المكان: جامعة السوربون، باريس 3 الزمان: نهاية الثمانينيات الحدث: الدخول الجامعي هناك في الطابق الرابع من الكلية، قرب شعبة الأدب العربي والفكر الإسلامي، تجمع حشد كبير من الطلبة لمعرفة الجدول الزمني، والتعرف على الأساتذة الذين يقومون بالتدريس خلال السنة الجامعية.لا حديث اليوم إلا عن أستاذ جديد يحمل اسما متميزا بجانب أساتذة من طراز محمد أركون، وجمال الدين بن الشيخ، ومدام الشابي، والشيخ موسى، وجاك كولان، وجورج دويي والحجازي، وفوركاد وخالدة سعيد وماكالي مورسي وآخرين من كبار الأساتذة المثقفين والمفكرين. كليطو، هو أستاذ الترجمة من الفرنسية إلى العربية بالنسبة للسنة الثانية، وأستاذ الأدب «القديم» مع طلبة السنة الثالثة. خجولا يطل علينا شاب جديد .. منذ الدروس الأولى، بدأ الحديث يتكاثر عن الرجل. إنه مفاجأة العام بامتياز. في البداية، كان عدد الطلبة لا يتجاوز العشرة في الحصتين معا. وبدأ العدد يتكاثر من أسبوع لآخر، وبعد ثلاثة أشهر تقريبا، كان لابد للشعبة أن تطلب من الإدارة مدرجا بإمكانه احتواء هذه الأعداد الغفيرة، خاصة في درس الأدب القديم. وهذا ما كان.استقر الأستاذ كليطو في هذا الفضاء الشاسع يوم الأربعاء صباحا، ودائما أمام قاعة مملوءة عن آخرها. فرنسيون وعرب من جميع الأقطار، بمستويات متفاوتة، يستيقظون باكرا ليكونوا في الموعد المعلوم. الكل يستمع لمداخلات الأستاذ في صمت جليل ونبيل، والكل يريد طرح سؤال أو تساؤل في آخر المطاف. الأستاذ يستعمل لغة فرنسية أخاذة بالمسامع ليفهم الجميع، وبين الفينة والأخرى، يشعل سيجارة دون أن يثير هذا أي انزعاج. منهجية في التحليل.. حداثة في الرؤية.. عمق وتعمق في التساؤلات.. لا حديث عن »الشكل والمضمون«، ولا حديث عن حياة المؤلف أو ظروف النص.ولايهمنا إن حج الهمذاني أم لم يحج .ينبغي تكليم النص من داخل النص. ويجب التفكير في التناص.ومن المفروض قراءة كتاب»البنيات الانتروبولوجية للمتخيل» لجلبير دورون .كل الأسئلة مشروعة انطلاقا من بنية النص، ولا شيء يدفعنا لمغادرة النص. أبو العلاء المعري، ومقامات الحريري والهمذاني، وألف ليلة وليلة،وكيف كتبت الليالي بالابرة داخل العين، ، والجاحظ وما جحظ. هذه كلها عوالم أقحمنا إليها الأستاذ النبيل، النبيه.. الأستاذ الذي لا بد منه. أحببنا النصوص من خلال طريقة تناوله، بل أحببنا عينيه الثاقبتين اللتين علمتانا طريقة قراءة النصوص من هذه الزاوية وتلك. في مكتبة الشعبة، حيث توجد أمهات الكتب، يمكنك أيضا أن تستعين برسائل الدكتوراه التي أنجزها أصحابها في سنوات خلت، ولن أبالغ، بل صراحة أقول إن أطروحة الأستاذ العزيز عبد الفتاح حول المقامات تحت اشراف محمد أركون هي الأكثر طلبا والأكثر تداولا إلى أن هرمت أوراقها من كثرة الاستعمال، وهل يكذب الغائب الشاهد؟ ذات يوم، نزل الأستاذ محاضرا في قاعة »الكوليج دوفرانس« الشهيرة بباريس حول »ألف ليلة وليلة»« بجانب رجل الاختصاص »أندري ميكيل، ونزل أستاذ جامعي من اللوغسمبورغ عبر طائرة لحضور مداخلة الأستاذ الجليل، الذي سبق أن سمع عنه الكثير،وعبر لنا في النهاية بأنه من أحسن الدروس التي تلقنها في مشواره كأستاذ للأدب الفرنسي، وألح على انتظار كليطو للتعرف عليه، فهو على حد تعبيره أستاذ من الدرجة الكبرى. طلبة كليطو اليوم، منهم من تبوأ مقعد أستاذ داخل جامعة من الجامعات العربية، ومنهم من ألف كتبا في الأدب والنقد الأدبي، بل منهم من يقدم برنامجا أدبيا على شاشة بلده، وهلم نجاحا.. وحين نلتقي في معرض ما أو لقاء ما، فلابد من الحديث عن أستاذنا الكبير الذي علمنا الكثير، وحين فكرت -و حسنا فعلت-وزارة الثقافة الفرنسية، في الاحتفاء بالرجل ذات عام، داخل الأكاديمية الفرنسية، كان الحضور متنوعا، والتصفيقات حارة. ووقف الجميع هيبة وامتنانا لهذا الرجل الاستثنائي. وهناك سأل أحد الكتاب الفرنسيين عن معنى اسم كيليطو في اللسان العربي، فلم نتوفر على جواب له.وفاجأنا قائلا: أما جوابي أنا ، فالرجل بالفعل Qui lit tot