1. بَيْن الكُلّيّ والجُزئيّ ثمَّة خَصيصَة لافِتَة في الفِعْل القِرَائيِّ لِلكاتِب عبد الفتاح كيليطو. يُجَسِّدُها، على نحْوٍ مَرْكزيّ، مُنطَلقُ هذا الفِعْل، الذي غالِباً ما يَنبَثِقُ مِنَ التّنبُّهِ إلى شَذرَةٍ مَنسيَّةٍ في كِتاب، أو عِبارَةٍ مُهْمَلةٍ في حِكايَة، أو تَشبيهٍ عابرٍ في دِراسَةٍ نقدِيَّة، أو اسْمِ عَلَمٍ في نَصٍّ أدَبيّ، أو حَرْفٍ اسْتَعْصَى النُّطْقُ بهِ على خَطيبٍ أو أديب، أو فاصِلةٍ نافِرَةٍ تَمَنَّعَتْ قبْلَ أنْ تُشَعِّبَ قَلقَ العُثور على مَوْقِعِها المُناسِب في التّرْكيب اللغويّ. في حالاتٍ عَديدَةٍ، يكونُ هذا التَّنَبُّهُ البدايَة الفِعْليَّة لِلقِراءَةِ والحِكاية، في مُنْجَز كيليطو. ذلك أنَّ الحُدُودَ بَيْنَ المُمارَسَتَيْن تَمَّحِي عِندَه. اِمِّحَاءٌ دالٌّ على البَيْنِيَّةِ التي لا تَنْفَكُّ تُعَدِّدُ مَواقِعَهَا في كِتابَةِ هذا الأديب. فكيليطو يَقرَأ بالسَّرْد، أي بالإمْتاعِ الحِكائيّ، ويَسْرُدُ بآلياتٍ قِرائِيّة، بلْ إنَّ رَفْعَ الحُدُودِ المُكَرَّسَة بَيْنَ المقال النَّقديّ والسَّرْد يُعَدُّ أحَدَ رهاناتِ الفِعْل الكتابيّ عِندَه. الانطِلاقُ مِنَ الجُزْئيِّ هو عَتَبَة كلِّ قِراءَةٍ يُنجزُها كيليطو. لكنّ مَسارَ القِراءَة يَنْهَضُ، أساساً، على اسْتِدْرَاج الجُزْئيّ، بنَبَاهَةٍ لافِتةٍ، لِيَنْفَصِلَ عَنْ نفسِهِ ويَكفَّ عَنْ أنْ يَكونَ جُزئِيّاً. يَتَفكَّكُ الجُزئيُّ بالقِراءَة، وفيها يَبوحُ ، أيضاً، بالقصايا الكُبْرَى التي يُضْمِرُها أو يَسْتنبِتُها التّأويلُ في الجُزئيّ. هكذا يَبُوحُ التفصيلُ الصَّغيرُ، مِنْ جهة، بالكُلّيّاتِ التي لا تُرَى، ويَكشِفُ، مِنْ جهةٍ أخْرَى، عَن الغرابة النائِمة في ألفةٍ حاجبَة. فمِنْ مَهامِّ القراءَة، وَفقَ ما تُرْسيهِ كتابة كيليطو، اسْتِجلاءُ الكُلّيّات المَحْجوبَة، وإيقاظُ الغرابَة، وتَمْكينُ الليْل مِن امْتِدادٍ مُضيء، كيْ يَظَلَّ الحَكيُ مُشْرَعاً على الحُلم. الوَشيجَة التي تَجْمَعُ السَّرْدَ بالليْل تُهَيِّئُ لِلأوَّل أنْ يَتَماهَى مَعَ الحُلم. كيْفَ يُنجزُ كيليطو هذِهِ المَهَمَّة القِرائيَّة الشَّاقة؟ يَسْتعْصي حَصْرُ السُّبُل التي أمَّنَ بها كيليطو تَحَقّقَ هذِهِ المَهَمَّة. وهو ما يَقتَضي قصْرَ الجَواب على واحِدٍ مِنْها. نقصِدُ، بوَجْهٍ خاصّ، حِرْصَ هذا الأديب على اجْتِذاب تَفصيلٍ مّا نحْوَ الليْل لِيُصْبحَ مَوْضوعَ حُلْم، مِنْ غيْر أنْ يَتَخلَّى هذا الاجْتِذابُ عن منطقةِ الأدَب، بما هي منطقة تفكيكٍ خاصّ يَختَلِفُ عنْ تفكيكِ المُفكّرين. لا يتَوَجَّهُ الأوَّلُ، خِلافاً للثاني، إلى المَفهُومات لِهَدْمِها وتقويضِها على نحْو مُباشِر، بلْ يُحَوِّلها إلى شُخُوصٍ ومَواقِفَ سَرْدِيَّة. وفي هذا التّحْويل، يُخضِعُها لِمِطرقةٍ لا تَتَخَلّى، في ما تَهْدِمُهُ، عن الإمْتاع والإدْهاش والسُّخرية والهَزْل، عبْر سَرْدٍ تَتَلاشَى الحُدُودُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّأويل. 2. الحُلمُ بانياً لِليْلِ اللغة الخَلخَلة، التي يَنهَضُ بها السبيلُ القِرائيُّ المومَأ إليه، تَسْتَنِدُ، مِنْ بَيْن ما تَسْتَنِدُ إليْه، إلى اجْتِذاب عِبارَةٍ، مَثلاً، لِتُصْبحَ مَوْضوعَ حُلْمٍ أو مَوْضوعَ تأويلٍ؛ سيان. ذلك أنَّ التَّداخُلَ بيْنَ الحُلمِ والتّأويل أصيلٌ في كتابةِ كيليطو. ألمْ يُصَرِّحْ هذا الأديبُ، لمّا انتَبَهَ إلى عُمْقِ العِبارَة التي بها صَوَّر أبو الحكم عمرو بن السّرّاج تَرْحيلَ جُثةِ ابن رُشد مِنْ مراكش إلى قرطبة، بأنَّ هذِهِ العِبارَة مَفتوحَة على حُلْمٍ لانِهائيّ؟ وهذا ما تَبَدَّى مِنَ التأويل المُدْهِش الذي نَسَجَهُ عنْها وهُو يَعْبُرُ بها نَحْو ليْل المَعْنى. وقد سَبَقَ لكيليطو، في السياق ذاتِه، أنْ تَحَدَّثَ أيضاً عن الحُلم الذي فيهِ يُسائلُ الأحياءُ الأمْواتَ عنْ كتُبهِم بدُون وَسيط. حُلمٌ تَوَلَّدَ مِنهُ، كما لاحظَ هو نفسُهُ، نوعٌ أدبيٌّ بأكمَلِه، إنَّهُ النّوْعُ الذي يُجَسِّدُهُ «الحِوار مع المَوْتَى»، الذي إليه تَنْتَسِبُ، مَثلاً، رسالة الغفران. كلَّما سَمعَ كيليطو، في عِبارَةٍ قديمة، نِداءً خَفِيّاً إلاّ وبَدَتْ لهُ خَليقة بأنْ تَعْبُرَ نَحْوَ الليْل، لِيَتَسَنّى لها أنْ تَسْعَدَ بهِبَاتِ الحُلم. بهذا العُبُور يُحَرِّرُها كيليطو مِنْ حُجُب النَّهار ويُلبسُها عَتمَة الليْل المُضيئة، على النّحْو الذي يُمَكِّنُها مِنَ الابتِعادِ عن المعاني الظاهِرَة، أي المعاني النَّهاريّة. قيودُ النَّهار تجْعَلُ اللانِهائِي نِهائياً، تُدْخِلُهُ إلى الألفة وتحْجُبُ غرابَتَه، تِلكَ الغَرابَة التي يتكفّلُ ليْلُ التأويلِ باسْتِعادَتِها. فالقِراءَةُ، التي يُنجِزُها الأدَبُ عند كيليطو، ليْليَّة، فيها يَتشابَكُ الفِكرُ والإمتاعُ والخيالُ في إنتاج المعاني الخَفِيَّة والسِّرِّيَّة. اِسْتِدْراجُ خِطاب القدَماء نَحْوَ الليْل إنجازٌ أدَبيٌّ وفِكريٌّ شاقٌّ. اسْتِدراجٌ يَقتَرنُ بشَغفٍ مَكينٍ لدَى كيليطو وبنزُوعٍ أصيلٍ عندَه. أليْسَ كيليطو، بصُورةٍ مّا، سَليلَ كتابِ الليالي؟ ألا يبْدُو هذا الأديبُ شَبيهاً بشَخصيّةٍ تُطِلّ مِنْ ليْل الحَكي؟ أليْسَ عَمَلهُ الأخير، المَوْسُوم «أنبئوني بالرّؤيا»، تَمْديداً لِلّيالي وتمديداً للحُلم؟ وبعيداً عن كتاب الليالي، ألا يَرْجعُ انْجذابُ كيليطو بمقاماتِ الحريري إلى وَشِيجَةٍ ليْليّة؟ فأبو زيد السّروجي؛ بطل مقاماتِ الحريري، لا يقومُ في كلِّ الحكاياتِ التي يُنتِجُها إلاّ ببناءِ الليْل، أي بنَسْج علاقةٍ بيْن الظاهر والباطن. ثمّ إنّ الدّالّ الذي بهِ انْبَنى اسمُ هذِهِ الشَّخصية يُحيلُ، مَتَى عَبَرْنا بالإحالة مِنْ بَلدةِ سروج نَحْوَ ما هو أبْعَد، إلى السِّرَاج الذي يَتَوَقفُ وُجودُهُ على الليْل. فلا سِراجَ بدُون ليْل. إنَّ أسُسَ هذا الشّغَفِ ببناءِ الليْل، في مُنجَز كيليطو، مَشْدُودَةٌ إلى تَصَوُّرهِ للقِراءْة. القراءةُ عنده عُثورٌ على المتاهات وبناءٌ لها. ولابُدَّ في كلِّ متاهَةٍ مِنْ ليْل. من تمّ يَتكشَّفُ عُمْقُ أنْ يَأخُذ الحَكيُ، في هذا المُنَجَز، مَعْنَى التأويل. حَكيٌ يَبْني متاهاتٍ بالتأويل وفيه. ولعَلَّ هذا ما يُضيءُ المسافة التي فتَحَها كيليطو مع كتاب ألف ليلة وليلة، ويُقرِّبُ من المَوْقع الذي أعتَمَدَهُ في قراءَةِ تناسُلِ حِكايات الليالي. تناسُلٌ يَجعلُ كتابَ الليالي كتُباً، أي متاهة بلا حدّ. اِجْتِذابُ عِبارَةٍ نحْوَ الليْلِ يُحَوِّلها إلى حُلم، بما يَتطلَّبُهُ هذا التّحويلُ، في الحَكي، من فِكرٍ وتَأويل. يُوَلِّدُ هذا الاجْتِذابُ سُؤاليْن؛ هُما: كيْفَ يَبْني كيليطو ليْلَ المَعْنَى وهو يُحَوِّلُ عِبارَةً قديمة إلى حُلم أو مَتاهة؟ ما التّوَجُّهُ الذي يَخُطُّهُ هذا البناءُ لِقُرَّاءِ كيليطو؟ مَسَالِكُ كلِّ سُؤالٍ تَحْتاجُ إلى تَأمُّلٍ مُسْتَقِلّ. نَكتَفِي بالإنْصاتِ للسُّؤال الثاني ولِمَا يَتَرَتَّبُ عنه. ذلكَ أنَّ السُّؤالَ الأوّل يَقْتَضِي، بحُكم تَشَعُّبِ مَنافِذِهِ، دِرَاسَة مُسْتَقِلة، بلْ أكثر مِنْ دراسة. عِندما يكونُ القارئُ أمام حُلمٍ أدَبيّ، يُصْبحُ مُلزَماً بعُبُوره، أي تَأويلهِ، وإلاّ سَقطَتْ عنهُ صِفة القارئ. فالحُلمُ الأدَبيُّ نَسِيجٌ فنّيٌّ بخَلفيّةٍ فِكريَّة، وهو، مِنْ ثمّ، يَقْتَضي التّعْبير. يُمْكِنُ أنْ نُمَثلَ لهذا الافتِراض بعِبارَةٍ ليْليَّةٍ بَنَى عليْها كيليطو الحِكاية في نَصٍّ مُلتَبسِ الهُويَّةِ الأجْناسِيّة، نقصِدُ النّصَّ المَوْسُومَ: «من شُرفة ابن رُشد». فقدْ كتِبَ النصُّ بالفرنسيّة وظهَرَ، في هذِهِ اللغة، مُتَجاوِراً مَعَ قِصَصٍ ورواية، ولكنْ ما إنْ قامَ عبد الكبير الشرقاوي بتَرْجَمَتِهِ إلى العربيّة، حَتّى انتَقلَ إلى مُجاوَرَةِ مقالاتٍ نقديّة، مِمّا كشَفَ قابليَّة هذا النّصّ للالتِفاتِ جِهَة السَّرْد وجِهَة النّقد. 3. الحُلمُ بلغتيْن يَبْدَأ نَصُّ «من شرفة ابن رشد» على النّحْو الآتي: «ذاتَ صَباحٍ، اسْتيْقظتُ على لازمَةٍ تَتَرَدَّدُ في رَأسي. ليْسَت بالضّبْط مُوسيقى كما يَحْدُثُ أحْياناً، بل جُمْلة أو شَذرَة مِن جُملة (...) هي جُزءٌ مِنْ حُلم». وبَعْدَ تَشْويقٍ ماكِر، يُصَرِّحُ السّاردُ بالجُمْلة التي تَخلَّقت مِنَ الليْل،أي يُصَرّحُ بحُلمِهِ قائلاً: «ككُلِّ شَطَط، فتَمْديدُ التَّشويقِ شَيْءٌ مَقيت. آنَ الأوان لأعْرضَ جُمْلتي حتّى لا أفقِدَ القليلَ الذي تَبَقّى لكُم مِنَ التَّعاطُفِ مَعي... جُمْلتي! لسْتُ صاحِبَها، ليْسَ تَمَاماً كما سَتَرَوْن، صَحيحٌ أنَّها قِيلتْ في حُلمي لكنَّ صاحِبَها كاتِبٌ عَربيّ. ها هي: « لغتُنا الأعْجَمِيَّة»». سيَتَكفّلُ نصّ «من شرفة ابن رشد» بسَرْدِ حِكايَة هذه العِبارَة الغريبة. عِبارَةٌ تَحَصَّلتْ لِصاحِبها (مَنْ هو صاحِبُها؟) في حُلم. عِبارَةٌ وَجيزَةٌ، غيْرَ أنَّها بُنِيَتْ على صُورَةِ متاهَة، لِما تَنْطَوي عليْه فِكريّاً، من جهة، ولِلمَجْهُول الذي إليهِ تَقودُ، من جهةٍ أخرَى، لا سيما أنَّها ملفوفة في غُمُوضِ الحُلم. عَدُّ العِبارَة مَتاهَة يَتَجاوَبُ مَعَ نَسَبها الليْليّ وانبثاقِها مِنَ الحُلم. وهو ما يُوَرِّطُ القارئَ في عُبورها، ما دامَتِ الأحلامُ لا تَكتَسي قيمَتَها إلاّ في التأويل، الذي يَعودُ نَسَبُهُ البَعِيدُ إلى مَنَاطِقَ غَيْبيَّةٍ لا تُرَى، قبْلَ أنْ يُرْسِيَ عِلمَهُ. فقد خُصَّ بهذا التأويل بَعْضُ الأنبياء والأولياء، وَتَكفّلت بهِ كتُبُ تَعْبير الأحْلام قبْلَ أنْ يُؤسِّسَ علمُ النّفس مع سيغموند فرويد مَنَاطِقََ جَديدَةً لِلمَوْضُوع. تُوَرِّطُ حكاية «من شرفة ابن رشد» القارئَ في بناءِ المَعنى، لأنّها تُدْخِلهُ، من جهَةٍ، إلى الليْل، وتَجْعَلُ القِراءَةَ، من جهةٍ أخرَى، تَتَماهَى، مِنْ حيْثُ المفهوم، بالتّأويل. تُلزمُ الحكاية مَنْ يَقتربُ منها بأنْ يُنْبئَ بالرُّؤيا، وإلاّ جَرَّدَتْهُ مِنْ نَسَبهِ إلى القِراءَة. ليْسَ الحُلمُ الحكائيّ هو، فقط، ما يُلزمُ بالعبُور، بل أيْضاً نُهوضه لا على حَدَثٍ، بل على قوْل، أو بدِقّةٍ أكثر على عِبارَة تَدْعُو، انْسِجاماً مَعَ دالِّها، إلى العُبور. فكلُّ عِبارَةٍ تَتطلّبُ عُبُوراً، أمّا إذا كانتْ مُتَحَصِّلة من الليْل فإنَّ حقيقتَها تظلُّ رَهينَة هذا العُبور. يَعْرفُ المُصاحِبُ لأعْمال كيليطو أنَّ السَّاردَ في العديدِ مِنْها يَحْمِلُ مَلامِحَ الكاتب، وانشِغالَهُ، وقلقهُ، وشَغَفَهُ المَكين بالقراءَة، وحُلمَهُ الدّائِمَ بلغتيْن. حُلمٌ مُكلِّفٌ، لأنّهُ جَعَلَ كيليطو، الذي يُطِلُّ ظِلُّهُ دَوْماً مِنْ وَرَاءِ السَّاردِ في هذه الأعْمال، تائِهاً بيْن لغتيْن، بالمَعْنَى الفلسَفي البَعيد لِلتّيه، الذي يَتفرَّدُ بهِ أهْلُه. هذِهِ المعرفة، التي يُضْمِرُها مُصاحِبُ أعْمَالِ كيليطو، تُسَوِّغ لهُ تأويلَ الحُلم في الحكاية باسْتِحْضار الكاتب، على نحْوٍ تَتَلاشَى فِيهِ الحُدُودُ بيْنَ الكاتِب والسَّارد. هذا التداخُل بيْنَهُما مُنطَلَقٌ رَئِيسٌ في بلوَرَةِ تأويلٍ لِحُلم كيليطو بلغتيْن. حلمٌ مُتجَذرٌ في وجْدانِهِ وكيانِهِ قبْلَ أنْ يَتسَلَّلَ إلى ليْلِ الحِكاية عبْرَ عِبَارَةٍ غريبة؛ عبارة: «لغتنا الأعجميّة». لا يَسْتَحْضِرُ الحُلمُ حَدثاً، بلْ لغة، وهو ما يَجْعلهُ مُضَاعَفاً مِنْ زاويتيْن؛ مُضاعَفة أولى، يَْبنيها حُلمٌ يتقدَّمُ للقارئ لا عبْر حَدَثٍ وإنّما انطلاقاً مِنْ عِبَارَةٍ تقتضي عُبُوراً نحْو إحالةٍ أولى قبْل عُبُورٍ ثانٍ إلى دلالةِ هذِهِ الإحالة. أمّا المُضَاعَفة الثانية فثاوية في التَّرْكيبِ الذي بهِ صِيغَتِ العِبَارَة الجَامِعَة بَيْنَ الإثباتِ والنَّفْي. جاءَ في كتاب «تعطير الأنام في تعبير المنام» لعبد الغني النابُلسي أنَّ اللِّسانَ «في المَنَامِ تُرْجُمانُ صاحِبهِ ومُدَبِّرُ أمُورهِ». وإذا عَلِمْنا أنَّ «المُفسِّرَ»، في اللغة العربيّة، مِنْ مَعَاني التُّرْجُمَان، جَازَ، بَعْدَ فهْمِ اللِّسَان بمَعْنى اللغة لا الجَارحَة، أنْ نتَساءَل: ألا يُفسِّرُ الحُلمُ، الذي رآهُ كيليطو أو صَنَعَهُ، ما هو دفينٌ في شَخْصيةِ الكاتب لا السَّارد؟ أليْسَ الحُلمُ بعِبًارََةِ «لغتنا الأعجميَّة» تكثيفاً دالاًّ لِما شَغلَ كيليطو منذ شُروعِه في الكتابة لمَّا وَجَدَ نفسَهُ مُقيماً، أو بتَعْبيرٍ أدقّ، تائِهاً بين لغتيْن، ومُضْطَرّاً لإدارَةِ الصِّرَاع بيْنهُما؟ ما مَعْنَى أنْ يَحْلُمَ كيليطو باللغة؟ لِنلاحظ أنَّ هذا السُّؤالَ لمْ يَسْلمْ هو أيْضاً مِنْ عَدْوَى المَتاهة. ذلك أنَّ عِبارَةَ «الحُلم باللغة» لا تَخلو من التِباس، إذ تَحْتَمِلُ، على الأقلّ، مَعْنَيَيْن. فالحُلمُ بالشَّيْءِ يَعْني رُؤيَتَهُ في المَنَام، ويَعْني أيْضاً الرَّغبَة في امْتِلاكِه. والمَعْنَى الثاني ضالِعُ الحُضُور في الحِكايَة وفي المَسَار الكِتَابيِّ لكيليطو بوَجْهٍ عامّ. يُمْكِنُ الإلماحُ، على نَحْوٍ سَريع، إلى هذا الحُضُور انْطِلاقاً مِنْ علاقةِ اللغة بالمَسْكَن في الحُلْم. فقد أقامَ السَّاردُ، حسب حِكايَةِ الحُلم، في مَسْكنٍ مُكْتَرَى، وشَدَّدَ على أنَّهُ لا يَعْرفُ مالِكهُ، مِمّا يُذكّرُ في العِبارَةِ التي لمْ يَكُنْ يَعْرفُ كذلك صَاحِبَهَا. وهو ما يَتَرَتَّبُ عنهُ القول، ونحنُ نُفكِّرُ في اللغة، إنَّنا نَسْكنُ بَيْتاً ليْسَ لنا، مِمّا يَقودُ إلى أمْرٍ آخَرَ شَديدِ الالتِباس؛ نَصوغهُ عبْرَ السُّؤال التالي: أليْسَت الإقامة في ما ليْسَ لنا إقامَة في الغرْبَة؟ سُؤالٌ يَسْتَحْضِرُ، تَوّاً، إعْجابَ كيليطو، في أحَدِ كُتُبه، بعبارَةِ «نَحْنُ ضُيوفُ اللغة»، إلى حَدِّ رَغبَتِهِ في أنْ يكونَ صاحِبَ العِبارَة. لِنَنْتَبه، مَرَّةً أخرى، إلى سُؤالِ الملكيّة في هذِهِ الرَّغبة. وفي السياق ذاتِه، فإنَّ حكاية «من شرفة ابن رشد» لا تَسْرُدُ تفاصيلَ حُلمٍ وحَسْب، بل تَتَوَغَّلُ بإشْكالِ الملكيَّة إلى أقصَى احْتِمالاتِهِ، مُسْتثمِرَة إشارَةً عَمِيقة لِدِريدا تنُصُّ على أنَّ امْتلاكَ لغةٍ وَحيدَة مُجَرَّدُ حُلم. «لا نتكلَّمُ أبَداً إلاّ لغة وَحِيدَة»، يقولُ دريدا، قبْلَ أنْ يُضيف: «لا نتكلَّمُ أبَداً لغة وَحيدَة». إضافة تَكشِفُ عَنْ تَعَقّدِ الإشْكال. إذا كانَتْ هذِهِ حالُ مَنْ يَحْلُمُ بلغةٍ وَحِيدَة، فكيْفَ سَتَكونُ حالُ مَنْ يَحْلُمُ بلغتَيْن؟ لقدْ تقدَّمَتِ الإشارَة إلى أنَّ المُصاحِبَ لأعْمال كيليطو يَلمِسُ، في نُصُوصٍ عَدِيدَةٍ، أنَّ الحُلمَ بلغتيْن يُعَدُّ هاجساً مُتَحَكِّماً في المَسَار الكِتابيّ والقِرائيّ لِهذا الأديب. ولرُبَّما يَعُودُ أوَّلُ إفصاحٍ (لا نَنْسَى أنَّنا نَسْتَدْرجُ كيليطو للإفصاح، مُتَوَسِّلين بحُلمِه) عَنْ هذا الهاجس إلى مُؤَلَّفِ «الكتابة والتناسُخ» لمَّا تَساءَلَ كيليطو: «هلْ يُمْكِنُ لِمُؤَلِّفٍ أنْ يَنْبُغَ في لغتَيْن؟». وهو ما عادَ إليهِ بتَفْصِيلٍ في مقال «التّرجُمان» المَنْشور في كتاب «لنْ تَتَكلَّمَ لغتي»، إذ افتَتَحَ المقال بالسُّؤالِ ذاتِه. ولنْ يَكفَّ هذا السُّؤالُ / الحُلمُ عَنِ الحُضُور في كلِّ كتاباتِ كيليطو، مَرَّةً بصَمْت وأخرَى بوُضُوح. الانشِغالُ القلِق بهذا السُّؤال هو ما يُفسِّرُ تَسَلُّلَهُ إلى ليْل كيليطو وتَحَوُّلَهُ إلى حُلم. فالمَرْءُ لا يَحْلُمُ إلاّ بما يَشْغلُهُ، وبما يُشكّلُ رَغباتِه. والحُلمُ بلغتيْن يَسْكُنُ وجدانَ هذا الأديب ولا وَعْيه. ذلك ما تَحقّقَ لهُ بهذِهِ العِبَارَة الليْليَّة، حسَب وَسْمِ الحِكايَةِ لها. عِبَارَةُ «لغتنا الأعْجَمِيَّة» لا تُحيلُ بصَوْغِها المُلتَبس على لغةٍ وَحِيدَة، بل على صِرَاعِ لغتَيْن وعلى هُويَّةٍ تَتَحَدَّدُ بالغَريب فيها. لِنَعُدْ مرَّةً أخرَى إلى عبد الغني النابلسي قصْدَ الإنْصاتِ لِما يُفسِّرُ به الحُلمَ بلِسانَيْن قبلَ أنْ نسْتثمِرَ هذا التّفسيرَ في تأويلِ حُلمِ حِكاية «من شرفة ابن رُشد». يقولُ النابلسي: «مَنْ رَأى أنَّ لهُ لِسَانيْن فإنَّهُ يُرْزَقُ عِلْماً غيْرَ عِلْمِهِ وَحُجَّة غيْرَ حُجَّتِهِ وَقُوَّةً وظَفَراً على أعْدَائِهِ». يَسْهُلُ رَبْطُ العِلم الغيْريّ، في تفسير النابلسي، بمَفهومِ الغريب في كتابَةِ كيليطو وقِرَاءَتِه. هذا أمْرٌ بَيِّنٌ مِن انتِزاعِهِ لِنُصُوصِ الثقافة العَرَبيَّة القديمَة مِنْ مُقامِها الأوّل «المُخْلِقِ لِوَجْهِها»، والانتِقال بها إلى لغةٍ أخرى، بما هِيَ فِكرٌ وتأويلٌ. تفاصيلُ هذا الانتِقال تشهَدُ عليْه كلُّ أعْمَال كيليطو وَهِيَ تَفْصِِلُ القديمَ عَنْ لغتِهِ وتُمَكّنُهُ، اسْتِناداً إلى العِلْمِ الغيْريِّ الذي عليْهِ تقومُ القِراءَةُ، مِنْ أنْ يَنْخَرطَ في زَمَنٍ مَعْرفِيٍّ جَدِيد. بالغَريبِ القادِمِ مِنْ هذا العِلمِ الغيْريِّ، يَتَجَدَّدُ القديمُ ويُمَدِّدُ حَيَويّتَهُ. أمّا عن الظَّفَر على الأعْدَاء، في تفسير النابلسي، فيَصْدُقُ، على نحْوٍ تامّ، على علاقةِ كيليطو بأعْدائِهِ، أي بقُرَّائِه. وعداوَةُ القارئ ليْسَت فكرَةً مُفتَرَضة، بل هي ضالِعَة الحضور في كتُب القدَماء، إذ تَرَدَّدَ عندَهم أنَّ مَنْ وَضَعَ كتاباً صارَ هَدفاً للخُصُوم والألسُن. وقدْ سَبَقَ لكيليطو أنْ خَصَّ هذه العَداوَة بتَأمُّلٍ حديث في كتابهِ «الأدب والارتياب». عِندما يُرْسي الكاتبُ تحاليلَ مُدْهِشة ومُفاجئة ومُجَدِّدة لِحَيَويّتِها، فإنّ قارئهُ يَغْدُو مع كلِّ إصدارٍ مُتطلِّباً، وإلاَّ انْصَرَفَ عَمّا يُنْتِجُهُ المُؤَلِّفُ. بهذا الانصِراف، يُشَيِّعُ القارئُ المُؤلِّفَ إلى مَثواهُ الكتابي، مُعْلِناً مَوْتَهُ حتّى وإنْ أصَرَّ الأخيرُ على الاسْتِمْرار في الكتابة. قدْ يُسْعِفُ هذا الموْتُ، الذي ينتظرُ تحليلاً مُفَصَّلاً، في تَفْسِير لجُوءِ بَعْض الكُتّاب، بعْد مَوْتِهم الكتابيّ، إلى إدْمان الحُضُور الإعْلاميّ الفائِض عن الحاجة، إذ يَغدو هذا الحُضورُ مقصوداً في ذاته. ذلك أنَّ مِنْ وَظائِفِ الإعْلامِ الحديث إحياءُ المَوْتى. الانتِصارُ على القارئ رَهينٌ بمُفاجَأتِه مِنْ حيْثُ لا يَنتظِرُ المُفاجَأة، مُباغتَتِهِ مِن مواقِعَ لمْ يألفْها، وإلاّ انهَزَمَ الكاتبُ أمامَ «عَدُوِّهِ». ألمْ يَهْزم كيليطو قرّاءَهُ بأنْ رَسَّخَ دَوْماً لدَيْهِم أنَّ لهُ سِرّاً أمَّنَ لِتآويلهِ ماءَها؟ لقد انتبَهَ كيليطو، منذ كتابه الأوّل «الأدب والغرابة»، إلى الغَرابة، وراهَنَ على مَسْلكٍ صَعْبٍ يَقومُ على تَفكِيكِ الألفة والكَشْفِ عنِ الغَرَابَةِ المَحْجُوبَةِ فيها وبها. فمَنْ مِنّا يَسْتطيعُ أنْ يَسْتَحْضِرَ اسمَ كيليطو مِنْ غيْر أنْ تَرْتَسِمَ على مُحيّاه ابتِسامة الذهُول والدَّهشة والحيْرة؟ إنّ الظَّفَرَ على القُرّاء هو ما يَصِلُ كيليطو بالمَتَاهَة وبتلكَ النافذة التي ظلّت مُوصَدَة في حكاية «من شُرفة ابن رُشد»، صَوْناً للأسْرار. إنَّ كتابة كيليطو وهي تُجَدِّدُ نَبْعَها بمسؤوليَّةٍ نادِرة، تَخلقُ دَوْماً صَدَاقة القُرّاء، مانِعة عَداوَتَهُم من أنْ تَجدَ سَنَداً لها.