدل الرؤيا التي يصدر عنها الشاعر. لكن محاولة الشاعر سامي دقاقي احتكمت في الواقع إلى نظرتها الخاصة للوجود، فقد انتبه الشاعر إلى فوضوية العالم مما حذا به إلى خلق تشكيلات أسطورية تناظر في بنيتها هذه الفوضية و الانشطار. و يتضح هذا الإجراء من خلال العمل على تلاشي الأسطورة المتماسكة و الرمي بأطرافها بين مقاطع النص علاوة على قلب مراجع الإسناد فيها: «حين كنت مقيّدا إلى الصخرة (و دائما ما أكون كذلك) لم أفكر في النسر الذي يمزق كبدي و لا في شدة الألم أو زمن العذاب و إنما فكرت في قدر الصخرة التي ستظل تتحملني» في هذا المقطع استدعاء مكثف لأسطورتي سيزيف و بروميثيوس، و هذه التقنية في التكثيف الأسطوري تفيد أن دلالة الأسطورة المفردة مستحيلة في زمن فارغ أصلا من أي دلالة، لأجل ذلك حاول الشاعر تشييد عوالم معان لهذا العالم يصعب تقبلها منذ البداية، لأنها تخرق دلالات النص الأسطوري المتلاشية لتحل محلها دلالات الأسطورة التي تقلب الموازين، حتى تصير الصخرة هي التي تحمل سيزيف هذا الزمن و تتحمل عنه بعض العذاب، و لا غرو في ذلك ما دام الشاعر من زمن تصيح فيه الحجارة، و يتحرك الجماد متمردا على صمت الإنسان، أي على هزيمته و تمزُّق كبده. إذا كانت الأشكال السابقة للتلاشي ترتبط تحليليا بالمستوى البنيوي المنسجم مع الخطاب الشعري داخل «الكتابة من نقطة التلاشي»، فإن بنية القصائد تناظر بنيات تيماتية من صميم التلاشي المجَسَّد بنيويا من خلال العناصر الفنية السابقة. لقد أقرّ أرسطو في «فن الشعر» بأن الوظيفة الأساسية للفن هي التطهير Catharsis من مشاعر الخوف والشفقة، ولا سبيل إلى هذا التطهير دون استدعاء أسباب المشاعر المثارة نفسها، وبالتالي فالتطهر من الخوف لن يتأتى إلا باستدعاء مقومات الخوف بشكل متواتر و رهيب. وإذا تأملنا هذا المقطع من قصيدة «حادثة وعي...على حافة السرير» نستطيع أن نثبت بأن الشاعر سامي دقاقي مشغول بهذا التطهر من بوابة «تلاشي الخوف»، يقول الشاعر: «السقوط أيها السادة... السقوط الحر أيها السادة... أفكار/واجهات/أوجه/أطراف/هياكل عظمية/كواكب من لحم/أنهار دم وصديد السباحة في الفراغ»(9) إنه مقطع يتواتر فيه معجم الخوف بشكل واضح (السقوط/ الأوجه/ الأطراف/ الهياكل العظمية/كوكب اللحم/أنهار الدم والصديد...)، وهذا يعني أن الذات تقف وجها لوجه أمام هذه العناصر المرعبة، وهو مشهد تتقزز منه الذات بطبيعتها، لكن الشاعر اختار هذا الموقف وواجه الرعب بعناصره المختلفة، ولا نظن أن هناك سببا أدعى إلى هذا الوقوف أكثر من الإيمان بتلاشي الخوف بعد مواجهة أسبابه. و تُظهر قصيدة «شجرة النذور» مستوى آخر للتلاشي يطول أشكال الانحراف السلوكي نتيجة الضغوط النفسية المتوالية على العوانس. فالقصيدة ترصد ملامح هذه المعاناة دون تورّع في فضح المستور من شعوذة العوانس على شجرة النذور، وهذا يعني أن التلاشي المحيط برؤية الشاعر للطقوس الممارسة حول شجرة النذور يصيب الطابوهات التي يخجل الناس من كشفها. و يفيد التحقق الشعري لتلاشي الطابو داخل النص الشعري أن للقصيدة رؤية لعوالم ممكنة التحقق ملؤها صفاء يكسّر التعفن المستبد بشجرة النذور. و إلى جانب الخوف و الطابو المعبَّر عن تلاشيهما سلفا تمتد رؤية الشاعر إلى الوطن أيضا؛ على أن طبيعة التلاشي هنا تكاد تتخذ سمة الالتباس بين الوجود/ الوطن والموجود/الذات الشاعرة. وتكشف قصيدة «...عميقا في بحيرة الموتى» هذا الالتباس، كما تلمح على السرّ الكامن فيه: «أنا الجرح الراعف من الوطن.. ووطني أكله العالم في «عشاء أخير» وعالمي هذا شيطان أخرس لكنه يقتل ب»طريقة برايل»(10) يبدو الوطن لقمة للعالم/الشيطان الأخرس في آخر عشاء، والأكثر إيلاما لهذا الوطن أن يُقتل بطريقة عمياء لا تبقي ولا تذر، و لا تتألم لواقع وطن مكلوم أحاله القتل الهمجي بطلا مأساويا يستحق الشفقة من ذوي القلوب المرهفة الذين لن يكونوا سوى شعراء قمينين بحمل هذا الوطن: « أحمل الوطن داخلي جرحا صاديا عصفورا مقصوصا من ذاكرة السماء تلزمني غربة بعرض الهواء كي أستوعب تاريخ التحليق ضد الريح» (11) فرغم كون الوطن جرحا صاديا تكاد تعافه الأنفس لا يتوانى الشاعر عن حمله، بل واستضماره داخله، لعل الوطن يحمى في هذا الوجدان الشاعري، و يحميه هذا الوجدان في جدل بين الوطن/الأرض والوطن/القلب الذي يحلق رغم الداء و الأعداء، ورغم عويل الريح و ضنى الاغتراب، يحلّق ضد الريح إلى منتهى التلاشي ليدون «الكتابة من نقطة التلاشي»، حيث تتحرر الذات من كل القيود و يتمكن الطير من اختراق الجدار. الهوامش: 1 فاز هذا الديوان بجائزة «مشروع شاعر لأول مرة» في دورتها الأولى سنة 2012م، المنظمة من طرف «دار النهضة العربية» بلبنان بشراكة مع «بيت الشعر بالمغرب»، إلى جانب كل من الشاعرة المغربية نسيمة الراوي، والشاعر الفلسطيني أحمد يهوى، والشاعر اللبناني جوزيف دعبول. 2 جاك دريدا:»الصوت و الظاهرة»،مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل.ترجمة :د.فتحي إنقزّو.المركز الثقافي العربي.ط:1.2005.ص:19 3 أنظر عناوين القصائد بالصفحة 173 من ديوان «الكتابة من نقطة التلاشي»،سامي دقاقي ،دار النهضة العربية بيروت، لبنان،الطبعة الأولى 2012 4 توقف النقد الأدبي العالمي عند هذه النقطة، فأفرد عبد القاهر الجرجاني نظرية النظم لتأكيد أشكال الترابط و التبنين و التناسق بين الألفاظ،بعيدا عن دلالتها المعزولة،فاللفظ عنده لا يكتسب أهميته إلا من خلال نوع العلاقة التي تربطه بغيره من الألفاظ داخل السياق.كما خصص جان كوهن فصلا كاملا من «بنية اللغة الشعرية» لهذه النقطة تحت عنوان»التركيب». أنظر عبد القاهر الجرجاني»دلائل الإعجاز»،تحقيق السيد محمد رشيد رضا?دار المعرفة للطباعة و النشر.بيروت 1978 . و انظر Jean Cohen»Structure du langage poétique»,Flamarion 1966 5 سامي دقاقي»الكتابة من نقطة التلاشي».ص:9 6 جان بول سارتر:»الوجودية مذهب إنساني».ط:4.1977» دون الإشارة إلى دار النشر» 7 سامي دقاقي»الكتابة من نقطة التلاشي» ص 29 8 »J.Pierre Balpe» Lire la poésie ou une langue dans tous ses états» ed.Armand colin.1980.P.54 9»الكتابة من نقطة التلاشي» ص 59 10 نفسه ص119 11 «الكتابة من نقطة التلاشي» ص 115