«مدين للصدفة» هو عنوان مجموعة شعرية للشاعر جمال الموساوي، وهي الثانية له، بعد مجموعة شعرية أولى اسمها :«كتاب الظل» التي عمدتها بماء الجودة جائزة مغربية مرموقة على اعتبار رمزية المؤسسة التي تمنحها، وهي بيت الشعر في المغرب. يحتفي جمال الموساوي في هذه المجموعة بالأشياء غير المكتملة، وبالأشياء غير اليقينية، وهذا يظهر بوضوح من خلال العناوين الدالة والمؤشرة على الانخطاف، والوهم، والتوهم، واللايقين: انخطاف، الوهم، زهرة اليائس، شبح المعنى، قلب الأعمى ظلال تطوي الأرض»؛ أليس بالتوهم يخلق الشاعر عالمه؟ أليس عدم وضوح الرؤية سببا وسبيلا لكتابة الشعر، وأنَّ تيقن الشاعر من أحاسيسه ومن ماهيات الأشياء يعرضه لفقدان الدهشة والحيرة، وبالتالي فقدان مهيجات الكتابة، كتابة الشعر تحديدا. يقول في قصيدة:« قريبا ..من أجنحة الزوال »: «ليس ثمة ما أثق /في شكله».ص76. وشك الشاعر، وعدم يقينه لا ينحصر في أشياء الخارج فقط، وإنما يبدأ من الذات، يقول في قصيدةٍ ذات لبوس صوفي ظاهر عنوانها» ظل ما مر»: «والآن، أقف رأسا لرأس أمام المرآة/لا أراني/ أراني آخر في ذاتي/كيف ارتقيت المنعرج الحاسم ومررت مني إلي»ص18 . إن الشعرية المهيمنة في هذه المجموعة هي شعرية الفكرة، إذ نجد الشاعر ينأى بنصه عن أي لعب باللغة، ويجنبه كل فذلكة لغوية، أو حتى تنويع تركيبي أو صرفي في اللغة يقترب من مستوى الإغراب عند القارئ العادي، وهذا يظهر في كل النصوص، حيث تتشيد الشعرية فيها من جمل تركيبية بسيطة، يقول الشاعر في قصيدة :» قريبا على أجنحة الزوال»:»الظلال أشجار ميتة/ أشباح تتبع الشمس إلى بيت/الغروب».ص76. إنها شعرية غير مؤسسة على بلاغة لفظية، أو على تنميق الكلام، وإنما هي بلاغة الفكرة الثاقبة في قالب المجاز. ولهذا نجد المعنى في ديوان « مدين للصدفة» لا يتسم بالغموض التام، الذي ينتج عن تركيب لا يتسم بالانسجام، وبالتالي يخلق حالة غائمة. كما أنه لا يبين من أولى القراءات، التي تنتج عن سلك مسلك المباشرة في بناء القول الشعري. إن جمال الموساوي، وهو الشاعر الشفيف يعلن بصدق وصراحة عما يبطن تجاه الناس والأشياء، واضح وصادق في شعره، يقول في قصيدة عنوانها:«زهرة اليائس»:« هكذا هم الآخرون/أستعيدهم من وجود غير محتمل/أو من احتمال أن تكون للعدم حكمة/علي أن أحرسها/ وما يبقى من تركة اليائس /على الرصيف الملتبس/ لحيوات تتشابه وتتطابق» ص16. كما نلفيه يختصر العمر كله، في اللاشيء؛ فهو هباء، وفقاعات تبحث عن تلاشيها وعدمها؛ ونحن فقط ظلال عابرة تطوي الأرض بسرعة، والظلال كناية على البشر هنا:« مطر هذا العمر ذو القطرات/ ذو الفقاعات /ذو الرغبة في التلاشي،/نصعد العقبة منحدرين /طيور سود فوق هاماتنا،/بينما الظلال تطوي الأرض».من قصيدة :» ظلال ما مر ».ص17 . وبمقابل هذه الحِكَمية التي نعتبرها سمة مهيمنة ساهمت في إعطاء المجموعة ميسما خاصا موحدا من حيث الأثر الذي تتركه في المتلقي، نجد الشاعر في بعض النصوص يقدم على كشف أو بوح ذاتي، وكأنها نصوص يستريح فيها الشاعر من ضغط الفكرة في القصائد الأخرى، وهي قصائد يمكننا أن نصفها بقصائد الاعتراف، بكل ما تحمله هذه الصفة من عفوية وصدق، يقول في قصيدة:«ليس تماما يا أمي»:«لا، ليس تماما يا أمي/ تظنين أنني سيء الطبع إلى هذا الحد/ وأنني مولع بالهتاف للفراغ/ وأنني لا أعرف الطريق/ التي ينبغي أن تكون طريقي/ وأنني أسرف في الطاعة للظلال/ وأنني بلا شبيه في البرية/لا ليس تماما يا أمي / لكنني مخطئ / لا داعي لتسفيه حسن ظنك/ فالمسافة رفيعة إلى حد التلاشي/ بين ظنك وما أريد».ص70. والشاعر في هذه القصيدة كلها يمضي على هذا الشكل المتسم بطراوة البوح الشفيف المقترب من الهمس. وهو همس يتسم به هذا الشاعر في حياته العامة، التي يعيشها بحرية طائر لا يؤمن بنشرات أخبار الجو، وخاصة حركات الرياح. وهي حياة ينظر إليها في هذه المجموعة بكثير من شك وعدم اليقين؛ إنه الشك في ماهية كل شيء منطلقا لبناء القول الشعري، وكأنه هو القول الوحيد الجدير بالبقاء والرسوخ.