كانت وفاة محمد البوعزيزي، في 17 ديسمبر 2010، بتونس العنصر المحرك لموجة من الاحتجاجات التي غزت العالم العربي برمته. أمام هذه التوترات، هل ما زالت القوى الكبرى تملك وسائل الضغط لتحديد مستقبل هذه المنطقة من العالم؟ في هذا الحوار يجيب «برتران بادي» عالم السياسة الفرنسي المتخصص في العلاقات الدولية والأستاذ بمعهد الدراسات السياسية بباريس عن الأسئلة التي قدمتها له مجلة «ليكسبريس» الفرنسية نيابة عن قرائها. { يتم الحديث عن "ثورات عربية". لكن باستثناء تزامن هذه الثورات هل هناك تشابه بينها؟ أرى على الأقل ثلاث نقط تشابه. الأولى ترتبط بالطبيعة "ما بعد اللينينية" لهذه الثورات: لقد تم اندلاعها دون زعيم، دون تنظيم بل ودون برنامج واضح ومحدد. الثانية تندرج من سابقتها وهي أن هذه الحركات في تكونها وتطورها كانت ذات طبيعة اجتماعية لا سياسية،تعكس ظهور تضامنات جديدة وسط ساكنة غير منظمة وبروز جمعيات مدنية ضمن اللعبة السياسية. أما نقطة التشابه الثالثة فلها علاقة بالنتائج: من جهة سقطت أنظمة لم يكن أحد يتوقع سقوطها ومن جهة ثانية نشط رأي عام،كان دائما سلبيا،فاكتشف مطلبا مشتركا هو الكرامة والمشاركة. { كيف يمكن فهم انتصار الأحزاب الإسلامية في معظم البلدان المعنية بالربيع العربي؟ بالفعل فإن هذه الأحزاب،على الأقل في الوقت الحالي، هي المستفيدة سياسيا من هذه الحركات الاجتماعية. ففي ظل هذه الأنظمة الاستبدادية القامعة لأي نوع من المعارضة المنظمة، فإن الاحتجاج الديني وقواعده التنظيمية هو الوحيد القادر على حمل تعبير سياسي بديل. لذلك لن نستغرب إذا ما استفادت هذه التنظيمات الدينية من الانتخابات حيث ظهرت وكأنها قوى التغيير الوحيدة. لكن ينبغي أن نكون حذرين، من جهة لأن الإسلام السياسي يشمل العديد من التيارات المختلف بعضها عن بعض في الواقع ومن جهة ثانية لأن هذا النوع من التعبئة يكون عادة عابرا غير مستقر، يمكن أن يتجه نحو مواقف سياسية مختلفة جدا حسب الأحداث الداخلية وأيضا تبعا للاستقبال الذي يخصصه لهم المجتمع الدولي. { هل أسقط الربيع العربي أوراق القوى الكبرى وقلص من تأثيرها على المنطقة؟هل فقدت الدول التي هزتها الثورات ومصر خصوصا من مكانتها؟ معكم الحق تماما. فأحد الآثار الهامة للربيع العربي هو تغييره لعلاقات القوى داخل العالم العربي. فتقليديا ومنذ زمن بعيد كنا نشهد تنافسا في العالم العربي بين عواصم الخلافة الثلاث، دمشق وبغداد والقاهرة. إذا كان العراق قد خرج من اللعبة فإن الأحداث التي جرت في هاتين السنتين الماضيتين قد هزت بعمق كلا من سوريا ومصر. هذه الأخيرة قد تماسكت بسرعة غير متوقعة: فقد عرف محمد مرسي منذ الصيف الماضي كيف يسيطر على دبلوماسية كان بلده دائما زعيما لها، لكن الصعوبات التي يواجهها اليوم قد لا تسمح له بمواصلة السباق. وفي نفس الوقت، ولأول مرة منذ 1945، أصبح ترشح العربية السعودية لقيادة العالم العربي ذا مصداقية ويبدو أنه يحرك قادتها. إلا أنه ليس من المضمون أن تحظى السعودية بموافقة باقي الدول بالمنطقة، وفي هذا السياق يمكن فهم التحرك النشيط لقطر. في هذه الظروف، تظهر قوتان إقليميتان غير عربيتين كمرشحتين للزعامة الفعلية وهما تملكان معا شبكة تأثير مهمة، وهما تركيا وإيران { على المدى الطويل،هل تفضل الولاياتالمتحدة علاقة مستقرة مع خصم معتدل ,الإخوان المسلمين , على شراكة هشة مع حلفاء "ليبراليين" غير مستقرين؟ لقد عشنا على وهم بأن الأنظمة الدكتاتورية التي سقطت مثل قصور من ورق، كانت قوية ومتينة. فالولاياتالمتحدة قد حاولت منذ زمان أن تبني شراكة فعلية مع التنظيمات الإسلامية، حتى أكثرها راديكالية. والسبب بسيط:فالسياسة الخارجية الأمريكية، المصطبغة بالتدين، وجدت نفسها أمام العدو السوفياتي في خندق واحد مع الحركات الدينية في العالم العربي وإيران. ونحن نتذكر نظرية "غرين بيلت" (الحزام الأخضر) التي وضعها "دجيمي كارتر" خلال الثورة الإيرانية، والتي تدعمت بالمساعدات الكبيرة التي قدمتها واشنطن للمقاتلين المسلمين الذين كانوا يحاربون الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. كما شهدنا هذا التضامن في السودان. وبعد ذلك جاءت النظرية الواقعية، التي تعتبر عدو عدوي صديقا لي، لتخلف نظرية الحزام الأخضر. ولا يبدو اليوم بأن هذا المثل، خاصة في سوريا اليوم كما في ليبيا أمس، قد اختفى من قاموس الدبلوماسية الأمريكية. والأكثر من هذا هو أن العربية السعودية،وهي أكثر حلفاء واشنطن إخلاصا بالمنطقة، تقوم بمساندة الحركات الإسلامية الأكثر راديكالية بشكل واضح كل الوضوح. فبالرغم من 11 سبتمبر فإن الولاياتالمتحدة تكتشف كل يوم في العالم العربي عجزها عن تنظيم أو تدعيم حركة تتماهى مع هويتها وأهدافها. { هل يشكل 'الربيع العربي" إخفاقا لأجهزة المخابرات الغربية؟ هل أصبحت وسائل قراءتنا للعالم العربي متقادمة؟ بالفعل،فقد أخفقت التحليلات من جديد، كما أخفقت قبل أقل من ربع قرن حين لم يتوقع أي من الأجهزة الاستخبارية سقوط الاتحاد السوفياتي. لكن ليس هذا هو المشكل، فنحن عشنا على وهم أن هذه الأنظمة، التي تساقطت مثل قصر من ورق، كانت قوية ومتينة. بل إن علم السياسة قد أبدع مفهوما جديدا لوصفها فسماها "الأوتوقراطية التحديثية" زاعمة بسذاجة أن كل نظام سلطوي يعرف كيف يرضي الدبلوماسية الغربية ويضمن نظاما اقتصاديا ليبراليا يملك الكثير من الحظوظ كي يحافظ على الاستقرار الداخلي. . . كان الاعتقاد السائد هو أن العالم العربي ينبغي أن يظل وسيلة لضمان تزويدنا بالبترول ويضمن? من خلال أنظمة مراقبة ? تقليص موجات الهجرة والأمن في شرق المتوسط. كان هذا معناه نسيان تراكم الإهانات والإحباطات والمساس بالحقوق الدنيا للأفراد. متناسين أن الشعوب يمكن أيضا أن تطالب بكرامتها: وهذا هو شعار الثورة التي فاجأت جميع القادة الغربيين. { يبدو أن المغرب،الذي قام فيه الملك بإصلاح المؤسسات،قد نجح في الحفاظ على استقراره. فلأول مرة يعين وزير أول إسلامي وملكي، هل يمكن القول بأن الملك قد نجح في قيادة التغيير الهادئ؟ أو من الممكن توقع صعود الاحتجاجات؟ حقا أن المغرب يتوفر على مؤهلات لا تتمتع بها باقي الدول العربية المجاورة. فالمغرب أولا يتمتع بالشرعية الإسلامية، بما أن الملكية استخدمت منذ قرون المرجعية الإسلامية. وكما قلت في السابق بما أن الاحتجاج الإسلامي كان هو المؤهل ليكون البديل عن الأنظمة القائمة، فإن العاهل كان في وضعية مريحة. علاوة على هذا، فإن التقاليد البرلمانية والتعددية الحزبية والانخراط في الإصلاحات جعلت الوضع أقل تفجرا. هل من الممكن القول بأن المغرب في منأى عن الاحتجاجات على المدى المتوسط؟ بالنظر إلى المعطيات الاجتماعية والدمغرافية والاقتصادية، فإن من شأن استمرار الربيع العربي في البلدان الأخرى، خلق شروط استئناف الحركات الاجتماعية داخل المملكة الشريفية. { يبدو أن الثورات العربية لم تغير أي شيء في أوضاع الفلسطينيين. هل هذا صحيح؟ هذه الأنظمة العربية الجديدة التي لم تستطع تغيير الشئ الكثير في الاقتصاد وفي الوضعية الاجتماعية لبلدانها لا يمكنها إلا أن تستعمل القضايا الدولية وخاصة منها القضية الفلسطينية لصرف الأنظار عن الأوضاع الداخلية ولتسجيل الاختلاف وترضية شعوبها. وعلى عكس الرأي السائد، لا أعتقد بأن الربيع العربي قد همش المسألة الفلسطينية. فتكفي الملاحظة والإنصات للمظاهرات الكبرى، التي جرت وما تزال، في كل من تونس ومصر وغيرهما، كي نقتنع بأن المشكل الفلسطيني يجسد بوضوح هذا الشعور بالمهانة الذي قاد الأحداث الجارية في العالم العربي منذ عامين. فالحكومات الجديدة التي جاءت في أعقاب هذه الثورة، خاصة في تونس ومصر، قد غيرت سياستها حيال إسرائيل، حيث رأينا وزير الخارجية التونسي يعرب بوضوح، خلال العملية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، عن مساندته للغزاويين باسم الثورة التي جرت في بلاده. كما أن مرسي كان له موقف مخالف جدا عن الموقف الذي عودنا عليه الرئيس السابق. ينبغي الانتباه إلى أن هذين النظامين اللذين لم يستطيعا الشئ الكثير في الاقتصاد وفي الوضعية الاجتماعية لبلديهما لا يمكنهما إلا أن يستعملا القضايا الدولية وخاصة منها القضية الفلسطينية لصرف الأنظار عن الأوضاع الداخلية ولتسجيل الاختلاف وترضية شعبيهما. من المحقق أن السياق قد تغير بشكل عميق أصبحت معه المعادلة الإسرائيلية أكثر تعقيدا: فتل أبيب لا يمكنها أن تعتمد إلا على سلبية المجتمع الدولي كي تحافظ على وضع أصبح من الصعب الدفاع عنه. { هل ما يزال للمقربين من بن علي وزن سياسي في تونس؟ لا ينبغي الاستهانة بقدرة الأنظمة السلطوية التي أُطيح بها، على التشكل من جديد ومواصلة الحنين للماضي الذي يجسدونه. وذلك لسببين: من جهة لأن هذه الأنظمة قد تكونت بفضل شبكة تنغرس عميقا في المجتمع وهي متبقية رغم فقدانها لرأسها، ومن جهة ثانية ففي كل الأزمنة وفي كل الأمكنة،يكون للابتعاد القسري عن السياسة بعض الفضائل، حيث يفضل الأفراد الاهتمام بمشاغلهم الحياتية اليومية الأساسية التي تحرمهم منها أوضاع الاحتقان المستمر. لذلك فإن أي اضطراب جديد في تونس لن يستفيد منه الإسلاميون، لأنهم في السلطة لكنه في المقابل بإمكانه شحذ استراتيجيات الجيش أو الشرطة وهو ما نسميه في التاريخ بالبونابارتية. . . { هل يقود انهيار عائلة الأسد إيران إلى أن تصبح أكثر مسالمة على الجبهة النووية أو من شأن هذا الانهيار أن يقود طهران إلى تشدد أكبر؟ لا أعتقد بأن بإمكان المسألة السورية أن تغير بعمق الاستراتيجية الدولية لإيران وخاصة فيما يتعلق بالمسألة النووية. فالموضوع النووي يعد موضوعا مركزيا وقديما بالنسبة لإيران كي يتحول إلى رهينة للظروف والتطورات كيفما كانت. بل أقول على العكس بأن التحدي الذي أطلقته إيران سيكون أخطر كلما شعرت إيران بالضعف. فكلما ازدادت عزلة إيران كلما لعبت بهذه الوسيلة، وهذا بالضبط ما لم تتمكن القوى الغربية من فهمه لحد الآن. { هل بإمكان الدول الغربية التعامل بشكل مختلف مع الأزمة السورية؟ في الواقع لا. فالكل يشير إلى أن القوى الكبرى قد فهمت مبكرا جدا أنه ليس بإمكانها التدخل في سوريا كما فعلوا في ليبيا. بل عرفوا كيف يستعملون التهديد بالفيتو الروسي والصيني كمبرر لسلبيتهم في حين أن هذه السلبية سببها الحقيقي هو الاستحالة الاستراتيجية والتكتيكية والسياسية. إضافة إلى الأخطاء المرتكبة في تطبيق القرار 1973 حول ليبيا، مما ضيق من هامش المناورة لدى هذه البلدان الغربية. لكننا نلاحظ، بشكل مأساوي، أن التدخل الدولي، ولو بحسن نية، لا يمكنه أن يقوم بكل شيء أمام أوضاع مأساوية مثل هاته. وإذا ما تفاقمت الأوضاع على الساحة (باستعمال الأسلحة الكيماوية بشكل كثيف مثلا) وفرضت تدخلا دوليا أخيرا، فلا يمكننا اليوم تصور العواقب التي يمكن أن تنتج عنه. . . الموقع الإلكتروني لمجلة "ليكسبريس" الفرنسية